في العام 2018 افتتح ستيف بانون، «منظّر» التيّار اليميني المتطرّف في الولايات المتحدة، مقرّ الجامعة الشعبوية المخصّصة لتأهيل القيادات والكوادر الأوروبية لهذا التيّار في دير قديم من مطالع القرن الثالث عشر على بعد ساعة من العاصمة الإيطالية روما. ومع أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان قد أبعد المنظّر المتطرف عن دائرة مساعديه الضيّقة بعدما كان المخطط الرئيسي لحملته الانتخابية وذراعه اليمنى في الأشهر الأولى من ولايته الرئاسية، قال بانون يومها إن الهدف من تلك الجامعة هو «تقديم الدعم والخبرة لاستراتيجية بعيدة المدى» ترمي إلى نشر «الترمبية» في أوروبا عبر حركة شعبوية دولية تنطلق من بروكسل، حيث مقرّ مؤسسة The Movement التي تدير أنشطتها وتنسّقها. يومذاك، كان بانون محاطاً بالرموز الصاعدة والواعدة لمجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، يتقدّمها زعيم «الرابطة» الإيطالية ماتّيو سالفيني ومؤسسة حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» جيورجيا ميلوني وزعيم حزب «فوكس» Vox الإسباني سانتياغو آباسكال الذي كان قد انشقّ حديثاً عن الحزب الشعبي المحافظ. وحقاً، بعد سنوات على ذلك اللقاء، الذي رعاه التيّار المعارض للبابا فرنسيس داخل الفاتيكان، والتيّار الكاثوليكي اليميني في الكنيسة الأميركية، أصبحت ميلوني أول امرأة ترأس الحكومة الإيطالية في ائتلاف يضمّ سالفيني وحزبه. ودخل اليمين المتطرّف البرلمان الإسباني للمرة الأولى منذ وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو ليغدو القوة السياسية الثالثة في إسبانيا بعد الانتخابات الاشتراعية الأخيرة... التي شهدت أيضاً اختراقه المعاقل القومية في كاتالونيا (قطالونية) وبلاد الباسك المعروفة بكونها عصيّة على الأحزاب اليمينية.
في المهرجان السنوي الذي ينظمّه حزب «إخوان إيطاليا» (الفاشي الجديد) لحركته الشبابية في معقله الرئيس بالعاصمة الإيطالية روما، والذي احتفل مطلع هذا الربيع بتتويج ميلوني اول زعيمة لحزب يميني متطرّف يرأس حكومة دولة كبرى في الاتحاد الأوروبي، كان سانتياغو آباسكال «ضيف الشرف» إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والملياردير الأميركي إيلون ماسك، نصير الشعبوية اليمينية في العالم وصاحب منصة «إكس».
في نهاية ذلك المهرجان ألقى آباسكال الكلمة الختامية، بعدما قدّمه ماسك الذي استحضر تصريحات سابقة لبانون قال فيها إن زعيم «فوكس» سيكون، إلى جانب ميلوني وسالفيني «رأس حربة استعادة أوروبا هويتها القومية وحرّية قرارها السياسي».
بالمناسبة، لم تكن مشاركة آباسكال في ذلك المهرجان موضع ترحيب إجماعي بين مضيفيه الطليان بعد التصريحات التي كان أدلى بها قبل ذلك بأسابيع وتوقّع فيها أن يوماً سيأتي يعلّق فيه الإسبان رئيس حكومتهم الاشتراكي بيدرو سانتشيز من رجليه في الشوارع. لكن اعتراض البعض على مشاركته لم يأتِ من دعوته إلى العنف ضد رئيس منتخب ديمقراطياً، بل لأن تلك التصريحات - التي لا تخرج عن الأسلوب المألوف لدى آباسكال خاصة عندما يتوجّه إلى سانتشيز - أعادت إلى أذهان الفاشيين الطليان الجدد مقتل مؤسس الحركة الفاشية الإيطالية بنيتو موسوليني عام 1945 ثم عرضه على الجماهير معلّقاً من رجليه في أحد ميادين مدينة ميلانو.
آباسكال توعّد في ذلك المهرجان بأن أوروبا بعد الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي «لن تكون كما هي اليوم». وقال: «إن مسار استعادة السيادة أصبح موجاً هادراً لن يقوىَ أحد على الوقوف بوجهه». ثم دعا إلى رصّ الصفوف لتشكيل جبهة واحدة ضد الشيوعيين والاشتراكيين في أوروبا. وبالفعل، جاءت الانتخابات الإقليمية في كاتالونيا وبلاد الباسك لتؤكد توقعات رسوخ صعود «فوكس»، وتنذر بعاصفة يمينية متطرفة قد لا تقلب المعادلات السياسية القائمة حالياً في الاتحاد الأوروبي، لكنها قطعاً ستمهّد لمرحلة جديدة وتوازنات مختلفة لن تكون ركائز المشروع الأوروبي في منأى عن تداعياتها.
النشأة... والمشوار
أبصر آباسكال النور في بلاد الباسك عام 1967، وصادف مولده يوم الاحتفال بإعلان الجمهورية التي اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية للإطاحة بها. ولاحقاً - تخرّج في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة بلباو. وهو أب لأربعة أولاد من زوجته الأولى، أما زوجته الثانية فهي ناشطة علـى وسائل التواصل؛ إذ يزيد عدد متابعيها على ربع مليون. عائلياً أيضاً، كان جدّه رئيس بلدية عن الحزب الشعبي اليميني، الذي صار والده أحد قادته في بلاد الباسك، وانضمّ هو إليه عند بلوغه الثامنة عشرة. وكغيره من أنصار هذا الحزب اليميني المحافظ في إقليم الباسك، عانى من الاضطهاد والتهديد على يد أنصار الأحزاب القومية الانفصالية المؤيدة لمنظمة «ايتا» التي كانت ترى في هذا الحزب امتداداً للنظام الفرنكي الذي قمع الحركة الانفصالية طيلة عقود بيد من حديد، ولاحق قياداتها وزجّ العديد منهم في السجون. وبعد خمس سنوات على انضمام آباسكال إلى الحزب الشعبي انتُخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة آلافا، حيث اضطر إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسه من التهديدات التي كان يتعرّض لها، وما زال إلى اليوم يحمل مسدساً بعدما تخلّى عن حراسه المرافقين.
تلك المرحلة كان لها تأثير عميق في بلورة مسار الرجل السياسي؛ إذ كان يعتبر دائماً أن المحافظين يخشون كثيراً مواجهة التحدي الانفصالي؛ ما دفعه إلى الاستقالة من الحزب الشعبي احتجاجاً على ما وصفه بأنه «ميوعة» من الحكومة التي كان يرأسها ماريانو راخوي تجاه الأحزاب القومية في كاتالونيا وبلاد الباسك. ثم أن تلك السنوات أثّرت أيضاً في صياغة خطابه السياسي القاسي اللهجة حيال الأحزاب والقوى الانفصالية، وخاصة حيال رئيس الوزراء بيدرو سانتشيز الذي يتهمه بخيانة الدستور والتنازل عن المحرّمات الوطنية لهذه القوى من أجل الوصول إلى السلطة والبقاء فيها بأي ثمن.
تأسيس «فوكس»
عندما أسّس آباسكال حزبه عام 2014، كان يواظب على حضور مهرجانات زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان، التي كان يعتبرها المرآة التي يجب أن تنعكس فيها السياسة الأوروبية الجديدة. يومها كانت شعبية «فوكس» لا تتعدّى 2 في المائة في أفضل التقديرات، إلا أن الحركة الانفصالية الكاتالونية التي اندلعت عام 2017 وفّرت له منصة الانطلاق السريع الذي كان قد بدأ مع ركوبه الموجة المعادية للهجرة. وجاءت الانتخابات الأوروبية لتعطيه منبراً على مستوى الاتحاد، ثم الانتخابات الإقليمية في إقليم الأندلس - معقل الاشتراكيين وخزانهم الانتخابي بامتياز - التي أدخلته الحكومة المحلية بالتحالف مع الحزب الشعبي الذي ينافسه على القاعدة الشعبية اليمينية ذاتها.
برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان»، و«المهاجرون أساس كل المشاكل»، خاصة إذا كانوا من البلدان المسلمة. لكن خطابه فج ومباشر أكثر، ويلامس التحريض على العنف في معظم الأحيان. وليس من باب المصادفة أن الأمين العام للحزب عضو سابق في «القوات الإسبانية الخاصة» المعروفة بولائها التاريخي للجنرال فرنكو، وأن رئيسة الحزب في مدريد من أتباع تيّار كاثوليكي متشدد يدعو إلى النقاء الديني للمجتمع الإسباني، وشعاره الصليب لردع «الاجتياح» المسلم، تماهياً وتيّار أوربان في المجر أو دودا في بولندا، وشعاره المعلن «الله - الوطن - العائلة».
يردّد آباسكال في خطبه الجماهيرية شعارات موروثة من النظام الفرنكي مثل «إسبانيا واحدة، عظمى وحرة». ولا يتردد في الإعراب عن إعجابه الشديد بالرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرّف خافيير ميلي الذي دعاه كـ«ضيف شرف» في حفل تنصيبه، وكان نجم اللقاء الواسع للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الذي استضافه «فوكس» نهاية الأسبوع الماضي في العاصمة الإسبانية.
آباسكال هو الشخصية المحوَرية في الحزب منذ تأسيسه رغم وجود تيارات معارضة حاولت إزاحته غير مرة. بيد أن النتائج التي حققها في الانتخابات الأخيرة، وصعوده بين نظرائه الأوروبيين من زعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة، رسّخت زعامته التي أصبحت مطلقة في الفترة الأخيرة بعدما أعيد انتخابه رئيساً للحزب حتـي العام 2028.
يرفض زعيم «فوكس» وضع حزبه في خانة اليمين المتطرّف، فيقول: «رغم شيوع هذه التسمية، نحن لا نعتبر اليمين المتطرّف هويّتنا، بل إن ما نطرحه هو عين المنطق وضرورة حيوية لمجتمعاتنا». وهو يدعو الاتحاد الأوروبي إلى «تغيير» حدوده، وأن يكون أكثر احتراماً «لسيادة» الدول، ويجاهر بتفضيله العلاقات الثنائية على النظام المتعدّد الأطراف، ويسعى إلى تشكيل تحالف أوروبي يجمع كل القوى والأحزاب المناهضة للشيوعية والاشتراكية.
كذلك يتعهد الزعيم اليميني المتطرف في برنامجه السياسي خفض الصلاحيات الإقليمية، والاستعاضة عن أجهزة الشرطة الإقليمية بالحرس المدني الذي كان عماد نظام فرنكو - ومنه الضابط الذي قام بمحاولة الانقلاب الفاشلة على النظام الديمقراطي اليافع العام 1981 -، ويطالب بعقوبات قاسية ضد مرتكبي الجرائم الجنسية ضد الأطفال، وإلغاء قوانين المساواة بين الأجناس.
ولكن يظل في طليعة شعاراته الأساسية محاربة الهجرة من «بلاد المسلمين»، والاتجاه نحو البلدان الأميركية اللاتينية «لأنهم يتكلمون لغتنا ويشاطروننا النظرة ذاتها إلى العالم... ويتعايشون معنا بسهولة».