الحب العذري بين تمجيد الألم وصناعة السراب

نشأ في كنف العزلة والإفقار والتهميش السياسي والاجتماعي

الحب العذري بين تمجيد الألم وصناعة السراب
TT

الحب العذري بين تمجيد الألم وصناعة السراب

الحب العذري بين تمجيد الألم وصناعة السراب

قلّ أن لفتت ظاهرة من الظواهر أنظار النقاد والدارسين، كما كان شأن ظاهرة الحب العذري عند العرب، التي انتشرت في بوادي الحجاز في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، وفي العصرين الراشدي والأموي على وجه الخصوص. فهذا الضرب من الحب الذي يجعل من المرأة المعشوقة قِبلة العاشق ومحور حياته كان قادراً منذ انطلاقته الأولى على استدراج الباحثين إلى ملعبه المغوي. وقد توزعت المقاربات المتصلة بهذا الشأن، بين من ربطه بعوامل اقتصادية واجتماعية بحتة، ومن ربطه بالدعوة الإسلامية التي وضعت الجانب الروحي من الحياة في رأس أولوياتها، وبين من رده إلى مؤثرات وافدة، بينها الحب الأفلاطوني والأساطير والديانات المشرقية ذات النزوع التطهري.

كما أن الخلاف حول ماهية الحب العذري وطبيعته قد شمل التسمية نفسها، بحيث ربطه البعض بالعذرية المرادفة للعفة والتبتل، فيما آثر آخرون نسبته إلى بني عذرة، القبيلة العربية المعروفة. والأرجح أن تكون الحقيقة مقسومةً بالتساوي بين الرأيين. فربط التسمية بالتعفف الجسدي وحده لا يتطابق مع المرويات المتعلقة بسيَر العذريين الذين لم يتردد بعضهم في الإغارة على مخدع حبيبته المتزوجة، كما حدث لجميل بثينة، فيما ظفر بعضهم الآخر بالزواج من حبيبته قبل تطليقها مكرهاً، كما في حالة قيس بن ذريح. فضلاً عن أن أشعارهم المدونة تقدم لنا ما يكفي من الشواهد الدالة على نزعاتهم الشهوانية، واحتفائهم بما هو دون الوصال الجسدي الكامل مع المرأة المعشوقة.

أما ربط التسمية ببني عذرة، فيحول دون التسليم به كون العديد من الشعراء العشاق لا ينتمون إلى هذه القبيلة، بل إلى قبائل وجغرافيات مختلفة توزعت بين الحجاز ونجد وغيرها من الأصقاع. ففي حين كان عروة بن حزام وجميل بثينة وكثيّرعزة ينتمون إلى قبيلة عذرة، كان قيس بن الملوح ينتمي إلى بني عامر بن صعصعة القاطنين في نواحي نجد، فيما كان قيس بن ذريح ينتمي إلى بني كنانة الحجازيين. والأرجح أن اقتران التسمية ببني عذرة ساعد على ترسيخه الجناس اللغوي بين النعت واسم العلم، إضافة إلى ما تمتع به عروة بن حزام وجميل بن معمر من مكانة إبداعية، فرضت نفسها على هذا النوع الأدبي برمته.

وإذا كان طه حسين أحد أكثر الباحثين الذين أخضعوا الظاهرة العذرية لمبضع الشكوك والمساءلة العقلية، ساخراً أحياناً من شطط شعرائها ومبالغاتهم الطفولية، ومشككاً أحياناً أخرى بصحة وجودهم نفسه، فإن الجانب الأهم في مقاربته للظاهرة العذرية، هو ما يتصل بالتحليل الاجتماعي لهذه التجربة الفريدة في التاريخ العربي. فقد ميّز حسين بين الإسلام الذي قدم لمعتنقيه، حضراً وبدواً، مُثُلاً للحياة الروحية ونموذجاً للتآلف، وبين أولياء الشأن السياسي الذين تركوا العديد من القبائل البدوية في عهدة مصير بائس. وهو مصير زاد من قتامته حرمان قبيلة عذرة من مداخيلها السابقة المتأتية من الغزو والسلب وغنائم الحروب، كما فاقمته فروض الزكاة والخُمْس والضرائب المستحدثة. وإذا كانت الدولة الأموية التي اتخذت من الشام عاصمة لها، قد عمدت إلى إقصاء سكان الحجاز المعارضين عن مركز القرار السياسي، فإن ما أغدقته من أموال وتقديمات على سكان مكة والمدينة والطائف، بهدف صرفهم عن السياسة، لم يشمل سكان البادية الذين تم تهميشهم بالكامل.

وحيث بدا ذلك النوع من الغزل العفيف مرآةً صادقةً لطموح أهل البادية إلى المثل الأعلى للحب، ولبراءتهم الموازية من ألوان الفساد التي كانت تغمر سكان الحواضر المدينية، فقد ذهب عميد الأدب العربي بعيداً في التأويل، فعقد مقارنة متعددة الأوجه بين الوضع المأزوم الذي أعقب وفاة الرسول وشطراً من الخلافة الراشدية، بما عكسه من مظاهر العنف والانشقاق الأهلي، وبين الحقبة التي أعقبت قيام الثورة الفرنسية، وما صاحبها من خيبات أمل وصخب دموي وعودة إلى الاستبداد. وإذ أنتجت الأولى ظاهرة الحب العذري المثخن بالألم وتعذيب النفس، فقد أنتجت الثانية الحركة الرومانسية التي بدت مثالية روادها وانسحابهم باتجاه الطبيعة بمثابة احتجاج رمزي على نتائج الثورة ومآلاتها المأساوية.

وقد ركز الطاهر لبيب من جهته على الأبعاد السياسية والاجتماعية للظاهرة العذرية، حيث رأى في كتابه اللافت «سوسيولوجيا الغزل العربي»، أن ما حرصت الخلافة الراشدية على الحفاظ عليه، بالحد المعقول من العدالة وتوزيع الثروة بين قريش وغيرها من القبائل، ما لبث أن تحول إلى فجوة طبقية واسعة بين المكونات المختلفة للمجتمع العربي الإسلامي، خصوصاً وأن انشغال الأمويين بالفتوحات الخارجية قد رافقه إهمال الكثير من مناطق الدولة المترامية وبيئاتها، بخاصة بيئة الجزيرة العربية المعارضة للسياسة الأموية. وقد كانت قبيلة عذرة التي لم تبرز فيها أي شخصية ذات وزن في تاريخ الاسلام، إحدى أكثر القبائل العربية عرضة للإفقار وتغييب الدور، وهي التي عانت من عزلة جغرافية شبه تامة، ومن شح غير مسبوق في مواردها الاقتصادية. وقد بدا جنوح أبنائها نحو الحب العفيف واليائس بمثابة نقلٍ للألم الناجم عن التهميش إلى مكان آخر، حيث يحل «جبروت» الحبيبة محل جبروت السلطة، وحيث التخلي عن الفحولة الذكورية والتعذيب المازوشي للنفس المنسحقة هما الثمرة الطبيعية للشعور بالإحباط والعجز عن التغيير.

على أن العاملين الاقتصادي والاجتماعي لم يكونا بالنسبة لباحثين آخرين كافيين لتفسير ما حدث عند مفترق الحقبتين الراشدية والأموية. فقد عدَّ محمد حسن عبد الله في كتابه «الحب في التراث العربي» أن ظاهرة الحب العذري لم تكن وليدة اللحظة التي انبثقت عنها، ولم تكن منبتة بالقطع عن سياق تاريخي قبل إسلامي، جسده بعض شعراء العصر الجاهلي مثل عبد الله بن عجلان النهدي والمرقّشين الأكبر والأصغر، الذين سلكوا سبيل الحب غير المتحقق، وقضوا نحبهم على دروبه المهلكة.

ولم تكن الأهواء الغرضية والإثنية بعيدة تماماً عن أذهان العديد من دارسي الظاهرة العذرية ومتابعيها. ففي حين كان بعض النقاد العرب يبحثون عن مصادر قومية ومحلية بحتة للحب العذري، كان عدد من المستشرقين يبحثون عن مصادر لهذا الحب في دوائر أخرى، تتوزع بين اليونانية والفارسية والمسيحية وغيرها. فقد عدَّ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أن الحب العذري مقتبسٌ من الحب اليوناني الأفلاطوني ومشتق منه. وهو إذ يرى فيه ضرباً من ضروب الانفصال عن الواقع للإقامة في متخيل أسطوري محض، يضيف قائلاً إن هذا الغرض الأسطوري يمجد قبيلة بدوية مثالية، يموت فيها المحبون حفاظاً على رقة العواطف وعلى الوفاء لعفةً غير مقدسة، ولكي لا يمدوا أيديهم إلى المحبوب. ومع موافقته التامة على قراءة ماسينيون للظاهرة العذرية، يضيف المستشرق الهولندي رينهارت دوزي عنصراً آخر متمثلاً بالديانة المسيحية، التي كانت سائدةً في بعض مناطق الجزيرة العربية وحولها، والتي كان لتعففها الجسدي أثر يصعب إغفاله في نشوء هذا الحب وتذكية نيرانه. لا بل إن دوزي يذهب أبعد من ذلك، فيشير إلى أن العرب الذين تعوزهم الاختبارات الروحية والماورائية، كانوا مختصين بالحب الحسي والشهواني دون سواه.

تغليب العوامل الخارجية في مقاربة الحب العذري عند العرب يحمل قدراً غير قليل من الغرضية والتعسف

وفيما يلح محمد غنيمي هلال على ربط الوفاء العذري بمؤثرات إسلامية ومحلية بحتة، يشاطره الطاهر مكي النظرة نفسها، عاداً أنه «لو كانت المسيحية وراء هذه الظاهرة، لكان الأوْلى أن تكون قد نشأت وتبلورت في نجران أو الحيرة أو مناطق الغساسنة، حيث استقرت هذه الديانة وباشرت سلطانها على النفوس، وأصبحت دين الأسرة الحاكمة ردحاً من الزمن».

ومع وجاهة الحجة التي يطرحها مكي في هذا الشأن، إلا أننا لا نستطيع استبعاد تفاعل بني عذرة المحتمل مع الطهرانية المسيحية، بحكم موقعهم الجغرافي الحساس على طرق القوافل، خصوصاً وأن الإسلام قد أفرد لهذه الديانة مكانةً خاصةً في العديد من المناحي. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تكون مريم العذراء، بما تمثله من إعلاء تامٍ للجسد الأنثوي البتولي، محل احتفاء القرآن الكريم، وصولاً إلى تخصيصه لها بسورة كاملة تحمل اسمها بالذات.

على أن تغليب العوامل الخارجية في مقاربة الحب العذري عند العرب يحمل قدراً غير قليل من الغرضية والتعسف. فبنو عذرة الذين لم تتجاوز مضاربهم حدود البادية الحجازية، قلّ أن توفرت لهم مصادر الاتصال المعرفي بالفلسفة اليونانية، سواء ما تعلق منها بالحب الأفلاطوني أو بسواه. والأمر نفسه ينسحب على الأساطير والديانات المشرقية والمذاهب الصوفية المختلفة. والواقع أن شعور هذه القبيلة الممض بأن حاضر الأمة ومآلها يتم رسمهما بمعزل عنها، هو الذي دفع شبانها إلى البحث عن معنى لوجودهم مغاير للسائد السياسي والاجتماعي، بقدر ما أكسب طريقتهم في الحب طابعها الاحتجاجي الصارخ.

ولا بد أخيراً من الإشارة إلى دور الفضاء المكاني في نشوء الحب العذري وتبلور صوره ومعالمه. فخيمة العرب الرحَّل أسهمت بشكل أو بآخر في إنتاج الحضورات الهاربة واللغة المترحلة لهذا الحب، بقدر ما حدد حيزه المكاني الهش والمفتقر إلى الثبات، طبيعة الكلام العذري ووتائره وسياقاته، حيث اختلطت الوقائع بالرموز و«الآنتروبولوجيا بالألسنية»، وفق تعبير المستشرق الفرنسي جاك بيرك. أما الجانب الآخر من المعادلة المكانية، فيحتله الخلاء الصحراوي المثخن بالقلق والخوف وهاجس التشتت والإمحاء. وإذ كانت الأعراف القبلية تقضي بتهريب المرأة المعشوقة نحو أماكن بعيدة عن مرمى ذراعيه، فإن الشاعر الواقف بذهول إزاء المعالم المهجورة لحبه الضائع، ومن بينها الأوتاد والحبال والأثافي، لم يجد من وسيلة ناجعة لاسترداد فردوسه الآفل، سوى ما تيسره له مخيلته الجامحة من القصائد والمقطوعات وترجيعات الفقدان.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.