حمزاتوف... «جائزة لينين» لم تمنعه من أن يعتمر ويزور النبي

وجد نفسه مندفعاً في أخريات عمره نحو شمس الصحراء العربية

رسول حمزاتوف
رسول حمزاتوف
TT

حمزاتوف... «جائزة لينين» لم تمنعه من أن يعتمر ويزور النبي

رسول حمزاتوف
رسول حمزاتوف

«ليلٌ طويلٌ يضنيه حزنٌ موجعٌ

ولا فجر للحزن

فأين أنت فلسطين؟

حارقٌ ربيعك

وشقاؤه حارق

شهيقٌ دائمٌ، فأين أنت يا فلسطين؟

يذبلُ وردٌ، ويجف نبعُك

والمغيب دمويٌ

فأين فجرك يا فلسطين؟

خرس الطيرُ على سعف نخلك المثبور

وصرت جرح جسد الأرض العربية البليغ

نامت القنابل على وسائد أطفالك، مكان اللعب

وسنَّ أطفالك خناجرهم في المهد...

ولا أجمل منك يا فلسطين

مساجد القدس

ونهر الأردن

وكلنا نغني

نعرف أغنية واحدة

إننا سنعود إليك يا فلسطين»

كأنه يخاطب فلسطين الجريحة اليوم، وكان على مقربة منها وهو يزور لبنان في عام هزيمة 67... كان الداغستانيون يتفاعلون مع قضايا العرب والمسلمين من قبل ومن بعد، مؤخراً وصلت أصداء مذابح غزة الإسرائيلية الأخيرة إلى شبابهم بمحاولة محاصرة الطائرة الإسرائيلية في مطار عاصمتهم، وكأنهم يستحضرون روح شاعرهم الذي احتفل أهالي طشقند بمئويته قبل شهور، حيث تُوفي رسول حمزاتوف في محج قلعة سنة 2003 بعد حياة حافلة في روسيا، وهي في ذروة بروز الاتحاد السوفياتي بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917، ابتدأها من قرية تسادا بجمهورية داغستان الإسلامية بولادته سنة 1923 متعلماً على يدي والده حمزة تساداسا، ومنهياً دراسته في «معهد غوركي للأدب» بموسكو سنة 1950، ليحصل على «جائزة لينين» سنة 1963 عن ديوانه «النجوم العالية»، وقد طار اسمه في الأفاق، وشغل إثرها عضوية مجلس السوفيات الأعلى عن جمهورية داغستان، الذي رأس اتحاد كتابها.

يصف رسول حمزاتوف والده بأنه عالي الثقافة، حيث تشرب حب الأدب وكتابة الشعر باللغة العربية رغم لغته الآفارية، قارئاً الشعر العربي الجاهلي والعباسي، مسحوراً بأشعار الفرزدق وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري، وبلغتها العربية قرأ كلاسيكيات الرواية الروسية المترجمة... بل وكتب شعره بها! حينما كان النطق بالعربية شائعاً على ألسنة الداغستانيين، منذ وصلت حركة الفتوحات العربية إلى أواسط آسيا الوسطى سنة 18 للهجرة، فأسفر ذلك عن تعلق الداغستانيين والبخاريين والسمرقنديين بالقرآن الكريم وعلومه الحديثية والفقهية والنحوية والبلاغية والاهتمام بالخط العربي، منذ ظهرت أولى الكتابة باللغة العربية في بداية القرن الثامن الميلادي، وأصبحت سمرقند تزود بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية بالورق طوال قرنين، مع انطلاق حركة التدوين بداية القرن الثاني الهجري، أي بين القرنين السابع والثامن الميلاديين، فزخرت مكتبات بخارى وخراسان وداغستان وباكو بآلاف المجلدات من المخطوطات، واستمر النطق بالعربية سليماً على امتداد القرون اللاحقة حتى القرن الثامن عشر الميلادي، عندما تعرضت الثقافة العربية والدين الإسلامي إلى بداية التهميش في العهد القيصري.

وأتذكر هنا تناولي هذا الموضوع في أكثر من مقال بجريدة «الرياض»، منتصف الثمانينات الميلادية، على خلفية قراءتي المنبهرة برائعة رسول حمزاتوف «داغستان بلدي» في طبعتها السورية الصادرة سنة 1982، وقد امتازت بتجنيس أدبي عابر لأنماط الكتابة السيرية والسردية والشعرية والحكايا الشعبية، فخرجت بأن حمزاتوف لم يكن في عمله البديع الآسر سوى ثمرة لسلسلة من ثقافة عربية وإسلامية عاشت متراكمة فوق أراضي الاتحاد السوفياتي قبل تفككه، إذ تم تداول الكلام العربي مدة أربعة عشر قرناً في بخارى وسمرقند وداغستان وخراسان، سمع بفصاحته وكتب بخطه في باب الأبواب والمراكز القريبة منه كلاماً سليم النطق مع استمرار وصول العوائل العربية إلى داغستان حتى القرن السابع عشر الميلادي، كما يؤكد الباحثان الداغستانيان في «أكاديمية العلوم السوفياتية» حاجي حمزاتوف وعمر شيخسعيدوف.

ومنذ القرن التاسع عشر، ساهم عرب من الشام ومصر والحجاز في نشر اللغة العربية بروسيا القيصرية، مدرسين في المعهد الدبلوماسي، بقصد تدريب الرحالة والموظفين الروس المنتدبين سفراء ودبلوماسيين إلى العالم العربي، ويأتي في طليعتهم الشيخ الأزهري محمد عياد الطنطاوي (المصري) الذي عاش وعمل وألف في بطرسبورغ، وكذلك أحمد حسين (المكي) في قازان... وبحكم إشراف روسيا القيصرية على الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين وسوريا ولبنان، عمل أدباء وتربويون من هذه الدول، مدرسين للغة العربية، بالأخص من السوريين، في بطرسبورغ وموسكو، (ميخائيل عطايا وجرجس إبراهيم وبندلي صليبا جوزي وكلثوم عودة فاسيليفا وغيرهم) مشكلين جسراً «استعرابياً» ذهبياً في المثاقفة العربية الروسية.

يذهب الباحث والدبلوماسي العراقي نجدة فتحي صفوت في كتابه «العرب في الاتحاد السوفياتي» إلى قدم الوجود العربي هناك، بوصول قبيلة بني سنان وقبيلة بني شيبان إلى آسيا الوسطى في بخارى عبر أفغانسان منذ ما يقارب القرنين والثلاثة من منتصف القرن العشرين، في حين يؤكد المؤرخ العراقي والبحاثة المجمعي الضخم د. صالح العلي في كتابه «الفتوحات الإسلامية» وما كتبه عن «أحكام الرسول محمد في الأراضي المفتوحة» و«استيطان العرب في خراسان» أن الوجود العربي قد وصل إلى آسيا الوسطى قبل ذلك بكثير على يد قتيبة بن مسلم، الذي جاء من بغداد إلى هرات ونيسابور وخراسان، مستدلاً (العلي) بأن أسماء بعض أبواب سمرقند كانت تحمل أسماء عربية، مثل باب بني سعد وباب بني سعدة، بينما يذهب باحث روسي هو ألكساندر خاتشا تريان إلى أن كتابة عربية في حصن تالين السفلى بأرمينيا، تؤكد وصول العرب إلى هناك مع السلاجقة. حين شن السلطان السلجوقي ألب أرسلان حملة غزو على بلاد الأرمن (أرمينيا) وأرض الروم (روسيا)، وفتح العديد من الحصون والقلاع، وأعطاهم إلى حاكم أران «أبي الأسوار» كي يضمها إلى مملكته سنة 170 للهجرة.

أما ما أصبح موجوداً من العرب الذين ذكرهم صفوت آنفاً، فيقدرهم بالآلاف إذ عايش بعضهم، حين عمل في السفارة العراقية بموسكو سنوات الستينات، ووصف نطقهم العربي بأنه قريب من اللهجة العراقية تارة، ولهجة بدو أواسط الجزيرة العربية... أي اللهجة النجدية تارة أخرى، لكن هؤلاء العرب الروس تعرضوا إلى الاضطهاد منذ عهد القياصرة، منظوراً إليهم أقلية قومية مستضعفة، وأثقلوا بالضرائب المستمرة حتى اضطر بعضهم - حال عرب الأندلس (الموريسكيين) أيام محاكم التفتيش الكنسية - إلى إخفاء أصولهم العربية... ومما زاد طينتهم بلة، ما قام به جوزيف ستالين من حملة قهرية مشهورة بإذابة شعوب آسيا الوسطى وغيرهم - على اختلاف إثنياتهم وأديانهم - في «شعب الجمهوريات السوفياتية»! متمركزين حول الثقافة الروسية ولغتها، خصوصاً العرب والمسلمين، ومنهم طائفة المسخليت الذين تكرر ذكرهم في أحداث المشكلات القومية، في بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، وكان هؤلاء وغيرهم من إثنيات أخرى غير سلافية تعرضوا للطرد من بلدانهم الأصلية إلى بلدان سوفياتية أخرى، وقد عانوا بالغ المعاناة من المحاولة الستالينية القمعية لمحو آثار الإسلام وثقافتهم العربية، التي كانت هي السائدة، خصوصاً لدى الداغستانيين.

من هنا يمكن تفسير تعلق حمزة تساداسا والد رسول حمزاتوف باللغة العربية، وقراءة آدابها وكتابة الشعر بها، مستنداً إلى نشوء أدب محلي ظل يكتب باللغة العربية بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، هذا ما يؤكده حاجي حمزاتوف وعمر شيخسعيدوف في أكثر من بحث لهما نشرتها مجلة «أبحاث جديدة للمستعربين السوفيات - الجزء الثاني» الصادرة من «أكاديمية العلوم السوفياتية» بموسكو سنة 1987 بوجود عدد كبير من الوثائق المكتوبة باللغة العربية ذات طابع رسمي وخاص، تتعلق بمراسيم العقود والرسائل والوصايا ووثائق البيع والشراء وغيرها... هذا ما انعكس بجلاء ساطع في بيت حمزة تساداسا الذي كان يصلي سراً.

أما ابنه رسول حمزاتوف فقد بدأ كتابة قصائده باللغة الآفارية في عمر الصبا، وفي سنة 1943 نشر أول مجاميعه الشعرية باللغة نفسها التي كتب بها أشعاره الأخرى «قلبي في الجبال» و«الغرانيق» و«حوار مع أبي» و«النجوم العالية» و«مسبحة السنين» و«أيها الأصدقاء»، متوجاً نثره الشاعري برائعته الفريدة «داغستان بلدي» الذي عانى في طباعتها، فلم يحصل على الموافقة على نشرها إلا بصعوبة بالغة إبان العهد البريجنيفي.

لم لا؟ وكتابه قد أطلق صرخة ثائرة على القبضة الحديدية والخطاب الآيديولوجي.

تأمل في رده حين طلب منه محرر مجلة الحزب أن يكتب تسع أو عشر صفحات عن تطور داغستان في ذلك العهد المنصرم كتابة تمجيدية، فأجابه:

«لن أستطيع أن ألف داغستاني، بلدي، في صفحاتك التسع أو العشر

ولن أستطيع أن أكتب (مواد عن المنجزات وعن غد منطقتي الجبلية)... قلمي الصغير لا يقوى على هذا الحمل».

ويوضح رده على المحرر الحزبي بهذا التشبيه البليغ:

«لا أحد يعرف عادات حصانك خيراً منك أنت فابحث لك عن طريق خاص بك».

بينما يعلن احتجاجه في إحدى قصائده المعنونة بـ«التصفيق» رغم عضويته في مجلس السوفيات الأعلى، ضد ما كان يجري من استكانة وخضوع في مؤسسات الدولة الحزبية:

«لقد صفقنا

حتى تألمت أكفنا

حدث في السنوات التي مضت

أن احمرت أكفنا كخدودٍ خجلاً ضربناها بشدةٍ ورغبةٍ.

كم ضربنا أكفنا بنشوةٍ!

حماساً لكلمات المديح أو التسفيه

ولو كانت أكفنا أجنحة

فما أنا إلا غبي لوح بجناحيه...»

ويواصل نقده الصارخ ضد إجبار أبناء الجمهوريات الإسلامية على تغيير أسمائهم العربية إلى النسبة بالأسماء الروسية، قائلاً في إحدى التماعاته المدهشة في كتابه «داغستان بلدي»:

كان ميخائيل غريغوريفتش حسينوف في لجنة منطقة حزبية قد غير اسمه من محمد. غصب عليه والده وقد غير اسمه من حسن إلى غريغوري بسبب تنطعه الحزبي الذي حينما اختلف مع صاحبه غير العقائدي مما جعل أحد الشعراء يكتب مقطعاً شعرياً ساخراً:

(تبدد الضباب في الجبال

فالطريق أمامك واضح

أغنامك أيها الراعي

سر بها إلى الشيوعية!)

برز تماهييه في روح داغستان الإسلامية واضحاً في قصيدته «معنى القرآن العظيم» معلناً بشجاعة ما كان يخفيه والده المتيم بقراءة القران وأداء الصلاة سراً

إن رسول حمزاتوف لا يطيق الانسلاخ من الجلد قط، لذلك لم يحسن النطق تماماً باللغة الروسية رغم روسيته! كان مترجمون روس ينقلون شعره إلى جماهير معجبيه الروس بلغتهم:

«بعض أصدقائي الأفاريين غادروا قراهم وذهبوا يعيشون في المدن الكبيرة الروسية... حين تحدثت إليهم فوجدت أن اللغة التي يتحدثون بها ليست الآفارية، ولم تكن الروسية فذكرني هذا بغابة يعبث بها خطابون بلداء.

كان والدا شاب يعارضان في زواجه من فتاة روسية لكن الفتاة كانت تحب فتاها الآفاري وذات يوم استلم منها رسالة باللغة الآفارية.

أرى الشاب والديهم الرسالة. قرآها غير مصدقين ومن شدة ذهولهما سمحا لابنهما بأن يأتي بالفتاة إلى بيتهما».

إن تعلق حمزاتوف الأمومي بداغستان يعبر عن أصالة انتماء وحب صوفي لشعبه، المتذمر من محاولة ستالين قولبة داغستان وشعوب الجمهوريات الإسلامية قسراً في دولة سوفياتية واحدة:

«داغستان، يا ملحمتي،

كيف لي ألاّ أصلّي من أجلك،

ألاّ أحبك،

وھل يمكنني أن أطير بعيداً عن سرِب الغرانيق في سمائك؟ داغستان: كلَّ ما أعطاه الناس لي، أتقاسمه بالعدل معك، أوسمتي وجوائزي

سأعلِّقُھا على قِممك ..

تنظر قريتي إلى الأسفل محصورة بين الجبال..

كما العش الھش في الصخور العالية

يقف بيتي معلَّقاً فوق الھاوية

فأنا ولْدت لداغستانية فقيرة

في أصعِب عام من أعوام الجوع».

وبرز تماهييه بروح داغستان الإسلامية واضحاً في قصيدته «معنى القرآن العظيم» معلناً بشجاعة ما كان يخفيه والده، المتيم بقراءة القرآن وأداء الصلاة سراً:

«أي شاعر أنا إذا لم تبتهج روحي بمعنى القرآن العظيم».

منحنياً أمام الشعراء العرب، وقد تأثر عن طريق والده بهم خصوصاً أبا العلاء المعري:

«أنحني أمامكم أنا الهباء التافه.

لقد عرفتم الحكمة والوصايا، لقّنكم إياها من الأعالي الله».

هل لهذا وجد نفسه مندفعاً في أخريات عمره نحو شمس الصحراء العربية مفتوناً بلياليها القمراء وعبقها الروحي، وهو يحل في المملكة العربية السعودية سنة 1995 معتمراً في مكة المكرمة وزائراً النبي العربي، حيث دفن في المدينة المنورة محارب القياصرة محمد شامل، البطل الداغستاني الذي طالما ردد رسول حمزاتوف اسمه بإعجاب في رائعته، بل قل ملحمته الذائعة «داغستان بلدي»؟


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.