الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تفاصيل قرار عدم تنكيس العلم... تقليد راسخ حتى اليوم

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
TT

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)

يحل، الاثنين 11 مارس (آذار)، يوم «العلم السعودي» الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده يوماً خاصاً للعَلم من كل عام.

وكان الملك عبد العزيز أصدر في الحادي عشر في شهر مارس عام 1937، أمره بالموافقة على قرار مجلس الشورى، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

وبحلول هذا اليوم، يستذكر السعوديون رمز هويتهم الوطنية ودلالة الراية الخضراء، التي رفرفت طيلة قرون ثلاثة، حاملة المضامين والدلالات والخصوصية والتفرد نفسها.

الملك عبد العزيز يشارك بالعرضة النجدية وتظهر خلفه الراية السعودية عام 1935 (الشرق الأوسط)

واستحضرت «الشرق الأوسط» هذه المناسبة لإجراء حوار مع الباحث عدنان بن صالح الطريّف، الذي غاص عميقاً في تاريخ الوطن وإرثه الحضاري، وما قامت عليه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وكشف الطريّف ما يملكه من مجموعة نادرة من الأعلام تجاوزت المائة، أهمها العلم الأصلي للدولة السعودية الأولى، وأعلام تمتد على مراحل الدولة السعودية الثلاث، كلها أصلية ولم تتعرّض للبلى. كذلك نفض الغبار عن مقتنيات متاحفه الثلاث، وتحدث عن مناسبة يوم العلم ودلالته، راصداً تاريخ العلم السعودي منذ 300 عام وحتى اليوم، وخصّ «الشرق الأوسط»، بأعلام ووثائق وصور وخطابات تُنشر للمرة الأولى. وقد تتبع الطريّف مراحل تطوير الراية السعودية وتاريخها، وقام بإعداد كتاب ضخم عنها، رصدَ فيه كل ما له علاقة بالعلم أو شعار المملكة.

راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

ويتحدث الطريّف عن مراحل تطور العلم السعودي على مدى 3 قرون، فيقول إن الراية السعودية أو «العلم»، أو «البيرق» التي ترفرف خضراء منذ 3 قرون، مرّت بعديد من المراحل إلى أن استقرت على ما هي عليه في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ويقول إنه وفقاً للمصادر التاريخية كانت الراية «خضراء مشغولة من الخز والإبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت معقودة على سارية بسيطة». وبقيت هكذا في عهود المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، وابنه الإمام عبد العزيز بن محمد، وابنه الفاتح العظيم الإمام سعود بن عبد العزيز المعروف بـ«سعود الكبير»، وابنه الإمام عبد الله بن سعود.

الأمير سلطان والملك سلمان يؤديان العرضة النجدية عام 1965

ومع تصاعد الصراع البريطاني - الفرنسي، جاء دومنغو باديا ليبيلخ (رحالة ومستشرق إسباني تبيّن لاحقاً أنه جاسوس) فتظاهر بالإسلام وتخفّى تحت اسم «الحاج علي باي العباسي» ليعمل لحساب نامليار الثالث، وليسبر غور الدولة السعودية. فوصل إلى مكة المكرمة في شهر يناير (كانون الثاني) 1807، قادماً من المغرب مروراً بشمال أفريقيا، فأُتيحت له فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة. وسجّل دومنغو أو «علي بك العباسي»، دخول 45 ألفاً من أتباع سعود، وهم في ثياب الإحرام، ليؤدوا المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

في المقابل، ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت، واسمه بعد أن أعلن إسلامه «إبراهيم عبد الله» في ملاحظاته حول البدو التي دوّنها خلال رحلاته في الشرق في عام 1810 تقريباً، عندما تحدث عن الشؤون العسكرية للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسلطته الراسخة في الجزيرة العربية وغزواته، ذكر أن «لدى كل أمير راية خاصة، وأن سعود يمتلك عدداً من الرايات المختلفة».

الملك فهد والملك سلمان وبينهما العلم السعودي بمناسبة تولي الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 (أرشيف عدنان الطريف)

ويشار إلى أن أول راية سعودية رُفعت عام 1139هـ، أي 1727م، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود، الذي استمر حكمه 40 سنة، وكان يعقد الراية لأحد أبنائه أو يتولاها هو بنفسه. وذكر ابن بشر في تاريخه، أن الإمام عبد العزيز بن محمد، الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود، كانا يبعثان برسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلومَين على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل. ويقول ابن بشر أيضاً «إن الإمام سعود قد أُعطي السعادة في مغازيه فلم تهزم له راية» وحينما عرض ابن بشر لسيرة الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، قال: «كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معين وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بـ15 يوماً، ثم يُخرج الراية فتُنصَب قريباً من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وكان الإمام تركي يأمر بحمل الراية، فحذا ابنه فيصل حذوه في نظام إخراج الراية وتقديمها أمامه أو نصبها أمام القصر».

المؤسس الثالث صاغ شكلاً جديداً للعلم

أصل العلم الذي ظهر بين الملك فهد والملك سلمان في الصورة السابقة (أرشيف عدنان الطريف)

وأما الملك عبد العزيز، فيقول الطريّف إنه استخدم في البداية العَلَم أو الراية نفسها المستخدَمة في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم وجّه بإدخال تغييرات عليها. وذكر أمين الريحاني في تاريخه أنّ «الراية التي حملها الملك عبد العزيز في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض اللون، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة الشكل تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان»، ثم تَغيّر شكلها بعد ذلك فضمت سيفاً واحداً تحت الكلمات.

صورة من قرار مجلس الشورى رقم 354

وفي 1925 أمر الملك عبد العزيز بصياغة شكل عَلَم جديد. وفي 1937، صدر قرار مجلس الشورى بإقرار مقاس للعلم بطول 150 سنتيمتراً وعرض 100 سنتيمتر، ثمّ صدر في العام ذاته قرار مماثل بشأن العَلَم الوطني وتخصيص عَلم: الملك وولي العهد، والجيش، والطيران، والعَلَم الداخلي، والعَلَم البحري الملكي السعودي، والعَلَم البحري التجاري.

وعام 1952، صدر قرار مجلس الشورى بمقاسات أخرى للأعلام وتعديلاتها. وفي 1973، صدر قرار مجلس الوزراء بإقرار نظام العَلَم، وفي عهد الملك فهد ومع صدور النظام الأساسي للحكم عام 1991، حدد النظام طبيعة العَلَم: أن يكون لونه أخضر، وعرضه يساوي ثلثي طوله، وتتوسطه عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وتحتها السيف.

صورة من قرار الموافقة على نظام العلم السعودي في 1973

وحول ما يتداول مع كل مناسبة وطنية حول مَن قام بتصميم العلم السعودي بوضعه الحالي، يقول الطريّف: «هناك كثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، لكن تصميم العلم السعودي متطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم أعده مجلس الشورى بشكله الحالي وأقره الملك عبد العزيز في ذلك الحين».

ويتابع الطريّف شرحه أنه «أُشيع كثيراً، وتناقلت كثير من وسائل التواصل والإعلام أن علم إمارة نجد أو المملكة في بدايتها يحمل هلالاً بداخله، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، ولم يكن هناك أي ارتباط للهلال بأي علم من أعلام الدولة السعودية في أي فترة تاريخية».

دلالات العلم: العدل والقوة والنماء

جيش الملك عبد العزيز عام 1911 (الشرق الأوسط)

حول رمزية العلم ودلالته، يرى الطريف أن «العلم بشكله الحالي يشير إلى التوجيه والعدل والقوة والنماء والرخاء، حيث ترمز شهادة التوحيد التي تتوسطه إلى رسالة السلام والإسلام التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ويرمز السيف إلى القوة والألفة وعلو الحكمة والمكانة وإلى الأمن والأمان».

ويضيف: «أما اللون الأخضر، فيرمز إلى لون راية الإسلام كون اللون الخضر يرمز إلى السلام والعطاء والتسامح والماء، واللون الأبيض يرمز إلى النقاء الذي تتسم به المملكة العربية السعودية».

حاملو العلم عبر الزمن

حمل الراية في الدولة السعودية الأولى إبراهيم من طوق، وعبد الله أبو نهيه الذي قتل في أثناء حصار الدرعية عام 1818، وفي الدولة الثانية الحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري. أما مع الملك عبد العزيز، فأول مَن حمل الراية عبد اللطيف المعشوق في معركة استرداد الرياض عام 1902، وشارك فيما تلاها من المعارك، وقُتل في معركة البكيرية عام 1904، وحمل الراية بعده ابنه منصور المعشوق الذي قُتل في المعركة نفسها، ثم تسلم الراية عبد الرحمن بن مطرف وأبناؤه من بعده. وإلى هذا اليوم أوكل لبيت آل مطرف حمل الراية، علماً بأن هناك أفراداً وأسراً كثيرة تشرفت بحمل العلم السعودي في معارك وأماكن مختلفة.

خادم الحرمين الشريفين خلال العرضة وإلى يمينه الأمير تركي الفيصل وإلى يساره حامل الراية غالي بن مطرف

حالة خاصة

وحول مقولة اشتهر بها بأن «العلم السعودي حالة خاصة» أجاب الطريّف: «هو حالة خاصة؛ لأنه العلم الوحيد الذي لا يتم تنكيسه أو إنزاله إلى نصف السارية في حالة الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة، كما أنه لا يستخدم في الرعاية والعلامات التجارية. كذلك تحظر ملامسته للأرض أو الماء، والدخول به لأماكن غير طاهرة، أو الجلوس عليه، كما أنه لا ينحني لكيان الضيوف عند استعراض حرس الشرف وفي حالة الحداد (المادة 16)، وهناك عقوبات حددها النظام لمخالفة نظام العلم».

خياطة العلم بين الداخل والخارج

وعن خياطة العلم السعودي والكتابة عليه، يشير الطريّف إلى أن المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرويشد قال في كتابه عن الراية السعودية: «كان يوكل بهما لبعض الأفراد من أسر الرياض المعروفة، ومَن تولاه في العصر الحديث عبد الله بن محمد بن شاهين وسعد بن سعيد»، وكان بن سعيد يوكل عملية تجهيز متطلبات العلم ولم يقوموا بخياطته. وتشير بعض الوثائق إلى أن الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، كان يوكل للشيخ عبد الرحمن الطبيشي شراء وتأمين بعض متطلبات الراية، كما أنه في مرحلة متقدمة في عهد الملك عبد العزيز صُنع العلم في عدد من الدول بطريقة قماش على قماش في أميركا وباكستان وبعض الدول العربية.

الحسني أول مَن خطّ العلم

وعن أول مَن خطّ العلم في عهد الملك عبد العزيز، يقول الطريّف: «من خلال البحث في هذا الموضوع لفترة طويلة امتدت أكثر من 36 عاماً، وقفت على أن من أوائل مَن خطّ العلم السعودي، هو الشيخ عمر عاصم الحسني وهو من الجموم في وادي فاطمة بمكة المكرمة، والذي ارتحل للعمل مع أسرته في الكويت وعمل في المدرسة المباركية ثم مديراً لها، وهو مَن خطّ علم الكويت القديم، الذي كان يحمل كلمة (كويت)، كما خطّ لوحة المدرسة المباركية وكونه خطاطاً طُلب منه أن يخطّ العلم السعودي في عهد الملك عبد العزيز في عام 1911 تقريباً».

وعندما أمر الملك عبد العزيز بافتتاح مصنع الكسوة الخاص بالكعبة المشرفة في عام 1926، كان من أوائل العاملين فيه الخطاط عبد الرحيم أمين عبد الله بخاري، الذي أوكلت له مهمة خط كسوة الكعبة المشرفة، ووضع خطوط بابها، والمدوّن اسمه عليه حتى اليوم. وكان طُلب منه أيضاً خط العلم السعودي في ذلك التاريخ والزخارف الخاصة به، وكان بخط الثلث العربي.

علماً بأن أنواع الخطوط على كثير من الأعلام التي عُرضت في مناسبات شرفها الملك عبد العزيز كانت مختلفة عن خط الثلث الرسمي كونها أُنجزت لدى خطاطين غير عرب، أو لدى مصانع في الخارج.

خطاط كسوة الكعبة المشرفة عبد الرحيم أمين (من أرشيف عدنان الطريف)

100 علم في يد الطريّف

وتحدّث الطريّف عن الرصيد الكبير من الأعلام السعودية القديمة، فقال: «أحمد الله أن من أبرز مقتنياتي هي الأعلام السعودية، فأنا أملك أكثر من مائة علم قديم ونادر بمقاسات وأشكال وخامات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، من أهمها أعلام الدولة السعودية الأولى والثانية، التي استُخدمت في مراحل نشر الوحدة والأمن لهذه البلاد المباركة». وأضاف: «عملت جاهداً على رصد أكبر عدد من الأعلام النادرة الخاصة بالملك عبد العزيز منذ دخوله مدينة الرياض، التي استخدمت خلال مناسبات أو فعاليات أو استقبالات حضرها جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، إضافة إلى عدد من الأعلام الخاصة بسيارة جلالته. كما أنني امتلك أعلاماً خاصة استُخدمت في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، وداخل مقره وعلماً خاصاً بسيارته، بالإضافة إلى أعلام استُخدمت في زيارة الملك فيصل لأميركا عام 1945 وأعلام قديمة في عهد الملك خالد والملك فهد في زيارات خارج المملكة».

الملك عبد العزيز خلال حفل أقامته شركة «أرامكو» تكريماً لجلالته وتظهر مجموعة من الأعلام السعودية خلفه في1947

وأكمل: «ومن الأعلام المهمة لدّي العلم الذي كان بين الملك فهد والملك سلمان بن عبد العزيز خلال الحفل الذي أُقيم لجلالة الملك سعود بمناسبة توليه مقاليد الحكم في عام 1953. فقمت برصد الصور الخاصة بهذه الأعلام وقمت بفحص هذه الأعلام لدى أكبر المراكز في العالم لمعرفة صحتها وتاريخها وأصالتها، كما تم توثيقها لدى عدد من المهتمين، وكذلك الذين أوكل لهم حمل العلم (آل مطرف)، إضافة إلى ما يوضع أعلى السارية (الطاسة)، حيث أملك أكثر من 10 قطع من فضة ونحاس ومعدن استُخدمت جميعها في عهد الملك عبد العزيز. ومن أبرز وأهم مقتنياتي المتعلقة بالعلم (الراية) وثيقة نادرة ووحيدة ممهورة بختم الملك عبد العزيز بعد دخوله مدينة الرياض بـ7 سنوات ذات علاقة بتفاصيل كثيرة عن العلم السعودي».

مقتنيات نادرة ومتاحف وإرث

يتحدث الطريّف عن محتويات متحفه النادرة فيقول: «خلال مسيرتي البحثية استطعت، ولله الحمد، أن أكوّن متحفاً خاصاً بالإبل وآخر للخيل، وثالثاً للصقور، وهذه المتاحف تشتمل على قطع نادرة وقديمة أعمار بعضها تتجاوز 300 سنة، إضافة إلى الطوابع المتعلقة بكل فرع من كل دول العالم وكل ما كُتب عنها بالصحف الأجنبية والعربية منذ عام 1850 وجميعها أصول. وكذلك الصور المتعلقة بالإبل والخيل والصقور من مائة سنة وإلى الآن، كما أنني جمعت قطعاً متحفية من الأواني والأطباق والمباخر والدلال والساعات ولوحات السيارات الخاصة بمرحلة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد، واستخدمت من قبلهم، كذلك قمت بجمع أبرز وأهم الهواتف التي استُخدمت في القصور الملكية منذ عهد الملك المؤسس مروراً بملوك المملكة والعدد الكبير من القطع النادرة المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها».

ولدى الطريّف تفاصيل قصة رفض السعودية تنكيس العلم بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول، وهو ما أثار غضب البريطانيين.

مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة

والحال أنه بعد تعيين الشيخ إبراهيم بن معمر وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق في 1923 بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين أي بغداد، أظهر ثقة العاهل السعودي بكفاءته. والمعروف أن جاليات سعودية كبيرة كانت تقيم في العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، فكان من مهامه الأساسية العناية بالرعايا السعوديين، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقّعة حديثاً بين الدولتين، وتطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.

وأشرف ابن معمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير «الملك» سعود عام 1926. وعن ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي: «يذكر له ـ في تلك الفترة ـ تفكيره في عدم تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق، فيصل الأول، عام 1923، وهو تقليد تبنته الحكومة السعودية بعد ذلك التاريخ احتراماً للفظ الشهادة التي يحملها العلم». وأدى احتجاج البريطانيين على ترويج ابن معمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.

انتقام من بريطانيا

وخصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003)، حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى أسلوب ابن معمر وخصاله، نظراً لكون الحسون عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة، فأورد في هذا الصدد حادثاً يؤكد موقفه الحازم من عدم مخالفة أوامر الدولة من أي كائن حتى لو صدرت من سفراء أو سفارات. فقد أصدر ابن معمر عندما كان يعمل «قائمقام جدة»، أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب بعض المنازل في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء خلال مدة لا تزيد على أسبوعين، وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر وأصبح منظرها جميلاً يرتاح إليه النظر إلا منزلاً واحداً ظل على حاله ولم يتغير فيه شيء، وهو المنزل الذي يشغله مقر السفارة البريطانية. هنا استدعى ابن معمر رئيس البلدية علي سلامة مرة أخرى، وسأله عن عدم طلاء البيت الذي تشغله السفارة البريطانية، وهل تم إبلاغهم بذلك، فأجاب بأنه أبلغ مالك المبنى وعندما بدأ في التنفيذ رفض المسؤولون بالسفارة السماح للعمال بالعمل. وعند الاتصال بالمسؤولين في السفارة، أوضحوا أن امتناعهم، هو إنفاذ لأمر السفير البريطاني الذي قال إن المبنى يعدّ أرضاً بريطانية، وإنه لا يسمح بتلقي أي أمر بشأنه ما دامت السفارة تشغله. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام، انتفض صارخاً في وجه رئيس البلدية، طالباً منه أن يذهب في الحال ويبلغ المسؤولين في السفارة بضرورة تنفيذ الأمر؛ لأن الحكومة السعودية دولة مستقلة، ولا تسمح لأي إنسان بأن يخالف أوامرها داخل بلادها، وأنّ على رئيس البلدية إمهالهم 3 أيام لكي ينفذوا الأمر، وإلا فإن القائمقام سيأمر بتنفيذه بالقوة وليفعل السفير ما يشاء. خرج رئيس البلدية من المقابلة ساخطاً، لأنه سمع من ابن معمر ألفاظاً حادة، كلها لوم وتوبيخ. وفي اليوم الثالث لهذا الحدث، نصبت «السقالات» على مبنى السفارة وبدأ العمل بطلائه على الفور.


مقالات ذات صلة

عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخة

الخليج عروض عسكرية احتفالاً بالعلم السعودي خلال العام 2023 (وزارة الثقافة السعودية) play-circle

عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخة

في كل خفقة للراية الخضراء، تعيد قصة العلم سرد حكاية وطن تأسس على التوحيد وانطلق نحو المجد فكان علمه شاهداً على عزته، ورمزاً لا يُطوى في صفحات النسيان

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
الخليج الملك سلمان مقبّلاً العلم السعودي (واس) play-circle

العَلَم السعودي... حضور في المناسبات من الإمام محمد بن سعود إلى الملك سلمان

حضر العَلَم السعودي في مناسبات مختلفة، على مدى 3 قرون، وسجلت المصادر التاريخية أن الراية والبيرق المتعارف عليهما آنذاك كانا يحملان اللون الأخضر.

بدر الخريف (الرياض)
تحقيقات وقضايا العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة وعراقتها.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض )

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
TT

مصر وترمب... تحالف استراتيجي على وقع اضطرابات إقليمية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره المصري على هامش اجتماع الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2018 (الرئاسة المصرية)

بعد أشهر من التكهنات بشأن مستقبل العلاقات المصرية - الأميركية، وسط حديث متكرر عن بوادر «توتر وأزمة» بين القاهرة وواشنطن على خلفية تبني الرئيس دونالد ترمب مقترحاً لـ«تهجير» سكان غزة، الذي رفضه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وما تبع ذلك من تداعيات، جاء لقاء الرئيسين في شرم الشيخ وتوقيعهما اتفاق سلام بشأن غزة ليؤكد استمرار التحالف الاستراتيجي بين البلدين على وقع الاضطرابات الإقليمية.

وبينما شهدت بداية العام الأول من ولاية ترمب حديثاً إعلامياً عن إلغاء السيسي خطط زيارة لواشنطن، ينتهي العام بتكهنات عن اقتراب تنفيذ تلك الزيارة، رد الرئيس الأميركي عليها بقوله: «السيسي صديق لي، وسأكون سعيداً بلقائه أيضاً».

وحمل فوز ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، نهاية العام الماضي، آمالاً مصرية بتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، عبَّر عنها السيسي، في منشور لتهنئة ترمب عبر حسابه الرسمي على موقع «إكس»، قال فيه: «نتطلع لأن نصل معاً لإحلال السلام، والحفاظ على السلم والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية».

لكن طَرْحَ ترمب خطة لـ«تطهير غزة»، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن، ألقى بظلاله على العلاقات بين البلدين، لا سيما مع إعلان القاهرة رفضها القاطع للتهجير، وحشدها دعماً دولياً لرفض الطرح الأميركي مع إعلانها مخططاً بديل لإعمار غزة، واستضافتها قمةً طارئةً بهذا الشأن في مارس (آذار) الماضي.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرحب بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

القليل المعلن

ويرى ديفيد باتر، الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس»، في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الجانب اللافت في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، على مدار العام الماضي، هو «انخفاض مستوى الجوانب العلنية»، فباستثناء «عرض ترمب» في شرم الشيخ، «لم يكن هناك كثير مما جرى، على الملأ».

في حين وصف عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية المصري، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة «كارنيغي»، العام الأول من ولاية ترمب الثانية، بأنه كان «عاماً صعباً فيما يتعلق بالعلاقات المصرية - الأميركية»، مشيراً في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إلى أن «العام بدأ بحديث عن التهجير و(ريفييرا الشرق الأوسط)، لكن مصر بجهودها الدبلوماسية استطاعت تحويل المسار، لتحمل خطة ترمب للسلام إشارة إلى رفض التهجير، وحديث عن مسار أمني وسياسي لغزة، ومسار سياسي للقضية الفلسطينية كلها، وإن كان غير واضح».

وقال حمزاوي: «بدأ العام من نقطة صعبة، هي تطور طبيعي لموقف بايدن المتخاذل في غزة، حيث بدأ الحديث التهجير فعلياً في عهد بايدن، لكن بعد نحو عام من الجهد المصري السياسي والدبلوماسي وصلت الأمور لمعكوس البدايات، حيث أصبح التهجير غير مطروح على أجندة واشنطن، وإن ظل خطراً قائماً لا يمكن تجاهله».

تاريخياً «شكّلت مصر دولةً محوريةً بالنسبة للأمن القومي الأميركي، استناداً إلى موقعها الجغرافي، وثقلها الديمغرافي، ودورها الدبلوماسي»، بحسب تقرير نشرته أخيراً وحدة أبحاث الكونغرس الأميركي.

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة بمدينة شرم الشيخ المصرية في أكتوبر 2025 (أرشيفية - أ.ف.ب)

غزة... العقدة الأبرز

كان لحرب غزة دور في تشكيل العلاقات المصرية - الأميركية خلال العام الأول من ولاية ترمب، ودعمت واشنطن جهود الوساطة المصرية - القطرية لإيقاف الحرب. ووجَّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، الشكر للقاهرة بعد نجاحها في إقرار هدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في يناير (كانون الثاني) الماضي. لكن مع استئناف القتال مرة أخرى «وُضعت مصر في مواقف دبلوماسية معقّدة إزاء كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فبينما رفضت دعوة ترمب لإعادة توطين سكان غزة، فإن خطتها لإعادة إعمار غزة لم تحظَ بقبول من الولايات المتحدة أو إسرائيل. وتعرَّضت القاهرة لانتقادات من ترمب إثر امتناعها عن الانضمام إلى واشنطن في تنفيذ أعمال عسكرية ضد جماعة (الحوثي) اليمنية»، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس.

وأوضح الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «تشاتام هاوس» أن «العلاقات المصرية مع إدارة ترمب شهدت توتراً على خلفية ملف غزة؛ حيث ألغى السيسي خططاً لزيارة واشنطن في مطلع العام، عقب إعلان ترمب عن (ريفييرا الشرق الأوسط)، ليقتصر التواصل بين الجانبين على الحد الأدنى».

لكن باتر يشير إلى أن «زيارة ترمب لشرم الشيخ وتوقيع (اتفاق غزة) والاحتفاء بنجاح خطته، كانت فرصة لإعادة ضبط العلاقات بين القاهرة وواشنطن»، لافتاً إلى أنه بالنسبة للوضع في غزة فإن «مصر أصبحت لاعباً رئيسياً لا غنى عنه لإدارة ترمب ولإنجاح خطته».

وقال حمزاوي: «إن غزة كانت الملف الأبرز في العام الأول لإدارة ترمب، ومنحت مصر فرصةً لاستعادة قراءة صانع القرار الأميركي والأوروبي لدورها وسيطاً رئيسياً لحل الصراع وتفعيل وتنفيذ الاتفاق، والانطلاق لمسارات سياسية»، لافتاً إلى أن «القاهرة استطاعت وضع رؤيتها للحل على الطاولة، فبدلاً من تعاقب المسارَين الأمني والسياسي في الطرح الأميركي، أصبح هناك توافق على توازي المسارات، وكذلك الأمر تحول من الحديث عن نزع السلاح إلى قبول فكرة حصر السلاح».

وطوال العام عوّلت مصر على ترمب لإنهاء الحرب في غزة، عبر بيانات وتصريحات رسمية عدة، ودخلت واشنطن بالفعل على خط الوساطة. وحثَّ السيسي نظيره الأميركي، في كلمة متلفزة في يوليو (تموز) الماضي على بذل الجهد لوقف الحرب بوصفه «قادراً على ذلك».

وتعد «مصر دولة لا غنى عنها في خطوات الاستجابة الدولية لحرب غزة، وإن ظلت شريكاً صعباً للولايات المتحدة وإسرائيل»، وفق ما كتبه الباحثان الأميركيان دانيال بيمان وجون ألترمان، في مقال مشترك نشرته «فورين بوليسي». وأوضح بيمان وألترمان أن «الحرب في غزة أعادت تسليط الأضواء الدبلوماسية تدريجياً على مصر، ومنحتها أوراق ضغط قوية».

بدورها، ترى سارة كيرة، مديرة المركز الأوروبي الشمال أفريقي للأبحاث، أن «وتيرة العلاقات المصرية - الأميركية في ظل إدارة ترمب في ولايته الثانية تختلف عن الأولى»، موضحة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أن «ولاية ترمب الأولى شهدت توافقاً بين البلدين في ملفات عدة، وكانت هناك حفاوة من ترمب شخصياً بمصر وإدارتها للملفات المختلفة، لا سيما مكافحة الإرهاب، على عكس الولاية الثانية التي شهدت تباينات في المواقف».

هذه الخلافات في المواقف برزت في أبريل (نيسان) مع حديث ترمب عن «مرور مجاني لسفن بلاده التجارية والعسكرية في قناة السويس المصرية»، مقابل ما تبذله واشنطن من إجراءات لحماية الممر الملاحي.

إيجابية رغم التباين

تباين المواقف بشأن غزة لم يمنع من إشارات إيجابية في ملفات أخرى، ففي بداية العام قرَّرت وزارة الخارجية الأميركية تجميد التمويل الجديد لجميع برامج المساعدات الأميركية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء برامج الغذاء الإنسانية، والمساعدات العسكرية لإسرائيل ومصر.

كما لم تدرج واشنطن مصر ضمن قائمة حظر السفر التي أصدرتها في يونيو (حزيران) الماضي، وبرَّر ترمب ذلك بأن «مصر دولة نتعامل معها من كثب. الأمور لديهم تحت السيطرة». واستُثنيت مصر أيضاً من زيادة رسوم الجمارك الأميركية. في وقت أكدت فيه مصر مراراً على «عمق ومتانة» العلاقات الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن.

وأشارت كيرة إلى أن «مصر ضغطت بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق السلام وإيقاف الحرب على قطاع غزة، ونجحت في إقناع الجانب الأميركي برؤيتها حتى وصلت لتوقيع اتفاق سلام في شرم الشيخ». وقالت: «تعاملت الدولة المصرية ببراغماتية وذكاء، واستطاعت بفهمها لطبيعة شخصية ترمب وللمصالح الأميركية إقناع واشنطن برؤيتها».

وبينما يتعثر الوصول للمرحلة الثانية من اتفاق غزة، لا تزال مصر تعوّل على ترمب لإنجاح خطته، وتتواصل القاهرة مع واشنطن في هذا الشأن، كما تعمل معها على الإعداد لمؤتمر تمويل إعادة إعمار القطاع، الذي لا يبدو حتى الآن أن إدارة ترمب أعطته الزخم الكافي.

ولا يقتصر الحوار المصري - الأميركي على غزة، بل يمتد إلى عدد آخر من الملفات الإقليمية مثل ليبيا والسودان ولبنان وإيران، إضافة إلى الملفات المرتبطة بالأمن المائي، وعلى رأسها «سد النهضة» الإثيوبي الذي تخشى مصر أن يضر بحصتها من مياه النيل.

«سد النهضة» الإثيوبي (وكالة الأنباء الإثيوبية)

سد النهضة

في منتصف يونيو الماضي، أثار ترمب جدلاً في مصر بحديثه عبر منصته «تروث سوشيال» بأنَّ الولايات المتحدة «موَّلت بشكل غبي سد النهضة، الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وأثار أزمةً دبلوماسيةً حادةً مع مصر». وفي أغسطس (آب) الماضي، أعلن «البيت الأبيض» قائمة نجاحات ترمب في إخماد حروب بالعالم، تضمَّنت اتفاقية مزعومة بين مصر وإثيوبيا بشأن «سد النهضة». وكرَّر ترمب مراراً حديثاً عن جهود إدارته في «حل أزمة السد الإثيوبي»، لكن هذا الحديث لم يترجم حتى الآن إلى جهود على الأرض.

وأشار حمزاوي إلى أن «هناك فرصة لتلعب واشنطن دور الوسيط لحل أزمة سد النهضة، والعودة للاتفاق الذي تمَّ في نهاية فترة ترمب الأولى». لكن تشارلز دن، الباحث في «المركز العربي واشنطن دي سي»، كتب في تقرير نُشر أخيراً، يقول: «إن موقف ترمب من السد الإثيوبي قد يمنح قدراً من الرضا للقاهرة، لكنه قد يفضي في الوقت نفسه إلى نتائج غير محمودة، في ظل عدم تبني واشنطن دور الوسيط في هذا الملف حتى الآن».

وكانت واشنطن قد استضافت جولة مفاوضات خلال ولاية ترمب الأولى عام 2020 بمشاركة البنك الدولي، بين مصر وإثيوبيا والسودان، لكنها لم تصل إلى اتفاق نهائي؛ بسبب رفض الجانب الإثيوبي التوقيع على مشروع الاتفاق.

قوات أميركية محمولة جواً خلال تدريبات النجم الساطع في مصر في سبتمبر 2025 (القيادة المركزية الأميركية)

علاقات عسكرية مستمرة

على صعيد العلاقات العسكرية، واصل التعاون بين الجانبين مساره المعتاد. ومنذ عام 1946، قدَّمت الولايات المتحدة لمصر نحو 90 مليار دولار من المساعدات، مع زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية والاقتصادية بعد عام 1979، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس، التي أشارت إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبرِّر ذلك بوصفه «استثماراً في الاستقرار الإقليمي».

وعلى مدى أكثر من عقد، وضع الكونغرس شروطاً متعلقة بحقوق الإنسان على جزء من المساعدات الموجَّهة لمصر. وخلال الأعوام المالية من 2020 إلى 2023، حجبت إدارة بايدن والكونغرس نحو 750 مليون دولار من التمويل العسكري لمصر، لكن الملحق الفني الأخير الذي قدَّمه ترمب لموازنة عام 2026، تضمّن طلباً بقيمة 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، دون أي مشروطية، وفق وحدة أبحاث الكونغرس.

وهنا قال حمزاوي: «الإدارة الأميركية أبعد ما تكون عن وضع مشروطية على مصر، فالعلاقات بين البلدين مبنية على المصالح بين قوة كبرى، وأخرى وسيطة مؤثرة بإيجابية».

بالفعل، منذ حرب غزة، سرَّعت إدارتا بايدن وترمب وتيرة مبيعات الأسلحة الأميركية إلى مصر بشكل ملحوظ، وأخطرت وزارة الخارجية الكونغرس بمبيعات عسكرية لمصر بقيمة إجمالية بلغت 7.3 مليار دولار، بحسب وحدة أبحاث الكونغرس. وفي يوليو الماضي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) موافقة وزارة الخارجية، على صفقة بيع لمنظومة صواريخ متقدمة للدفاع الجوي إلى مصر، بقيمة تقدر بنحو 4.67 مليار دولار. كما استضافت مصر في سبتمبر (أيلول) الماضي مناورات «النجم الساطع».

وقالت كيرة: «العلاقات بين مصر وواشنطن تسير وفقاً لاعتبارات المصالح»، مؤكدة أن «القاهرة استطاعت تقديم نفسها لاعباً أساسياً في الإقليم». بينما أكد حمزاوي أن «مصر في مكان مركزي في تفكير الولايات المتحدة للشرق الأوسط، حيث تحتاج واشنطن إلى طيف من الحلفاء، ومصر في موقع القلب منه».


عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
TT

عام في السودان... حرب شرعيات ومصالح وخطوط نفوذ

السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)
السودان يتصدر قائمة مراقبة الأزمات الإنسانية العالمية للعام الثالث في ظل الصراع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف (رويترز)

خفتت آمال السودانيين في نهاية قريبة للحرب والمأساة الإنسانية التي يعيشونها منذ 15 أبريل (نيسان) 2023، ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة الأولى، ثم تزايد تشاؤمهم بأن المشهد يزداد قتامة مع تعثر المبادرات الإقليمية والدولية.

لكن تدخل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وطلبه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب «التدخل» بكامل ثقله الرئاسي، أعاد بريق الأمل، وقفز دور السعودية إلى قلب حديث الناس، وفتح نافذة جديدة تراهن على ثقل قادر على كسر الجمود.

وخلال زيارته الرسمية إلى الولايات المتحدة أخيراً، طلب ولي العهد من الرئيس الأميركي التدخل للمساعدة في وقف الحرب، وفق تصريحات أدلى بها ترمب خلال المنتدى الأميركي – السعودي للأعمال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وكشف ترمب وقتها أن ولي العهد طلب منه التدخل لوقف حرب السودان، بقوله: «سمو الأمير يريد مني القيام بشيء حاسم يتعلق بالسودان»، وأضاف: «بالفعل بدأنا العمل بشأن السودان قبل نصف ساعة، وسيكون لنا دور قوي في إنهاء النزاع هناك».

الأمير محمد بن سلمان مستقبلاً في قصر اليمامة بالرياض رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان (واس)

عندما يتكلم الناس

في الخرطوم التي دمرتها الحرب، نظر مواطنون للتحرك السعودي بوصفه استجابة «متوقعة من الأشقاء»، يقول أحمد موسى، إن «ما فعله ولي العهد السعودي أمر متوقع من المملكة، كدولة شقيقة».

وفي الفاشر التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، لم تخفِ حواء إبراهيم تأثير الحرب في كلماتها، قبل أن تربط الأمل بأي خطوة توقف النزيف: «الحرب قضت على الأخضر واليابس، وتضررنا منها كثيراً».

أما في الأبيض، عاصمة شمال كردفان المحاصرة، حيث يعيش السكان على حافة القلق من تمدد القتال، فيختصر عيسى عبد الله المزاج العام بقوله: «تأثرت كل البيوت بالحرب، لذلك نحن نرحب بتدخل الأشقاء».

ومن نيالا التي يتخذ منها تحالف «تأسيس» عاصمة موازية، يقول ف. جبريل إن السكان «يأملون أن تجتث الحرب من جذورها، وأن تصل إليهم المساعدات الإنسانية، وأن يعود النازحون إلى ديارهم».

ولا يطلب السودانيون حلاً مفروضاً من الخارج، بقدر ما يريدون وسيطاً «نزيهاً» يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار، ويمنع استخدام المسارات السياسية لشراء الوقت، ويعتقدون أن السعودية هي ذلك الوسيط.

شاحنة محمّلة بممتلكات شخصية لعائلات نازحة تنتظر مغادرة نقطة حدودية في مقاطعة الرنك بجنوب السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

إشارات تراجع

على المستوى الرسمي، لم تسر الاستجابة على خط واحد، ففي 19 نوفمبر 2025، وبمجرد إعلان ترمب عن طلب ولي العهد، رحّب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالخطوة، وكتب في تغريدة على «إكس»: «شكراً سمو الأمير محمد بن سلمان، شكراً الرئيس ترمب».

ورحّبت حكومة البرهان بالجهود السعودية والأميركية، وأبدت استعدادها «للانخراط الجاد لتحقيق السلام». لكنها تحفظت على وساطة «المجموعة الرباعية» التي تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر، وأبدت تفضيلاً للوساطة السعودية.

«صفقة عسكرية»

ورحب التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك بالجهود السعودية، واعتبرها «خطوة إيجابية قد تفتح مساراً جديداً»، بيد أنه اشترط ألا يكون الحل حصراً بين العسكريين، وأن يشارك المدنيون في أي تسوية شاملة قادمة.

من جهته، عبر تحالف السودان التأسيسي - اختصاراً «تأسيس» - الموالي لـ«قوات الدعم السريع»، عن تأييده للتحرك السعودي، واعتبره تأكيداً على حرص المملكة على منع انهيار السودان.

سودانيون فرّوا من الفاشر يستريحون لدى وصولهم إلى مخيم «الأفاد» للنازحين بمدينة الدبة شمال السودان 19 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

هل تنجح المبادرة؟

يراهن السودانيون على تحويل الجهود السعودية - الأميركية من «إشارة سياسية» إلى مسار دبلوماسي كامل يتضمن «ضغطاً يفضي إلى وقف إطلاق نار، وترتيبات إنسانية تفتح الممرات وتخفف المعاناة، ثم عملية سياسية لا تعيد إنتاج الأزمة»، وفق المحامي حاتم إلياس لـ«الشرق الأوسط».

وقال إلياس لـ«الشرق الأوسط»، إن «التحدي الأكبر يبقى في تعقيد الحرب نفسها: صراع على الشرعية، وانقسام مجتمعي، ومؤسسات ضعيفة، وتضارب مصالح أطراف متعددة».

ورغم هذه التعقيدات، فإن المزاج الشعبي من بورتسودان إلى الخرطوم إلى الفاشر والأبيض ونيالا، يبدو واضحاً، حسب الصحافي المقيم في باريس محمد الأسباط، في أن «هناك تعلقاً بالأمل الهش بتوقف البنادق وفتح باب نحو سلام طال انتظاره».

وبعد تراجع آمال السودانيين في حل قريب، عادت الروح المتفائلة مرة أخرى، إثر زيارة رئيس مجلس السيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان للرياض 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي للمملكة، والاجتماع الرفيع الذي عقده معه ولي العهد.

وبدا أن مجرد عقد هذا الاجتماع في الرياض، فتح بوابة جديدة للأمل بوقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية، وكأن واقع الحال يقول: «تضع السعودية ملف وقف الحرب في السودان على رأس أولوياتها».

ويأمل السودانيون الذين أنهكتهم الحرب وأزهقت أرواح العديد منهم، وأهلكت ضرعهم وزرعهم، وشردتهم في بقاع الدنيا، لاجئين ونازحين، العودة إلى بلادهم وبيوتهم، وحياتهم التي يفتقدونها، فهل تثمر المبادرات سلاماً مستداماً هذه المرة؟


ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ترمب «عرَّاب» اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)
ترمب يعرض النسخة التي وقَّع عليها لاتفاق غزة في شرم الشيخ (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قطاع غزة، كان لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب دور بارز في إقناع «حماس» وإسرائيل بضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، وإعلان انتهاء الحرب التي استمرت لمدة عامين، دفع خلالها الفلسطينيون أثماناً لا تحتمل من خسائر بشرية ومادية وعلى صعد مختلفة، منها الصحة والبيئة والبنية التحتية وغيرها.

ويحسب لإدارة ترمب أنها نجحت فعلاً بالتوصل لاتفاق بعد محاولات حثيثة من إدارة جو بايدن للتوصل إلى اتفاق يفضي لوقف إطلاق النار، إلا أن كل الجهود فشلت آنذاك في ظل خلافات برزت بينها وبين الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي كان يتوق لعودة ترمب إلى الحكم. إلا أن هذه العودة لم تكن مثل ولاية ترمب الأولى التي منح خلالها لإسرائيل الكثير من الهدايا سواء الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، أو سيادتها على الجولان، أو حتى العمل على الاتفاقيات الإبراهيمية.

قبول مواقف «حماس»

وفرض ترمب على نتنياهو وحكومته العديد من القرارات المتعلقة بالشأن الفلسطيني والمنطقة بأسرها، وخاصةً فيما يتعلق بالحرب على إسرائيل، حين فاجأ الأخيرة بقبول موقف «حماس» من خطته التي طرحت على الحركة، بشأن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو أمر فاجأ نتنياهو وحكومته بشكل خاص، قبل أن تقبل الحكومة الإسرائيلية، بالأمر الواقع، ويتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من أن هذا الإنجاز يحسب لإدارة ترمب، فإن الخروقات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار الهش للغاية، قد تفضي إلى إفشاله. لكن أيضاً حالة العجز الفلسطينية بعد حرب استمرت عامين واستنزفت كل قدرات فصائلها المسلحة وخاصةً «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، ربما تدفع الجميع بقبول ما تطمح إليه الولايات المتحدة من العبور إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار. ليتم ذلك لا بد من دعم من الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر بين «حماس» وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، ويتمحور دورها في الضغط على حكومة نتنياهو، بقبول الاتفاق والالتزام ببنوده. ففي أكثر من مرة منعت هذه الحكومة من اتخاذ إجراءات مثل إغلاق المعابر مجدداً للقطاع بحجة خروقات حصلت من جانب «حماس»، كما ضغطت عليها في العديد من المرات بالالتزام بزيادة عدد الشاحنات التجارية والمساعدات إلى القطاع.

«ضغوط وهمية»؟

رغم أن هذه الضغوط تؤتي أكلها وثمارها في بعض الأحيان، لكن الفصائل الفلسطينية والمراقبين للوضع في قطاع غزة، يرون أنها مجرد ضغوط وهمية في قضايا غير ملحة، وأن هناك حاجة أكثر لضرورة أن يكون الضغط فاعلاً تجاه قضايا أكبر ومهمة بالنسبة للسكان في القطاع، مثل البدء بتوفير المواد الإغاثية من خيام جيدة صالحة للحياة، وإدخال الكرفانات، والبدء بمسيرة إعمار جادة، بينما تتطلع إسرائيل للبدء بنزع سلاح «حماس» والفصائل الأخرى، وأن تتخلى الحركة عن حكمها للقطاع، وهي قضايا ما زالت تبحث ويدار حولها الكثير من اللقاءات والمحادثات الهادفة للانتقال لكل عناصر وبنود الاتفاق بمرحلته الثانية.

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

ولربما غالبية سكان قطاع غزة، كانوا يتطلعون لنجاحات أكبر من إدارة ترمب بعد أن فرضت على إسرائيل و«حماس» اتفاق وقف إطلاق النار، سواء من خلال الدبلوماسية التي قادتها هذه الإدارة من جانب، أو من خلال سياسة الضغط عبر الوسطاء وحتى عبر التهديدات التي كان يطلقها ترمب من حين إلى آخر، لكن هناك من يرى سياسياً وشعبياً أن الولايات المتحدة ما زالت لم تقدم الكثير تجاه إنجاح هذا الاتفاق في ظل أنه كان المأمول في أن يتغير واقع القطاع لأفضل من ذلك، خاصةً على مستوى الظروف الحياتية وبدء الإعمار، وهو الأمر الذي يهتم به المواطن في غزة أكثر من أي مطالب أخرى.

المرحلة الثانية

وفتحت اللقاءات المباشرة بين «حماس» والإدارة الأميركية، التي كانت مفاجئة بالنسبة لإسرائيل، أفقاً أكبر لإمكانية الانتقال للمرحلة الثانية بسلاسة كما جرى في المرحلة الأولى، حيث تحاول الحركة الفلسطينية إقناع إدارة ترمب بالعديد من المقترحات التي تقدمها عبر الوسطاء، لكنها كانت تتطلع لعقد لقاء آخر مع المبعوثين الأميركيين لبحث هذه القضايا بشكل مباشر، قبل أن تعترض إسرائيل على هذه اللقاءات، ما أدى لتأجيلها، في وقت جرت تسريبات عن أنها عقدت سراً، وهو الأمر الذي لم يؤكد سواء من الحركة أو الولايات المتحدة.

مسلحون من «حماس» يحملون أحد التوابيت في أثناء تسليم جثث رهائن إسرائيليين إلى «الصليب الأحمر» في خان يونس 20 فبراير 2025 (د.ب.أ)

ويبدو أن «حماس» التي تدرس جيداً الكثير من خطواتها، قبل أن تخطوها، تتفهم خريطة عمل إدارة ترمب التي تصنف في استراتيجية أمنها القومي منطقة الشرق الأوسط «منطقة شراكة» لا التزام عسكري طويل، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة تحت حكم ترمب، منفتحة على أن حتى من يصنفون أنهم أعداؤها، يمكن أن تكون لهم الفرصة في حال أثبتوا قدرتهم على أن يصبحوا شركاء نافذين لها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لا يهمها من يحكم، إنما يهمها الشراكة المُجدية فقط.

انتصار مزدوج

وتتجه «حماس» لاستغلال هذه الفرصة التي وضعتها الإدارة الأميركية لنفسها، للتواصل مع جهات غير حكومية في سبيل حل التعقيدات التي تواجه سياساتها الخارجية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، بما يحقق لها ولرئيسها دونالد ترمب، انتصاراً دبلوماسياً يطمح له الأخير لتحقيق هدفه بالحصول على جائزة «نوبل» للسلام من جانب، وبما يشكل من جانب آخر اتفاقاً قد يكون غير مسبوق فيما يتعلق بواقع القضية الفلسطينية ومصير الصراع مع إسرائيل.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قمة شرم الشيخ لإنهاء حرب غزة بمصر يوم 13 أكتوبر 2025 (رويترز)

ورغم هذه الرؤية، فإن هناك في «حماس» من لا يأمن الجانب الأميركي الذي قدم في العديد من المرات وعوداً لم تتحقق بالنسبة للحركة، ومنها عندما أطلقت سراح الجندي الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، عيدان ألكسندر، كهدية لترمب بعد لقاءات مباشرة بين الجانبين، وضمن اتفاق ضمني يسمح بفتح المعابر وإدخال المساعدات للقطاع، في وقت تهربت فيه إسرائيل من هذا الاتفاق، كما تهربت من اتفاق مماثل بتسليم جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن مقابل حل أزمة العناصر المسلحة من «حماس» في أنفاق رفح، الأمر الذي قد يؤشر أيضاً إلى عدم قدرة تحقيق الإدارة الأميركية إنجازات حقيقية في قطاع غزة، حال بقيت سياستها على حالها دون ضغط حقيقي على إسرائيل.