الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

تفاصيل قرار عدم تنكيس العلم... تقليد راسخ حتى اليوم

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
TT

الراية السعودية رمز الهوية الوطنية الجامعة على مدى قرون

الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)
الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (الشرق الأوسط)

يحل، الاثنين 11 مارس (آذار)، يوم «العلم السعودي» الذي أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتماده يوماً خاصاً للعَلم من كل عام.

وكان الملك عبد العزيز أصدر في الحادي عشر في شهر مارس عام 1937، أمره بالموافقة على قرار مجلس الشورى، وأقرّ فيه مقاس العلم السعودي وشكله الحالي.

وبحلول هذا اليوم، يستذكر السعوديون رمز هويتهم الوطنية ودلالة الراية الخضراء، التي رفرفت طيلة قرون ثلاثة، حاملة المضامين والدلالات والخصوصية والتفرد نفسها.

الملك عبد العزيز يشارك بالعرضة النجدية وتظهر خلفه الراية السعودية عام 1935 (الشرق الأوسط)

واستحضرت «الشرق الأوسط» هذه المناسبة لإجراء حوار مع الباحث عدنان بن صالح الطريّف، الذي غاص عميقاً في تاريخ الوطن وإرثه الحضاري، وما قامت عليه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث. وكشف الطريّف ما يملكه من مجموعة نادرة من الأعلام تجاوزت المائة، أهمها العلم الأصلي للدولة السعودية الأولى، وأعلام تمتد على مراحل الدولة السعودية الثلاث، كلها أصلية ولم تتعرّض للبلى. كذلك نفض الغبار عن مقتنيات متاحفه الثلاث، وتحدث عن مناسبة يوم العلم ودلالته، راصداً تاريخ العلم السعودي منذ 300 عام وحتى اليوم، وخصّ «الشرق الأوسط»، بأعلام ووثائق وصور وخطابات تُنشر للمرة الأولى. وقد تتبع الطريّف مراحل تطوير الراية السعودية وتاريخها، وقام بإعداد كتاب ضخم عنها، رصدَ فيه كل ما له علاقة بالعلم أو شعار المملكة.

راية الدولة السعودية الأولى وهي قطعة أصلية من مجموعة الطريّف (أرشيف عدنان الطريف)

ويتحدث الطريّف عن مراحل تطور العلم السعودي على مدى 3 قرون، فيقول إن الراية السعودية أو «العلم»، أو «البيرق» التي ترفرف خضراء منذ 3 قرون، مرّت بعديد من المراحل إلى أن استقرت على ما هي عليه في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ويقول إنه وفقاً للمصادر التاريخية كانت الراية «خضراء مشغولة من الخز والإبريسم، وقد كُتبت عليها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكانت معقودة على سارية بسيطة». وبقيت هكذا في عهود المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود، وابنه الإمام عبد العزيز بن محمد، وابنه الفاتح العظيم الإمام سعود بن عبد العزيز المعروف بـ«سعود الكبير»، وابنه الإمام عبد الله بن سعود.

الأمير سلطان والملك سلمان يؤديان العرضة النجدية عام 1965

ومع تصاعد الصراع البريطاني - الفرنسي، جاء دومنغو باديا ليبيلخ (رحالة ومستشرق إسباني تبيّن لاحقاً أنه جاسوس) فتظاهر بالإسلام وتخفّى تحت اسم «الحاج علي باي العباسي» ليعمل لحساب نامليار الثالث، وليسبر غور الدولة السعودية. فوصل إلى مكة المكرمة في شهر يناير (كانون الثاني) 1807، قادماً من المغرب مروراً بشمال أفريقيا، فأُتيحت له فرصة رؤية دخول جيش الإمام سعود إلى مكة المكرمة. وسجّل دومنغو أو «علي بك العباسي»، دخول 45 ألفاً من أتباع سعود، وهم في ثياب الإحرام، ليؤدوا المناسك، يتقدمهم عَلَم أخضر طُرزت عليه بحروف كبيرة بيضاء عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

في المقابل، ذكر الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت، واسمه بعد أن أعلن إسلامه «إبراهيم عبد الله» في ملاحظاته حول البدو التي دوّنها خلال رحلاته في الشرق في عام 1810 تقريباً، عندما تحدث عن الشؤون العسكرية للإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسلطته الراسخة في الجزيرة العربية وغزواته، ذكر أن «لدى كل أمير راية خاصة، وأن سعود يمتلك عدداً من الرايات المختلفة».

الملك فهد والملك سلمان وبينهما العلم السعودي بمناسبة تولي الملك سعود مقاليد الحكم عام 1953 (أرشيف عدنان الطريف)

ويشار إلى أن أول راية سعودية رُفعت عام 1139هـ، أي 1727م، على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود، الذي استمر حكمه 40 سنة، وكان يعقد الراية لأحد أبنائه أو يتولاها هو بنفسه. وذكر ابن بشر في تاريخه، أن الإمام عبد العزيز بن محمد، الحاكم الثاني في الدولة السعودية الأولى، وابنه الإمام سعود، كانا يبعثان برسلهما إلى رؤساء القبائل، ويحددان لهم يوماً ومكاناً معلومَين على ماء معين، وتتقدمهما الراية، فتنصب على ذلك المورد، فلا يتخلف أحد من رؤساء القبائل. ويقول ابن بشر أيضاً «إن الإمام سعود قد أُعطي السعادة في مغازيه فلم تهزم له راية» وحينما عرض ابن بشر لسيرة الإمام تركي بن عبد الله، مؤسس الدولة السعودية الثانية، قال: «كان إذا أراد الغزو يكتب إلى أمراء البلدان ورؤساء القبائل يحدد لهم الخروج في يوم معين وموقع معلوم، ثم يُخرج آلاته الحربية ومعدات الجيش وأعلاف الخيول قبل مسيره بـ15 يوماً، ثم يُخرج الراية فتُنصَب قريباً من باب القصر قبل خروجه بيوم أو يومين أو ثلاثة، وكان الإمام تركي يأمر بحمل الراية، فحذا ابنه فيصل حذوه في نظام إخراج الراية وتقديمها أمامه أو نصبها أمام القصر».

المؤسس الثالث صاغ شكلاً جديداً للعلم

أصل العلم الذي ظهر بين الملك فهد والملك سلمان في الصورة السابقة (أرشيف عدنان الطريف)

وأما الملك عبد العزيز، فيقول الطريّف إنه استخدم في البداية العَلَم أو الراية نفسها المستخدَمة في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم وجّه بإدخال تغييرات عليها. وذكر أمين الريحاني في تاريخه أنّ «الراية التي حملها الملك عبد العزيز في أول عهده كان الجزء الذي يلي السارية منها أبيض اللون، وكان فيها جزء أخضر، وكانت مربعة الشكل تتوسطها عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويعلوها سيفان متقاطعان»، ثم تَغيّر شكلها بعد ذلك فضمت سيفاً واحداً تحت الكلمات.

صورة من قرار مجلس الشورى رقم 354

وفي 1925 أمر الملك عبد العزيز بصياغة شكل عَلَم جديد. وفي 1937، صدر قرار مجلس الشورى بإقرار مقاس للعلم بطول 150 سنتيمتراً وعرض 100 سنتيمتر، ثمّ صدر في العام ذاته قرار مماثل بشأن العَلَم الوطني وتخصيص عَلم: الملك وولي العهد، والجيش، والطيران، والعَلَم الداخلي، والعَلَم البحري الملكي السعودي، والعَلَم البحري التجاري.

وعام 1952، صدر قرار مجلس الشورى بمقاسات أخرى للأعلام وتعديلاتها. وفي 1973، صدر قرار مجلس الوزراء بإقرار نظام العَلَم، وفي عهد الملك فهد ومع صدور النظام الأساسي للحكم عام 1991، حدد النظام طبيعة العَلَم: أن يكون لونه أخضر، وعرضه يساوي ثلثي طوله، وتتوسطه عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وتحتها السيف.

صورة من قرار الموافقة على نظام العلم السعودي في 1973

وحول ما يتداول مع كل مناسبة وطنية حول مَن قام بتصميم العلم السعودي بوضعه الحالي، يقول الطريّف: «هناك كثير من المعلومات المغلوطة المتداولة، لكن تصميم العلم السعودي متطور منذ أيام الدولة الأولى، ثم أعده مجلس الشورى بشكله الحالي وأقره الملك عبد العزيز في ذلك الحين».

ويتابع الطريّف شرحه أنه «أُشيع كثيراً، وتناقلت كثير من وسائل التواصل والإعلام أن علم إمارة نجد أو المملكة في بدايتها يحمل هلالاً بداخله، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، ولم يكن هناك أي ارتباط للهلال بأي علم من أعلام الدولة السعودية في أي فترة تاريخية».

دلالات العلم: العدل والقوة والنماء

جيش الملك عبد العزيز عام 1911 (الشرق الأوسط)

حول رمزية العلم ودلالته، يرى الطريف أن «العلم بشكله الحالي يشير إلى التوجيه والعدل والقوة والنماء والرخاء، حيث ترمز شهادة التوحيد التي تتوسطه إلى رسالة السلام والإسلام التي قامت عليها هذه الدولة المباركة، ويرمز السيف إلى القوة والألفة وعلو الحكمة والمكانة وإلى الأمن والأمان».

ويضيف: «أما اللون الأخضر، فيرمز إلى لون راية الإسلام كون اللون الخضر يرمز إلى السلام والعطاء والتسامح والماء، واللون الأبيض يرمز إلى النقاء الذي تتسم به المملكة العربية السعودية».

حاملو العلم عبر الزمن

حمل الراية في الدولة السعودية الأولى إبراهيم من طوق، وعبد الله أبو نهيه الذي قتل في أثناء حصار الدرعية عام 1818، وفي الدولة الثانية الحميدي بن سلمة، وصالح بن هديان، وإبراهيم الظفيري. أما مع الملك عبد العزيز، فأول مَن حمل الراية عبد اللطيف المعشوق في معركة استرداد الرياض عام 1902، وشارك فيما تلاها من المعارك، وقُتل في معركة البكيرية عام 1904، وحمل الراية بعده ابنه منصور المعشوق الذي قُتل في المعركة نفسها، ثم تسلم الراية عبد الرحمن بن مطرف وأبناؤه من بعده. وإلى هذا اليوم أوكل لبيت آل مطرف حمل الراية، علماً بأن هناك أفراداً وأسراً كثيرة تشرفت بحمل العلم السعودي في معارك وأماكن مختلفة.

خادم الحرمين الشريفين خلال العرضة وإلى يمينه الأمير تركي الفيصل وإلى يساره حامل الراية غالي بن مطرف

حالة خاصة

وحول مقولة اشتهر بها بأن «العلم السعودي حالة خاصة» أجاب الطريّف: «هو حالة خاصة؛ لأنه العلم الوحيد الذي لا يتم تنكيسه أو إنزاله إلى نصف السارية في حالة الحداد أو الكوارث والأحداث الكبيرة، كما أنه لا يستخدم في الرعاية والعلامات التجارية. كذلك تحظر ملامسته للأرض أو الماء، والدخول به لأماكن غير طاهرة، أو الجلوس عليه، كما أنه لا ينحني لكيان الضيوف عند استعراض حرس الشرف وفي حالة الحداد (المادة 16)، وهناك عقوبات حددها النظام لمخالفة نظام العلم».

خياطة العلم بين الداخل والخارج

وعن خياطة العلم السعودي والكتابة عليه، يشير الطريّف إلى أن المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرويشد قال في كتابه عن الراية السعودية: «كان يوكل بهما لبعض الأفراد من أسر الرياض المعروفة، ومَن تولاه في العصر الحديث عبد الله بن محمد بن شاهين وسعد بن سعيد»، وكان بن سعيد يوكل عملية تجهيز متطلبات العلم ولم يقوموا بخياطته. وتشير بعض الوثائق إلى أن الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، كان يوكل للشيخ عبد الرحمن الطبيشي شراء وتأمين بعض متطلبات الراية، كما أنه في مرحلة متقدمة في عهد الملك عبد العزيز صُنع العلم في عدد من الدول بطريقة قماش على قماش في أميركا وباكستان وبعض الدول العربية.

الحسني أول مَن خطّ العلم

وعن أول مَن خطّ العلم في عهد الملك عبد العزيز، يقول الطريّف: «من خلال البحث في هذا الموضوع لفترة طويلة امتدت أكثر من 36 عاماً، وقفت على أن من أوائل مَن خطّ العلم السعودي، هو الشيخ عمر عاصم الحسني وهو من الجموم في وادي فاطمة بمكة المكرمة، والذي ارتحل للعمل مع أسرته في الكويت وعمل في المدرسة المباركية ثم مديراً لها، وهو مَن خطّ علم الكويت القديم، الذي كان يحمل كلمة (كويت)، كما خطّ لوحة المدرسة المباركية وكونه خطاطاً طُلب منه أن يخطّ العلم السعودي في عهد الملك عبد العزيز في عام 1911 تقريباً».

وعندما أمر الملك عبد العزيز بافتتاح مصنع الكسوة الخاص بالكعبة المشرفة في عام 1926، كان من أوائل العاملين فيه الخطاط عبد الرحيم أمين عبد الله بخاري، الذي أوكلت له مهمة خط كسوة الكعبة المشرفة، ووضع خطوط بابها، والمدوّن اسمه عليه حتى اليوم. وكان طُلب منه أيضاً خط العلم السعودي في ذلك التاريخ والزخارف الخاصة به، وكان بخط الثلث العربي.

علماً بأن أنواع الخطوط على كثير من الأعلام التي عُرضت في مناسبات شرفها الملك عبد العزيز كانت مختلفة عن خط الثلث الرسمي كونها أُنجزت لدى خطاطين غير عرب، أو لدى مصانع في الخارج.

خطاط كسوة الكعبة المشرفة عبد الرحيم أمين (من أرشيف عدنان الطريف)

100 علم في يد الطريّف

وتحدّث الطريّف عن الرصيد الكبير من الأعلام السعودية القديمة، فقال: «أحمد الله أن من أبرز مقتنياتي هي الأعلام السعودية، فأنا أملك أكثر من مائة علم قديم ونادر بمقاسات وأشكال وخامات مختلفة ولمراحل عمرية مختلفة، من أهمها أعلام الدولة السعودية الأولى والثانية، التي استُخدمت في مراحل نشر الوحدة والأمن لهذه البلاد المباركة». وأضاف: «عملت جاهداً على رصد أكبر عدد من الأعلام النادرة الخاصة بالملك عبد العزيز منذ دخوله مدينة الرياض، التي استخدمت خلال مناسبات أو فعاليات أو استقبالات حضرها جلالة الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، إضافة إلى عدد من الأعلام الخاصة بسيارة جلالته. كما أنني امتلك أعلاماً خاصة استُخدمت في عهد الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، وداخل مقره وعلماً خاصاً بسيارته، بالإضافة إلى أعلام استُخدمت في زيارة الملك فيصل لأميركا عام 1945 وأعلام قديمة في عهد الملك خالد والملك فهد في زيارات خارج المملكة».

الملك عبد العزيز خلال حفل أقامته شركة «أرامكو» تكريماً لجلالته وتظهر مجموعة من الأعلام السعودية خلفه في1947

وأكمل: «ومن الأعلام المهمة لدّي العلم الذي كان بين الملك فهد والملك سلمان بن عبد العزيز خلال الحفل الذي أُقيم لجلالة الملك سعود بمناسبة توليه مقاليد الحكم في عام 1953. فقمت برصد الصور الخاصة بهذه الأعلام وقمت بفحص هذه الأعلام لدى أكبر المراكز في العالم لمعرفة صحتها وتاريخها وأصالتها، كما تم توثيقها لدى عدد من المهتمين، وكذلك الذين أوكل لهم حمل العلم (آل مطرف)، إضافة إلى ما يوضع أعلى السارية (الطاسة)، حيث أملك أكثر من 10 قطع من فضة ونحاس ومعدن استُخدمت جميعها في عهد الملك عبد العزيز. ومن أبرز وأهم مقتنياتي المتعلقة بالعلم (الراية) وثيقة نادرة ووحيدة ممهورة بختم الملك عبد العزيز بعد دخوله مدينة الرياض بـ7 سنوات ذات علاقة بتفاصيل كثيرة عن العلم السعودي».

مقتنيات نادرة ومتاحف وإرث

يتحدث الطريّف عن محتويات متحفه النادرة فيقول: «خلال مسيرتي البحثية استطعت، ولله الحمد، أن أكوّن متحفاً خاصاً بالإبل وآخر للخيل، وثالثاً للصقور، وهذه المتاحف تشتمل على قطع نادرة وقديمة أعمار بعضها تتجاوز 300 سنة، إضافة إلى الطوابع المتعلقة بكل فرع من كل دول العالم وكل ما كُتب عنها بالصحف الأجنبية والعربية منذ عام 1850 وجميعها أصول. وكذلك الصور المتعلقة بالإبل والخيل والصقور من مائة سنة وإلى الآن، كما أنني جمعت قطعاً متحفية من الأواني والأطباق والمباخر والدلال والساعات ولوحات السيارات الخاصة بمرحلة الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد، واستخدمت من قبلهم، كذلك قمت بجمع أبرز وأهم الهواتف التي استُخدمت في القصور الملكية منذ عهد الملك المؤسس مروراً بملوك المملكة والعدد الكبير من القطع النادرة المتعلقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وملوكها».

ولدى الطريّف تفاصيل قصة رفض السعودية تنكيس العلم بعد وفاة ملك العراق فيصل الأول، وهو ما أثار غضب البريطانيين.

مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة

والحال أنه بعد تعيين الشيخ إبراهيم بن معمر وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق في 1923 بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وكان اصطفاؤه في هذا المنصب الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين أي بغداد، أظهر ثقة العاهل السعودي بكفاءته. والمعروف أن جاليات سعودية كبيرة كانت تقيم في العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، فكان من مهامه الأساسية العناية بالرعايا السعوديين، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقّعة حديثاً بين الدولتين، وتطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه.

وأشرف ابن معمر خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي قام بها ولي العهد الأمير «الملك» سعود عام 1926. وعن ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن الشبيلي: «يذكر له ـ في تلك الفترة ـ تفكيره في عدم تنكيس العلم السعودي على هامش الحداد العام على وفاة ملك العراق، فيصل الأول، عام 1923، وهو تقليد تبنته الحكومة السعودية بعد ذلك التاريخ احتراماً للفظ الشهادة التي يحملها العلم». وأدى احتجاج البريطانيين على ترويج ابن معمر لزعامة الملك عبد العزيز في الجزيرة العربية وعلى صلاته القوية مع رؤساء العشائر، إلى نقله من بغداد بعد 5 سنوات من العمل الدبلوماسي.

انتقام من بريطانيا

وخصص إبراهيم الحسون في كتابه «خواطر وذكريات» (3 أجزاء 2003)، حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى أسلوب ابن معمر وخصاله، نظراً لكون الحسون عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة، فأورد في هذا الصدد حادثاً يؤكد موقفه الحازم من عدم مخالفة أوامر الدولة من أي كائن حتى لو صدرت من سفراء أو سفارات. فقد أصدر ابن معمر عندما كان يعمل «قائمقام جدة»، أوامره لرئيس بلدية جدة بضرورة قيام أصحاب بعض المنازل في شمال جدة بطلاء واجهاتها بالنورة البيضاء خلال مدة لا تزيد على أسبوعين، وبالفعل شرع أصحاب المنازل في تنفيذ الأمر وأصبح منظرها جميلاً يرتاح إليه النظر إلا منزلاً واحداً ظل على حاله ولم يتغير فيه شيء، وهو المنزل الذي يشغله مقر السفارة البريطانية. هنا استدعى ابن معمر رئيس البلدية علي سلامة مرة أخرى، وسأله عن عدم طلاء البيت الذي تشغله السفارة البريطانية، وهل تم إبلاغهم بذلك، فأجاب بأنه أبلغ مالك المبنى وعندما بدأ في التنفيذ رفض المسؤولون بالسفارة السماح للعمال بالعمل. وعند الاتصال بالمسؤولين في السفارة، أوضحوا أن امتناعهم، هو إنفاذ لأمر السفير البريطاني الذي قال إن المبنى يعدّ أرضاً بريطانية، وإنه لا يسمح بتلقي أي أمر بشأنه ما دامت السفارة تشغله. وعندما سمع ابن معمر هذا الكلام، انتفض صارخاً في وجه رئيس البلدية، طالباً منه أن يذهب في الحال ويبلغ المسؤولين في السفارة بضرورة تنفيذ الأمر؛ لأن الحكومة السعودية دولة مستقلة، ولا تسمح لأي إنسان بأن يخالف أوامرها داخل بلادها، وأنّ على رئيس البلدية إمهالهم 3 أيام لكي ينفذوا الأمر، وإلا فإن القائمقام سيأمر بتنفيذه بالقوة وليفعل السفير ما يشاء. خرج رئيس البلدية من المقابلة ساخطاً، لأنه سمع من ابن معمر ألفاظاً حادة، كلها لوم وتوبيخ. وفي اليوم الثالث لهذا الحدث، نصبت «السقالات» على مبنى السفارة وبدأ العمل بطلائه على الفور.


مقالات ذات صلة

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تحقيقات وقضايا العلم مرفوعاً منذ قيام الدولة الأولى

العَلم بيرق الشرعية الدستورية السعودية ورايتها

تكتسب المناسبات الوطنية السعودية أهمية خاصة، خصوصاً لجهة تفرد العلم السعودي بشكله وتصميمه ودلالاته ومضامينه؛ فهو يعكس عمق الدولة وعراقتها.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض )

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.