لم يكن التصدي لآفة الكذب الشائنة هو ما استوقفني في كتاب فرنسوا نودلمان «عبقرية الكذب»؛ لأن الكثيرين من علماء النفس والاجتماع والأخلاق قد تصدوا لهذه الفكرة بالدرس والتحليل والتمحيص، بل إسناد صفة العبقرية إلى واحدة من السلوكيات البشرية التي طالما وضعتها الشرائع السماوية والأرضية في خانة الصفات السلبية والمرذولة. إضافة إلى أن عبارة «هل كذب كبار الفلاسفة؟»، التي ألحقها المؤلف بالعنوان، قد حفزتني على قراءة الكتاب، لا بدافع الفضول وحده، بل بهدف الوقوف على ما خفي من سلوكيات النخب المبدعة التي يُفترض بها أن تكون مثالاً يُحتذى في النزاهة والصدق، وأن تقدم لقرائها ومتابعيها القدوة والنموذج الأعلى في الصدق والنزاهة والانسجام مع النفس.
أما حرص المؤلف على وضع العنوان الفرعي للكتاب في صيغة الاستفهام، فأقل ما يقال فيه إنه طريقته الحاذقة في تشويق القارئ، وفي طرح الموضوع المُتصدى له كإشكالية بحتة قابلة للدحض أو الإثبات، بما يعفيه من تهمة الافتئات والتعسف في إطلاق الأحكام المسبقة والقاطعة. ومع أن نودلمان يؤكد في تقديمه لكتابه، أنه لا يهدف إلى التشهير بأحد من الذين وضعهم على مشرح النقد والمساءلة، ولا إلى إدانة الكذب بوصفه عملاً غير أخلاقي، فإنه لا يألو جهداً في فضح التناقضات القائمة بين المبادئ والقيم التي يدعي الفلاسفة اعتناقها، وبين ممارساتهم الفعلية على أرض الواقع.
وإذ يحرص نودلمان على أن يكون لكتابه الأثر الصادم في نفوس القراء، لا يتناول بمبضع النقد مفكري الظلال ولا الهامشيين من الفلاسفة، بل أولئك الذين شكلوا خلال القرون الثلاثة المنصرمة، الجزء الأهم من ثقافة الغرب المعاصر وسلوكياته ووعيه الجمعي، بدءاً من جان جاك روسو وكيركغارد ونيتشه ووصولاً إلى ميشال فوكو ورولان بارت وسارتر وسيمون دي بوفوار وآخرين.
وفي تناوله لجان جاك روسو يعد المؤلف أن صاحب «العقد الاجتماعي»، الذي نقش على خاتمه عبارة «نذرَ حياته في خدمة الحقيقة»، لم يكن في سلوكه الحياتي النموذج الأمثل للقيم التي نظّر لها ودعا إلى اعتناقها. فالرجل الذي آلى على نفسه اعتناق الصدق والجرأة في تعرية الذات، والذي عد اليوم الذي جمعه بزوجته تيريز لوفاسور تاريخاً لولادته الفعلية ككائن أخلاقي، هو نفسه الرجل الذي تخلى عن أطفاله الخمسة ليضعهم في دار حكومي لتربية الأطفال الأيتام والمُتَخلى عنهم من قبل آبائهم وأمهاتهم. وقد عد نودلمان أن الأسباب التي قدمها روسو لتبرير فعلته تلك، ومن بينها هشاشة ظرفه الاجتماعي وعدم أهلية زوجته تيريز لتربية الأطفال، لم تكن سوى نوع من الذرائع غير المقنعة التي لفقها صاحب «الاعترافات» لكي يتمكن من ذر الرماد في عيون معاصريه. كما عد المؤلف لجوء روسو إلى محاكمة نفسه في كتابه «روسو يحاكم جان جاك»، لم يكن سوى نوع من الفولكلور المضلل، الذي قصد منه تقديم نفسه إلى العالم بوصفه شهيد الحقيقة وقربانها الأيقوني.
ولم تكن تجربة سورين كيركغارد لتختلف كثيراً عن تجربة روسو، من حيث الشروخ الفاصلة بين المفاهيم النظرية، وبين تطبيقاتها على الأرض. على أن كيركغارد نفسه لم ينكر ما وُجّه إليه من تهم الازدواجية والانقلاب على النفس. ولأن الحياة عنده لا تؤتى من زاوية واحدة، فهو يلجأ إلى الكتابة بعدد من الأسماء المستعارة، التي تسمح له بالتلطي خلف تلك الأسماء والتنصل من طروحاتها ورؤيتها للحياة. وإذ يعترف الفيلسوف الدنماركي الوجودي بأنه يكتب عكس ما يعيش، يقر بأن أكثر نصوصه إباحية كانت تحضره في لحظات الزهد، وبأن كتابه «يوميات زير نساء» قد تم تأليفه في أروقة أحد الأديرة، أثناء انغماسه في تجربة روحية عميقة. كما أن الفيلسوف المنافح عن فضائل الزواج، لم يكتف بالإحجام عن الدخول في المؤسسة الزوجية، بل فسخ خطوبته دون سابق إنذار مع حبيبته ريجين أولسن، التي لم تجد ما تستعين به على آلامها، سوى الزواج من منافس كيركغارد اللدود فريدريك شليغل.
وفي سياق نظريته الافتراضية حول ازدواجية الفلاسفة ونفاقهم، يرى نودلمان في علاقة سيمون دي بوفوار الغرامية مع الكاتب الأميركي نيلسون ألغرين، البرهان الأكثر وضوحاً على الفجوة العميقة القائمة بين منظومتها الفكرية النظرية وبين سلوكها الفعلي. فسيمون دي بوفوار التي تطلق عبارتها الشهيرة «المرأة لا تولد امرأة بل تصير كذلك»، تلح في الوقت ذاته على تفكيك السياقات الاجتماعية التقليدية التي تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل، منيطة بها جميع المهام المنزلية والعائلية والجسدية التي تحولها إلى خادمة ومربية وأداة للمتعة والإنجاب. ولا تكفّ صاحبة «الجنس الآخر» عن تذكير المرأة بأنها مساوية للرجل وندٌّ له، أو حثها على الإعلاء من شأن نفسها بالقول «أن تكوني امرأة في نظر أحد الرجال، وأن تشعري بالوجود من خلاله، وألا تدركي معنى للحياة إلا من أجله، فهذا كله يتنافى مع مشروع المرأة المستقلة». لكن دي بوفوار إذ تقع في غرام ألغرين، لا تجد حرجاً في نسف مقولاتها تلك من أساسها، وفي إعلان إمحائها الكامل إزاء رجلها المعشوق، ولا تتحرج من القول له: «أشعر بأنني جزء منك، وأنني ضفدعتك الصغيرة العاشقة، وأنا أتقبل راضية تبعيتي لك، طالما أنني أحبك». كما لا تتورع الفيلسوفة المناهضة لانفراد المرأة بأعمال السخرة المنزلية، عن المزيد من الخضوع وتقديم التنازلات، فتكتب لألغرين: «آه يا عزيزي نلسون. سوف أكون لطيفة وعاقلة، وسوف تراني أنظف المنزل، وأُعدّ لك جميع أنواع الطعام».
وإذ يقف نودلمان ملياً إزاء شخصية سارتر ذات الحضور الكاريزمي والأثر البالغ على معاصريه، فإنه يركز على الشروخ العميقة التي حكمت سلوكيات الفيلسوف الفرنسي الأشهر، سواء من حيث علاقاته العاطفية ذات النمط الشهواني الاستحواذي، أو من حيث التناقض التام بين فلسفته الوجودية التي تتحدث بلغة الأنا وترفع الحرية الفردية إلى رتبة المقدس، وبين دعوته اللاحقة إلى الالتزام، حيث سارتر الذي يدسّ أناه الفردية في ضمير الـ«نحن» الجمعي، لم يكفّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عن التحدث باسم الآخرين، وكأنه «يريد الحلول مكانهم، سواء أكان ذلك بحسن نية أم بإساءة استخدام اللغة».
على أن وجاهة أفكار نودلمان وذكاءه الحاد في التقاط التناقض الفصامي القائم بين تنظيرات الفلاسفة وسلوكياتهم، لا يعفيان القارئ من ملاحظة خلطه، المتعمد على الأرجح، بين المفاهيم والمصطلحات، بحيث إن ما عده كذباً، قد يكون جزءاً من الطبيعة الملتبسة لعلاقة اللغة بالواقع. فالأولى تقوم على التصور المثالي للعالم، واختبار الحيوات المتخيلة، كما يقول فلوبير، فيما تتصل الثانية بالممكن والمتاح والمعيش. كما أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان، والمبدع على نحو خاص، ليس دوغما واحدة ونهائية، بل يمكن له أن يتغير مع الزمن وأن ينقلب على مقولاته وأفكاره السابقة. ومع أن نقده لازدواجية سيمون دي بوفوار يعكس بذكاء لافت واحدة من زوايا الحقيقة، إلا أنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن من كتبت «الجنس الآخر» وسواه، هي دي بوفوار المفكرة والمناضلة في مجال الحرية والعدالة والمساواة بين الجنسين، فيما أن من أحبت ألغرين، هي دي بوفوار الأنثى ذات العاطفة المتقدة التي استيقظ جسدها من سباته.
لا أعرف إذا ما كان فرنسوا نودلمان قد اطلع على المقولة العربية الشهيرة «أعذب الشعر أكذبه»، أو قرأ القرآن الكريم، قبل أن يشرع في تأليف كتابه المثير والإشكالي
لا أعرف أخيراً إذا ما كان فرنسوا نودلمان قد اطلع على المقولة العربية الشهيرة «أعذب الشعر أكذبه»، أو قرأ القرآن الكريم، قبل أن يشرع في تأليف كتابه المثير والإشكالي. وسواء كانت الإجابة بالسلب أو الإيجاب، فإن نعت الآية الكريمة للشعراء بأنهم «في كل وادٍ يهيمون»، وأنهم «يقولون ما لا يفعلون»، هو عين ما نعت به نودلمان فلاسفة الغرب الذين تناولهم بالدراسة. ومن غرائب المصادفات أن يعمد هانس أنتنسبرغر إلى تأكيد المقولة التي تربط بين الكتابة والكذب. ففي قصيدة له بعنوان «مزيد من الأسباب بأن الشعراء يكذبون»، يعمد الشاعر الألماني إلى دعم فرضيته بما يلزمها من البراهين والقرائن، ومن بينها «أن اللحظة التي تُلفظ فيها كلمة السعادة، ليست اللحظة السعيدة أبداً، وأن الميت عطشاً لا ينبس ببنت شفة، وأن الكلمات تصل متأخرة جداً أو مبكرة جداً، وأن مَن يتحدث هو شخص آخر على الدوام، فيما يلوذ بالصمت الشخص الذي يدور حوله الحديث!».