شعرية الفكرة ومساءلة الماضي

الشاعر المصري عاطف عبد العزيز في «غياب حر»

شعرية الفكرة ومساءلة الماضي
TT

شعرية الفكرة ومساءلة الماضي

شعرية الفكرة ومساءلة الماضي

بومضة شعرية مقتطفة من قصيدة للشاعر الفرنسي شارل بودلير، يسخر فيها من فجاجة العواطف الإنسانية، ويرثي روحه التي كانت تبدو شاسعةً كقبة السماء، يصدِّر الشاعر عاطف عبد العزيز ديوانه «غياب حر». لكن ما علاقة بودلير بهذا الديوان وهو الشاعر الرجيم الذي قاده شعره في القرن الثامن عشر إلى المحاكمة، واتهم ديوانه «أزهار الشر» بإشاعة الرذيلة وإفساد الأخلاق والذوق العام، أما ديوان «غياب حر»، الواقع في نحو مائة صفحة، فقد صدر عن هيئة الكتاب، وهي مؤسسة حكومية، ويتعامل مع الشر بمنطق الألفة والغرابة كحقيقة من حقائق الوجود. يتبلور ذلك في إطار رؤية مشغولة بشعرية الفكرة ومساءلة الماضي، وعبر مسافة افتراضية رخوة مقتطعة من جسد الزمن وسماها بهذا الاسم المراوغ «غياب حر»، ليظل السؤال معلقاً ما بين قوسي المفارقة والباب الموارب، نصف المفتوح.

ومن ثم: هل يناور الشاعر الحرية من نافذة هذا الغياب، أم يطل على الاثنين معاً بقوة الخيال، بحثاً عن حكمةٍ ما، ضائعة ومفتقدة، ربما في طوياها تكمن خلاصة تجربة شعرية لها مدها وجذرها ويقينها الخاص؛ أم أن الأمر يعكس حالة من «النوستالجيا» لأماكن وأزمنة وأشياء وخطى بشر وذكريات لا تزال عالقة صورها وملامحها في سقف هذا الغياب العابر المقيم، الذي ترتطم فيه الذات الشعرية بكينونتها، وهواجسها وأحلامها ورؤاها، وقبل كل شيء ترتطم بحريتها وشهوتها المقموعة المفتقدة للأنثى، التي تتحول بدورها في أغلب قصائد الديوان إلى مرثية مرّةٍ ومرآةٍ كاشفةٍ لهذا الغياب المباغت. ما يشي بأنه ليس غياباً حراً بقدر ما هو انعكاس لمرآة الأنوثة المهشّمة، وفي شظاياها لا تجد الذات الشاعرة وسيلةً للحفاظ على هذه الكينونة سوى الإيهام بالتآمر حتى على نفسها، وعلى هذه المرآة، متشبثة بشعرية الفكرة كإطار يحفظ لها شكلاً من التوازن بين المع والضد، بالإضافة لما تتمتع به هذه الشعرية من إعمال للعقل، ووقاية للذات من الوقوع في مغبة الترهل والاجترار. لذلك تعلن الذات الشاعرة بشكل واضح لا لبس فيه في مستهل النص الثاني بالديوان، الذي يحمل عنوان «Master Scene» أو المشهد الرئيس بلغة السينما قائلةً: «قتلتُ ربّة الغرام». لكن ربّة الغرام هذه ليست كائناً هلامياً أو رمزياً، إنما تتجسد صورتها في مصرع الفنانة الجميلة «سندريلا الشاشة» سعاد حسني، وسقوطها المروع من إحدى البنايات بالعاصمة البريطانية لندن عام 2001، الذي تحول إلى لغز لا تزال تلفه طبقات من الغموض.

يتـأمل الشاعر وقائع هذه المأساة، وينسج على غرارها جريمته الشعرية الخاصة، مستدرجاً ربة الغرام وهي تتسكع في منتصف الليل على حافة النهر ويعد لها كأساً مسمومة تودي بحياتها:

قلت: أنا رجل حزين،

ترك في البيت زجاجةً كاملةً

من شراب معتّق

وليس ثمة من ينادمه

تبسمتْ المرأةُ بشفتين مضموتين،

ثم قالت: لا بأس شريطة أن تعيدني إلى هنا

قبل انقضاء الليل

إن التناص يتحول هنا إلى شكل من أشكال التقمص للشخصية المستدعاة، وتتحول الذات إلى قناع لها، تلاعبها من خلفه، وتتبادل معها الأدوار، وفي الوقت نفسه تحافظ على مسافة رهيفة بينهما، توهم في ظلالها بأنها الجاني والضحية معاً، ومن ثم يبدو القناع وكأنه الشيء واللاشيء معاً... فهكذا لا يفرغ الشاعر من المشهد الدراماتيكي المتخيل تماماً، فحين يصل إلى لطشة النهاية يجعلها مفتوحة بقوة المفارقة على تخوم البدايات:

«قتلت ربَة الغرام

وليس عندي الآن ما أفعله.

أمضى النهارَ بطوله،

أخوض في نعمائي

كغيري،

حتى تكلَّ ساقاي.

وفي الليل

أتمدّد على أريكتي وإلي جواري كأسٌ مسمومة.

غير أنني، لا أجد من يحمل جثتي إلى الماء».

تتنوع شعرية الفكرة في الديوان، وتلعب دوراً لافتاً في الدلالة على المكان والزمان، وبناء إطار جذاب لهما، وبروح مسكونة بالفرح والخوف معاً تتحول في بعض القصائد إلى مفتاحٍ للبوح وتعرية الذات في مرآتها الخاصة، على شكل ومضات لاعجة من النجوى الداخلية، يختلط فيها الحلم بالواقع، وتحت نثار الذاكرة يبدو الشاعر وكأنه يفتش عن لغة أخرى في المشهد، لغةٍ تبدأ بعدما تنتهي لغة النص المكتوبة، مفسحةً المجال لمساحة أوسع تتنوع فيها القراءة والتفاصيل بقوة التخييل، ورهافة الالتقاط، وإعادة الاعتبار لحاسة اللّمس كسلاح للتذكر والتعرية والكشف.

لسنا إزاء إحالة لقضايا وجودية أو فلسفية مطلقة، إنما إزاء مناورة شعرية لذات ملتاثة بالحنين، ترى العالم والعناصر والأشياء وكأنها ظل وأثر لشيء ما مضى، لذلك يبدو الانزلاق إلى الحرية هو الخيار الوحيد أمامها، تتمسح به وتعزّز من خلاله وجودها وبناء عالمها من جديد في هذا الديوان؛ منوعةً مناورة هذا الانزلاق من زوايا عدة، فتارة نراه يتأرجح ما بين الحضور والغياب، وتارة ما بين الماضي والحاضر، والخاص والعام. ويبدو الشاعر في غبار كل هذا، كأنه يقف على حافة شائكة للزمن، يتأمله ببصيرة يقظة وأناقة مخيلة وهو يبتكر مداراته، ويتباهى بأنه سرمدي لا يبلى، مهما انمحت من حوله صور الأشياء وخفُت ضجيج الكائنات. ربما نفهم من ذلك مغزى هذا الغياب في صيرورته الحرة، وأنه ابن الفكرة، التي لم تعد متسقةً مع الإناء وما يحتويه، بعد أن تشعبت علاقاته في آفاق مخاتلة ومغايرة، لا تبالي بالإناء نفسه، وما يعتمل فيه من شروخ تهدده بالكسر والزوال.

هذا الهم يطالعنا على نحو واضح في النص الأول من هذا الديوان بعنوان «الكـتَّانة»، حيت يمر الحب ونزقة العاطفي بمحطات من المسرات والآلام، ثم في أزمنة تتناسخ وتكرر في نص «جنة المطاريد»، ولا يبقى أمام الذات الشاعرة سوى استعادة رتوش المشهد ولملمته في فضاء صورة لم تستطع الأيام أن تثبتها في الجدار، أو تمنحها الفراغ المناسب في الألبوم، أو تضعها بعناية فوق الرّف... يقول في نص «الكتَّانة»:

رِعدةٌ خفيّةٌ

لم تزل بيننا يا سيدةَ الأخطاء،

وكأنها غدَرةُ العطر المسحور.

على هذا المنوال يستمر المشهد في اللعب على الفكرة كمرتكز مكاني وزماني، يشي بتحولاتهما المبثوثة في الطبيعة وحركة الأشياء والعناصر، وما يكمن وراءهما من ظلال ومفاجآت، تنعكس بحدة وقسوة على مفردات الواقع المعيش الماثل للعيان. يمكنا أن نرصد هذا في قصائد: «ليس بالقرب منّا دير»، «صباح الخير يا إسكندرية»، «أيام اللالا»، «تحت ظل دموي» وغيرها؛ حيث الفكرة ليست مكتفية بذاتها، ولا هي إفراز لها، وإنما تحيل دوماً على الآخر، وهنا تكمن حيويتها شعرياً وجمالياً، وندرك أن هذا الغياب الذي يوهم به الديوان عابر، لا يتمسح بالحرية أو يتعامل معها كتكأة للعبور، إنما يرتكز عليها كفعل وجود، يصنع له امتداداً في النص بتعدد حقول التناص وتنوعها في الديوان، ما بين أمكنة وأزمنة وأفلام، وشخوص تركوا شيئاً يبقى في الحياة، منهم شعراء وكتاب وفنانون: صلاح جاهين، كفافيس، بهاء طاهر، الشيخ إمام، أم كلثوم، وغيرهم ممن أشار إليهم الديوان في هوامشه وإشاراته.

من بين هذه الحقول قصيدة بعنوان «حوار صامت في المدينة الضاجة» مهداة إلى الشاعر الراحل محمود نسيم، وتمثل خاتمة الديوان.. يبدو المشهد في نهايتها على هذا النحو:

«تتسع حولنا دوائر النثار الآدمي

وقد خلا من الحنين

كل شيء بات جاهزاً يا محمود

كي ينخفض في بيوت عين شمس سقف الخيال

ما يجعل لغيابك الآن معنى فريداً

..عديدَ الطبقات

كلما رفعنا واحدةً

بان غيرها»

تستدعي القصيدة حفنةً من الذكريات الخاصة مع الشاعر الراحل، يختلط فيها الهم العام والخاص، لكنها لا تبرح أفق التذكر، ويظل الحوار يراوح ما بين التقرير، والإيهام بالبحث عن إجابات لأسئلة لم تطرح أصلاً في النص.

ما يجعلنا أمام ذهنية الصورة الشعرية... حيث الصورة ابنة الفكرة، لا الخيال، ليست متشككة، أو متسائلة متمردة، تلفها الحيرة أحياناً، لكنها تحيل هذه الحيرة إلى منطق الواقع المادي، لتصنع نوعاً من التآلف بينها وبينه ولو بمديح القسوة.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».