تشهد تقنيات الـ«بلوك تشين» تغييرات هائلة تلقي بأثر كبير على قطاع الخدمات المالية؛ فالتمويل اللامركزي وعملات البنوك المركزية الرقمية تغيّر سبل إجراء المعاملات المالية وطريقة صياغة الخدمات وتقديمها. فهذه التقنيات لا تُحدث تحولاً جذرياً في قطاع الخدمات المالية التقليدي فحسب، بل تتيح آفاقاً جديدة لابتكارات خلاقة وتمهد الطريق نحو تعزيز الكفاءة وترسيخ الشمول المالي.
نمو التمويل اللامركزي
يمثل التمويل اللامركزي نقلة نوعية في عالم الخدمات المالية، ويقدم مستويات غير مسبوقة من اللامركزية، والكفاءة، وسهولة الوصول. وتقود هذه السمات الثورية التطور والنمو السريع للتمويل اللامركزي، وتغيّر بشكل عميق من سبل تفاعلنا مع خدمات الدعم المالي.
وفي مشروعات التمويل اللامركزي، يتصاعد زخم تجربة خيارات الحوكمة اللامركزية، حيث تمنح مثل هذه الإجراءات المستهلكين مزيداً من التحكم في عمليات تطوير وتوجيه منصات التمويل اللامركزي. وتجسد مثل هذه الخطوات جهوداً حثيثة نحو إضفاء طابع عادل على الخدمات المالية يضمن الإصغاء لآراء المستخدمين ومراعاتها ضمن المنظومة المالية بالكامل.
يزداد الاهتمام المؤسسي بالتمويل اللامركزي والعملات الرقمية بشكل ملحوظ؛ إذ تجذب العملات الرقمية شهية كبار اللاعبين لما تقدمه من عوائد كبيرة وقدرتها على حماية رؤوس الأموال من التضخم. ومن جانب آخر؛ بدأت تتضح الأطر التنظيمية لقطاع التمويل اللامركزي بشكل أكثر دقة، وهو ما يعدّ أمراً أساسياً في ضوء ما يشهده هذا القطاع من توسع مستمر وتوجه متنامٍ نحو تبني خدماته.
ويمثل وصول تقنيات «الويب 3.0» أمراً ملحوظاً في خضم السيناريوهات المتغيرة لقطاع التمويل اللامركزي؛ إذ تعزز هذه التقنيات من سبل تفاعل الناس من خدمات التمويل اللامركزي. لذلك نجد الشركات المتمرسة في هذا المضمار، تعمل على إطلاق إمكانات تقنيات «الويب 3.0» في سياق خدمات التمويل اللامركزي، لتحقيق التكامل بين كثير من المحافظ، لتتيح للمستخدمين الوصول لأصول التمويل اللامركزي، والتطبيقات اللامركزية، وأسواق الرموز غير القابلة للاستبدال، بسرعة وسهولة كبيرتين.
وينطوي مثل هذا المشروع على أهمية كبيرة لجعل التمويل اللامركزي أكثر سهولة في الاستخدام ومتاحاً بيسر كبير. ويعكس هذا المشهد المتغير الذي يضع خدمات التمويل اللامركزي في متناول كل من يحتاجه دون أي عوائق. كما أن محاولاتنا لتأسيس منظومة مزدهرة من الرموز غير القابلة للاستبدال والتشجيع بشكل شامل على استكشاف عالم «الويب 3.0» بشكل قائم على المكافآت، هي خطوات رئيسية نحو وضع خدمات التمويل اللامركزي في متناول الجميع، مع تعزيز قدرتها على تلبية شتى الاحتياجات.
تبني الـ«بلوك تشين» على المستوى المؤسسي
يكتسب استخدام الـ«بلوك تشين» على مستوى المؤسسات زخماً متصاعداً ضمن كثير من القطاعات؛ إذ باتت الشركات تعتمد على هذه التقنيات لتحسين عملياتها، وتعزيز موثوقيتها، وتبسيط إجراءاتها المعقدة. وهنا بعض السمات المهمة لهذا التوجه:
1- تمنح تقنيات الـ«بلوك تشين» الشركات القدرة على تتبع حركة البضائع، وتقديم الخدمات، وتدفق المعلومات، عبر تزويدها بأسلوب لامركزي واضح لتوثيق المعاملات. ويقود ذلك لتعزيز كفاءة وشفافية العمليات، ويحد من معدلات حدوث الخطأ والاحتيال.2- إن الثبات الذي تتمتع به تقنيات الـ«بلوك تشين» هو من مزاياها الرئيسية. فعند إضافة البيانات لشبكة الـ«بلوك تشين»، لا يمكن تغييرها دون الحصول على موافقات الشبكة بالإجماع. ولأنها تكفل نزاهة البيانات المخزنة، تعدّ هذه الميزة أمراً حيوياً للمؤسسات لتعزيز موثوقيتها بين الأطراف المعنية بأعمالها.
3- تعدّ العقود الذكية ذاتية التنفيذ؛ لأن محتوى العقود يوضع بشكل مباشر ضمن التعليمات البرمجية. وعند تلبية معيار محدد، تدخل أحكام العقود حيز التنفيذ بشكل تلقائي. وتبسط هذه العملية المؤتمتة من إجراءات الشركات المعقدة، وتحد من الحاجة للوسطاء، وتقلص من تكاليف المعاملات.
4- إن طبيعة شبكات الـ«بلوك تشين» المشفرة تقدم حماية مثلى للبيانات الحساسة، لذلك يشهد استخدامها نمواً متصاعداً لحماية البيانات في قطاعات مثل الرعاية الصحية، حيث تعدّ خصوصية المريض أمراً لا يقبل القسمة على اثنين. ويمكن لهذه الخصائص مساعدة الشركات على الوفاء بالتعهدات التنظيمية عبر تقديم سجلات مدققة تتسم بالشفافية، ومعاملات موثقة بالوقت. لذلك يعدّ هذا الانفتاح أمراً أساسياً لإعداد تقارير التنظيم والامتثال.
عملات البنوك المركزية الرقمية
يعدّ تبني عملات البنوك المركزية الرقمية توجهاً مالياً بارزاً؛ إذ يعكف كثير من الدول على بحث تبني عملاتها الرقمية الخاصة أو تعمل بكفاءة على تطويرها بالفعل. وتعدّ عملات البنوك المركزية الرقمية من أحدث التوجهات الراهنة لرقمنة الاقتصاد؛ إذ يغير هذا التوجه كلياً من سبل إدارة الأموال ويرتقي بالمشهد التجاري حول العالم.
وتعدّ عملات البنوك المركزية الرقمية بمثابة عملات رقمية أو افتراضية تصدرها البنوك المركزية للدول وتخضع لضوابطها ولوائحها التنظيمية. وتمثل نسخاً رقمية من الأموال الفعلية للدول وتحظى بدعم الحكومة بدلاً من العملات الرقمية اللامركزية.
وتعدّ قابلية البرمجة التي تتمتع بها عملات البنوك المركزية الرقمية من أبرز خصائصها وسماتها. فعندما تُستوفى معايير محددة، يمكن تفعيل أتمتة المدفوعات وتنفيذ العقود، بما قد يحول جذرياً من سبل مزاولة مختلف القطاعات أعمالها، على غرار ضمان تحصيل مدفوعات الشؤون الاجتماعية، والضرائب، والتزامات الاتفاقيات المالية.
ويمكن لعملات البنوك المركزية الرقمية تحسين الشمول المالي، وذلك عند غياب الخدمات المصرفية التقليدية بشكل رئيسي؛ لأنه يمكن الوصول إليها عبر الهواتف المتحركة والقنوات الرقمية الأخرى، بما يتيح وضعها في متناول شرائح سكانية أوسع.
وتمنح هذه العملات الرقمية البنوك المركزية أداة جديدة لإدارة السياسات النقدية؛ إذ يمكنها مساعدة هذه البنوك في تعزيز سيطرتها على التدفق المالي ومعدلات الفائدة، في حين تمنحها معلومات مفيدة حول النشاط الاقتصادي.
إن توفير أطر تنظيمية لعملات البنوك المركزية الرقمية، لا سيما للمعاملات بين الدول، هو أمر أساسي. ويشمل ذلك التعامل مع المسائل القانونية والتنظيمية والامتثال للوائح المالية الدولية.
تحسين تعليم الـ«بلوك تشين»
ألقى الطلب المتنامي على الأشخاص المتمرسين في أعمال الـ«بلوك تشين» الضوء على ضرورة تحسين تعليم الـ«بلوك تشين»، فهذا التوجه التعليمي الواسع يعدّ أمراً أساسياً لإعداد الكوادر البشرية القادرة على المساهمة في ذلك وتعزيز زخم الابتكارات التعليمية لمواكبة التغير المتسارع في هذا القطاع. وهنا بعض الملاحظات من هذا التوجه:
1- تعمل المؤسسات التعليمية حول العالم على تطوير دورات تعليمية وبرامج أكاديمية تركز على الـ«بلوك تشين». وتغطي الصفوف الدراسية في هذا المجال كثيراً من الموضوعات؛ بدءاً بأسس الـ«بلوك تشين»، إلى الأفكار الأكثر تقدماً، مثل العقود الذكية، والتطبيقات اللامركزية، وأمان الـ«بلوك تشين».
2- تلعب منصات التعليم الإلكترونية دوراً أساسياً في توفير وصول عادل وشامل لتعليم الـ«بلوك تشين»؛ إذ تقدم مجموعة من الدورات التعليمية لجميع الأشخاص على اختلاف مستوياتهم، من المبتدئين إلى الخبراء المتمرسين. وتتيح هذه المنصات المرنة للطلاب الدراسة وفق وقتهم الخاص وراحتهم.
3- تكتسب أيضاً ورشات العمل المكثفة والمخيمات التعليمية زخماً متصاعداً، حيث تقدم المعرفة والمهارات العملية حول سبل تطوير الـ«بلوك تشين» وتطبيقاته. وتوجه هذه البرامج قصيرة المدّة تركيزها نحو صقل مهارات الملتحقين بها بسرعة وتأهيلهم للمسارات المهنية في مجالات الـ«بلوك تشين».
وبينما يشهد تعليم الـ«بلوك تشين» اهتماماً متزايداً، فإن الصعوبات، مثل نقص المناهج المحددة والتطور التكنولوجي المتسارع، لا تزال بحاجة لإيجاد حلول لها. وتمنح هذه التحديات على أي حال فرص التعلم المستمر وتفتح آفاقاً واسعة لمواصلة تطوير تقنيات التدريس المبتكرة.
الـ«بلوك تشين» المدعوم بالذكاء الاصطناعي
يشهد إدخال الذكاء الاصطناعي على تقنيات الـ«بلوك تشين» تطوراً مستمراً ليرسم ملامح جديدة كلياً لمستويات الكفاءة والمرونة في شبكات الـ«بلوك تشين». ويقدم هذا التقارب بين الذكاء الاصطناعي والـ«بلوك تشين» كثيراً من المزايا والابتكارات، مثل:
خوارزميات الـ«بلوك تشين» التي يمكن استخدامها لتعزيز أمان شبكات الـ«بلوك تشين»؛ إذ يمكنها المساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية، على غرار معاملات الاحتيال أو خروقات الشبكات، عبر دراسة الأنماط والتعرف على المشكلات.
وعلاوة على ذلك، يمكنها تحسين معالجة المعاملات عبر شبكات الـ«بلوك تشين» عبر توقع أوقات الذروة وتنظيم حمولات المعاملات. ويقود ذلك لتقليص زمن معالجة المعاملات ويقلل من الضغط على شبكات الإنترنت. وفي مجال إدارة سلسلة الإمداد، يمكن للذكاء الاصطناعي تقييم البيانات عبر شبكة الـ«بلوك تشين» لتحسين العمليات اللوجستية ونشاطات إدارة المخزون.
يقدم إدخال الذكاء الاصطناعي في مجال «البلوك» إمكانات هائلة لفحص الكميات الهائلة من البيانات المحفوظة على شبكات الـ«بلوك تشين». وبناءً على تحليلات مباشرة للبيانات؛ يقود ذلك نحو الخروج برؤى مهمة للأعمال بما يحسن من دقة اتخاذ القرارات. فالذكاء الاصطناعي قادر على مساعدة شبكات الـ«بلوك تشين» في تحقيق التوسع المطلوب عبر تطوير موارد الأنظمة وزيادة الإنتاجية دون المساس بمستويات الأمان أو اللامركزية المنشودة.
التشغيل البيني لشبكات الـ«بلوك تشين»
يعدّ التشغيل البيني لشبكات الـ«بلوك تشين» تطوراً كبيراً تتصاعد أهميته بشكل مطرد في ضوء التطور التكنولوجي المتواصل. ويتجلى هذا المفهوم في القدرة على تأمين التواصل ومشاركة المعلومات بين شبكات الـ«بلوك تشين» المختلفة، التي تتيح إجراء المعاملات بشكل أكثر سهولة ضمن عدد من المنصات.
ويمنح التشغيل البيني القدرة على التواصل بين عدد من شبكات الـ«بلوك تشين»، بما يعزز التعاون بين مختلف الجهات. ويعدّ هذا الأمر مفيداً على وجه الخصوص عندما تستخدم الأطراف المعنية منصات أخرى لـ«البلوك تشين»، في حالات مثل إدارة سلسلة الإمداد.
ويمكن للمطورين استخدام التشغيل البيني لتصميم تطبيقات معقدة تستفيد من مزايا كثير من شبكات الـ«بلوك تشين». وقد يقود ذلك إلى تأسيس تطبيقات لامركزية أكثر كفاءة ومرونة وقدرة على تلبية الاحتياجات.
إن التشغيل البيني يتيح إجراء المعاملات عبر الشبكات، حيث يمكن تحويل الأصول أو البيانات بكل أمان من شبكة «بلوك تشين» لأخرى. فهذه الخاصية عنصر حيوي لتعزيز انتشار وقبول تقنيات الـ«بلوك تشين» على نطاق واسع، مع زيادة فائدتها.
وفي الخلاصة، ومع الخوض في هذه التوجهات الثورية، يبدو واضحاً أن أهمية تقنيات الـ«بلوك تشين» تتخطى مجرد أنها أداة مالية؛ إذ تمثل أساساً متيناً للابتكار ضمن مختلف القطاعات. وفي هذا الإطار، تأتي ضرورة الالتزام بريادة هذه التطورات المهمة، والمساهمة في المستقبل المنشود، حيث ستطلق تقنيات الـ«بلوك تشين» كامل طاقاتها ليكون العالم أكثر تواصلاً وكفاءة وشفافية. فهذه الرحلة الطموح مليئة بالتحديات على قدر غناها بالفرص، ونحن متحمسون للغاية للمضي قدماً فيها وصولاً للمستقبل المنشود.