«منتدى مصر للإعلام» يحذر من الانزلاق نحو «عالم بلا صحافة مؤسسية»

رئيسته قالت لـ «الشرق الأوسط» إن حرب غزة «جلبت الكابوس»

نهى النحاس أثناء إلقاء كلمتها بالجلسة الافتتاحية للمنتدى (الشرق الأوسط)
نهى النحاس أثناء إلقاء كلمتها بالجلسة الافتتاحية للمنتدى (الشرق الأوسط)
TT

«منتدى مصر للإعلام» يحذر من الانزلاق نحو «عالم بلا صحافة مؤسسية»

نهى النحاس أثناء إلقاء كلمتها بالجلسة الافتتاحية للمنتدى (الشرق الأوسط)
نهى النحاس أثناء إلقاء كلمتها بالجلسة الافتتاحية للمنتدى (الشرق الأوسط)

النحاس: لكل منتدى عربي نكهته الخاصة لا سيما أن المنتدى الإعلامي انعكاس للمجتمع الذي يقام فيه ومرآة لقضاياه

جاء «منتدى مصر للإعلام»، الذي عُقد في القاهرة أخيراً، ليدق ناقوس الخطر، ويثير تساؤلات حول مستقبل العالم «حال تُرك بلا إعلام». ويصدق هذا الواقع مع تصاعد الانتقادات لأداء الإعلام المؤسسي في تغطية الحرب على غزة، بالتوازي مع اتساع مساحة دور منصات التواصل بوصفها مصادر للمعلومات، لا سيما وقت الحروب والأزمات.

في حوار مع «الشرق الأوسط» حذّرت نهى النحاس، رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، من «خطورة الانزلاق نحو عالم بلا إعلام وصحافة مؤسسية». وقالت: «لا يمكن تحمل نتائج وجود مثل هذا العالم»، إلا أنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن «هذا الاحتمال يتعزّز كلما فقدت صناعة الإعلام اتجاهها على الصَعود المهني، أو أخفقت في تطوير نماذج أعمال قادرة على تحقيق الاستدامة».

كان هذا هو الدافع الرئيسي في اختيار عنوان النسخة الثانية من «منتدى مصر للإعلام»، ليكون «عالم بلا إعلام». ووفق النحاس: «وُلدت الفكرة قبل حرب غزة، بهدف مناقشة سؤال مركزي مفاده: ماذا لو تُرك الجمهور بلا إعلام مؤسسي يعتمد معايير التحقق وتدقيق المعلومات؟ ماذا لو تُرك الجمهور لمنصات التواصل ومنشورات غير موثوقة؟».

وحقاً، جاءت حرب غزة «لتعزز هذه الأسئلة، وتزيد حضورها مع ما شهده العالم من تراجع في الأداء المهني لمؤسسات إعلامية كبرى»، حسب النحاس التي ترى أن «حرب غزة جلبت كابوس سقوط الإعلام المؤسسي في فخ اللامهنية، تاركاً الساحة لمنصات التواصل ولمصادر غير موثوقة لتُشكّل الوعي الجمعي».

وأضافت رئيسة «منتدى مصر للإعلام» أنه «بينما تزداد حدة الحروب والنزاعات والجوائح والكوارث الطبيعية، تتعاظم الضغوط على الممارسات الإعلامية الاحترافية الجادة. ومع تزعزع ثقة قطاعات واسعة من الجمهور العالمي في أداء الإعلام المؤسسي، تخفق وسائط التواصل الاجتماعي، رغم ما تشهده من رواج وتأثير، في التمتع بقدر مناسب من المصداقية».

النحاس تنبّه إلى «ازدياد المخاطر بشأن مستقبل الإعلام ووجوده؛ بسبب تراجع الثقة المُطرد»، لافتة إلى معضلة أخرى تكشفها دراسات عدة صدرت أخيراً تتحدث عن «زيادة مؤشرات تجنب الأخبار منذ (كوفيد-19)». وحقاً، رصد تقرير معهد «رويترز» السنوي حول الإعلام الرقمي، الصادر في يونيو (حزيران) الماضي، «انخفاضاً مستمراً في التفاعل النشط مع الأخبار على منصات التواصل». وأكد ما سبق أنْ رصدَه في تقرير سابق من أن «أربعة من كل عشرة أشخاص صاروا يتجنبون الأخبار؛ لأنها تؤثر سلباً في مزاجهم»، كما أكدت تقارير عدة «تراجع معدلات الثقة في الإعلام».

ولذا، على مدار يومين بحث «منتدى مصر للإعلام» هذه المخاطر، في محاولة للتوصل إلى السبل التي يمكن من خلالها استعادة الثقة في وسائل الإعلام المهنية، وضمان استدامة أدائها، عبر الابتكار والحوكمة ومبادرات توليد العوائد.

جانب من فعاليات "منتدى مصر للإعلام" (الشرق الأوسط)

حلم سنوات عدة

حلم عقد منتدى عن الإعلام في مصر راود النحاس سنوات عدة تجاوزت العشر سنوات، لا سيما أنها كانت «تحرص» على حضور المنتديات الإعلامية في دول عدة حول العالم، تشارك في مناقشاتها، وتحضر جلساتها وورشها التدريبية. وهنا قالت: «كانت المنتديات الإعلامية تثري تكوينها المعرفي، وتدفعها للتساؤل عن سبب عدم وجود منتدى إعلامي في مصر، بتاريخها الكبير والممتد في مجال الإعلام والصحافة».

النحاس أكدت «أهمية» منتديات الإعلام العربية والأجنبية في تكوين المعارف المهنية، وتطوير العمل الصحافي والصحافيين أنفسهم. وقالت إنها «فرصة للاحتكاك والتعرف على الجديد في عالم الإعلام»، لا سيما لأولئك الذين لم تتح أمامهم فرصة السفر، للاطلاع على الجديد في المهنة، ولذلك سعت لإنشاء نسخة مصرية تناقش قضايا الإعلام الحالية، وتسهم في تدريب الشباب.

من ناحية ثانية، أشادت النحاس بالمنتديات العربية التي تصفها بـ«الناجحة»، وتقول إن «لكل منتدى عربي نكهته الخاصة، لا سيما أن المنتدى الإعلامي هو انعكاس للمجتمع الذي يقام فيه ومرآة لقضاياه ورؤيته لحلها، وإن تشابهت المهنة ومعاييرها وقواعدها، ما يضفي أهمية على وجود منتديات متعدّدة، لكلٍ شخصيته وهويته ودوره في إثراء المهنة وتطوير أداء العاملين بها».

من هذا المنطلق، لا تعتقد النحاس بوجود «فجوة» بين المنتديات العربية ونظيرتها الأجنبية، وإنْ أشارت إلى «زيادة مساحة المناقشات الحرة في المنتديات الغربية التي عادة ما تعكس الواقع السياسي لمجتمعاتها». وحقاً، فإن قضايا المهنة هي الهَمُّ الشاغل للنحاس ولـ«منتدى مصر للإعلام»، الذي يحرص على تقديم جرعات متنوعة من المناقشات وورش العمل بهدف «إنشاء جسر يجمع إعلام الشرق والغرب».

غير أن تركيز نهى النحاس على المهنة وقضاياها لا يعني الابتعاد عن الواقع السياسي في المنطقة، حيث فرضت الحرب الإسرائيلية على غزة حضورها في أجندة النسخة الثانية من «منتدى مصر للإعلام»، وأكدت أنه «حتى عند التطرق لقضية سياسية مثل الحرب على غزة، فالمناقشات كانت تتعلق بالمهنة وانعكاسات الحرب عليها». ومن ثم، قالت إن الحرب على غزة حدث مهم أثر في الجميع وألقى بظلاله على المهنة، وفرض تحديات وإشكاليات وقع فيها الإعلام وكان لا بد من مناقشتها، لا سيما أن «وسائل إعلام تموضعت، بوصفها نماذج ومدارس مهنية، سقطت في اختبار تغطية الحرب على غزة، وظهرت بوصفها وسائل غير مهنية».

حول تغطية غزة

هنا لا ترى النحاس أن المشكلة تكمن في انحياز مؤسسة أو وسيلة إعلام لطرف من طرفَي الصراع على حساب الآخر، بل في «عدم إعلانها لهذا الانحياز، وتقديمها أنماطاً غير مهنية ورؤية مشوّشة لما يحدث في غزة، وصلت حد تبرير انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الأحيان»، محذرة من «اندماج الانتماءات السياسية في العمل الإعلامي لما لذلك من تأثير على مصداقية الوسيلة وثقة الجمهور فيها».

وحسب النحاس، لا يعني هذا «حظر وجود إعلام يعبّر عن آيديولوجية أو حزب سياسي معين»، فهذا «أمر مقبول ووارد»، لكن شريطة أن «تعلن المؤسسة انحيازاتها وانتماءاتها السياسية، لا أن تقدم نفسها نموذجاً مهنياً، ثم تعمد للدفاع عن طرف ضد آخر، وتشويه طرف لصالح آخر».

وبالفعل، شهدت الفترة الأخيرة انتقادات لمؤسسات إعلامية كبرى اتُّهمت بتخليها عن المعايير المهنية. إذ وصفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) متظاهرين داعمين لفلسطين في لندن بأنهم «داعمون لحماس»، ثم ما لبثت أن اعتذرت عن ذلك. كذلك روجت وسائل إعلام غربية بينها «سي إن إن» شائعات «إقدام حركة حماس على ذبح أطفال»، وهذا الادّعاء كرره الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، ما دفع البيت الأبيض لإصدار بيان أشار فيه لـ«تلك المعلومة غير دقيقة».

من هنا، ترى نهى النحاس أن المهنية هي السبيل لاستعادة الثقة، وتؤكد دوماً أن «كل شيء يبدأ وينتهي عند الجمهور»، الذي تعدّ أنه لا بد من دراسته وتحليل أنماطه الاستهلاكية وتفضيلاته لوضع استراتيجية عمل مهنية قادرة على جذبه واستعادة ثقته.

وتطرقت نهى النحاس إلى التاريخ الممتد للإعلام العربي. وهنا تتساءل عن سبب قلة فعاليته في التأثير على نطاق عالمي، بالقول: «للأسف هناك فراغ يتيح للإعلام الغربي أن يكون ساحة لعرض ومناقشة قضايا المنطقة»، إلا أنها لا تزال مؤمنة بأن الإعلام العربي «قادر على وضع معاييره الخاصة وتأسيس مدرسته المهنية اعتماداً على تاريخه الطويل، والأهم التزامه بالمعايير المهنية».

الإعداد للنسخة الثالثة

ومع إعلان نهاية النسخة الثانية من «منتدى مصر للإعلام» بدأت النحاس على الفور الإعداد للنسخة الثالثة، التي تعد بأن «تكون مختلفة شكلاً وموضوعاً، وتضم أنشطة ذات طابع خاص، مع إتاحة الفرصة لمشاركة طلبة من المنطقة العربية وأفريقيا».

أيضاً يسعى المنتدى لإطلاق جائزة باسمه في الدورة المقبلة، تقول النحاس «إن التخطيط لها بدأ في 2023، لكن رغبتها في الإعداد لها بشكل مبدع لابتكار اتجاهات جديدة، أجّلت الإعلان عنها». مع هذا وعدت بأن يشهد عام 2024 إطلاق جائزة «منتدى مصر للإعلام».

التدريب أيضاً يعدّ شاغلاً أساسياً للمنتدى، حيث تُقام ضمن فعالياته ورش تدريبية في مجالات عدة. وتوضح النحاس أن ما «قدمه المنتدى مجرد نبذة سريعة عن أهم التطورات في صناعة الإعلام تفتح آفاق الصحافيين للتبحر في المزيد». وأن «فلسفة التدريب أكثر عمقاً، ويجب أن تُبنى على استراتيجيات واضحة قائمة على فهم احتياجات السوق والجمهور وتحديد أهداف المؤسسات الإعلامية من التدريب». وتلفت النحاس إلى أنه في «إطار المنتدى تُعقد دورات تدريبية على مدار العام في مصر ودول عربية عدة، بالتعاون مع مؤسسات الإعلام بتلك الدول».

النحاس تتوخى أن «يكون منتدى مصر للإعلام نقطة تلاقٍ حقيقية بين إعلام الشرق والغرب، لعرض تجارب الجانبين وفتح حوار حقيقي بين الصحافيين». وتوضح أن «جزءاً من هذا الهدف تَحقَّق بالفعل في النسخة الثانية، حين تحاور الضيوف في أروقة المنتدى حول الحرب في غزة، فاتفقوا على بعض الأشياء واختلفوا على الآخر... لكن يبقى هدف المنتدى أن يتوسع في استضافة أفكار وتوجهات مختلفة، ويتسع للجميع ليكون بحق جسر تواصل بين صحافيي مصر والمنطقة والعالم، يرسخ أسس المهنية، ويرفع شأن الإعلام المؤسسي».


مقالات ذات صلة

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

خاص عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

تسبب الوجود السوري المتنامي بمصر في إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد مشروعاتهم الاستثمارية.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (الرئاسة المصرية)

السيسي: الأوضاع المضطربة في المنطقة تفرض بناء قدرات شاملة لحماية مصر

أشاد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالجهود التي تبذلها القوات المسلحة لـ«حماية الحدود المصرية من أي تهديدات محتملة».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا جانب من قطاع الاتصالات في مصر (وزارة الاتصالات)

زيادة مرتقبة لأسعار خدمات الاتصالات تعمق أزمة الغلاء بمصر

أثار حديث مسؤول حكومي مصري عن زيادة مرتقبة في أسعار خدمات الاتصالات مخاوف لدى المصريين من موجة غلاء جديدة.

أحمد إمبابي (القاهرة )
شمال افريقيا جانب من المحادثات المصرية - الإيطالية للتعاون في مجال المياه (الري المصرية)

تعاون مصري - إيطالي لمجابهة «الفقر المائي»

تعاني مصر من «عجز مائي» بنحو 30 مليار متر مكعب سنوياً، حيث «تبلغ حصتها من مياه نهر النيل 55.5 مليار متر مكعب سنوياً».

عصام فضل (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من جامع بيبرس الخياط الأثري في القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

بعد 5 قرون على إنشائه... تسجيل جامع بيبرس الخياط القاهري بقوائم الآثار الإسلامية

بعد مرور نحو 5 قرون على إنشائه، تحوَّل جامع بيبرس الخياط في القاهرة أثراً إسلامياً بموجب قرار وزاري أصدره وزير السياحة والآثار المصري شريف فتحي.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».