جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

سياسي مخضرم تعهّد حماية البلاد من «السقوط»

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
TT

جوزيف بواكاي... المُعارض الذي أطاح جورج وياه من رئاسة ليبيريا

 أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا
أشرف على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا

رافعاً شعار «أحبوا ليبيريا... ابنوا ليبيريا»، يعود السياسي المعارض جوزيف بواكاي (78 سنة)، في يناير (كانون الثاني) المقبل، إلى قصر الرئاسة في العاصمة الليببيرية مونروفيا. إلا أنه، هذه المرة، عائد رئيساً للجمهورية، لا نائباً للرئيس كما كان قبل ست سنوات مضت. وقد حقق بواكاي هذا الإنجاز على أثر تمكنه أخيراً من الفوز في الانتخابات على مُنافسه الرئيس جورج وياه (57 سنة)، نجم كرة القدم المحترف العالمي السابق الذي سبق أن فاز بـ«الكرة الذهبية»، وكان من أبرز نجوم الكرة الأوروبية خلال تسعينات القرن الماضي.

اعتاد جوزيف بواكاي الظهور في المؤتمرات العامة معتمراً قبعة، وعيناه شبه مغلقتين. وقد رصدته الكاميرات غافياً في بعض الفعاليات، حتى لقّب بـ«جو النائم»، وهو اللقب الذي كان قد ردّده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن غريمه السابق والرئيس الحالي جو بايدن.

وكحال بايدن، يعزو منتقدو بواكاي ذلك إلى كبر سنه، إذ إنه شارف على الثمانين. لكن الرئيس الجديد ونائب السابق - وهنا مفارقة أخرى تُذكّر بالرئيس الأميركي - يرى أن العمر «نعمة»، متعهداً بأنه قادر على «استعادة الأمل لبلاده، وحمايتها من السقوط في الهاوية».

حول تجربة وياه

قبل ست سنوات تغلّب النجم الكُروي اللامع وياه على بواكاي، حاملاً لجمهوره آمالاً كبيرة في ظل ما يحظى به من شهرة ومجد. إلا أن فترة حكمه شابتها اتهامات بالفساد والفوضى الإدارية، مما أسهم في خسارته الانتخابات الأخيرة أمام بواكاي، ولو بفارق ضئيل، ومن ثم بات بواكاي مطالباً بإصلاح الأخطاء وحماية ليبيريا من الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة، ولا سيما وسط حالة الانقسام الشديد التي بيّنتها نتائج الانتخابات، فقد حصل بواكاي على 50.64 في المائة من الأصوات، مقارنة بـ49.36 في المائة لصالح وياه.

حالة الانقسام هذه دفعت الرئيس المنتخب - قبيل إعلان النتيجة الرسمية - إلى التعهد بأنه سيركز، خلال الفترة الأولى من حكمه، على توحيد البلاد. ويضيف: «قبل كل شيء، نريد أن تكون لدينا رسالة سلام ومصالحة».

وحقاً، يواجه بواكاي تحديات عدة لإعادة بناء ليبيريا، الجمهورية الأقدم في أفريقيا، التي أُسست على يد مجموعة من المحرّرين من العبودية الأميركية عام 1847. ومع هذا، فإن كثيرين يُعوّلون على خبرته السياسية؛ كونه سبق أن شغل منصب النائب الـ29 لرئيس ليبيريا، في الفترة بين عاميْ 2006 و2017، إبان حكم إلين جونسون سيرليف، أول رئيسة دولة بأفريقيا.

نشأة متواضعة

كانت نشأة جو بواكاي، أو جوزيف نيوماه بواكاي، «متواضعة»، ولا سيما أنه بدأ حياته في قرية نائية بليبيريا تُدعى واسونغا، تابعة لمقاطعة لوفا. ويَعد بواكاي صعوده إلى مكانة بارزة على المستوى الوطني «قصة ملهمة لأي طفل أفريقي»، كما يذكر على موقعه الإلكتروني الرسمي، حيث وُلد في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، لأبوين ريفيين فقيرين يعيشان في قرية نائية وينتميان لشعب الكيسي الذي يمتدُّ عبر حدود ليبيريا إلى سيراليون وغينيا المجاورتين.

وبينما لم يعرف والداه القراءة والكتابة، حرص جو منذ الصغر على التعليم، وكان يقطع يومياً مسافة 300 ميل ذهاباً وإياباً إلى المدرسة من واسونغا إلى العاصمة مونروفيا. وفي إحدى مقابلاته الإذاعية قال إنه كان يقطع تلك المسافة «بحثاً عن حياة أفضل».

وبالفعل، إبّان طفولته، عمل بواكاي في عدة مهن لمساعدة أسرته، قبل أن يستقر في مونروفيا لاستكمال تعليمه، وهو واحد من الأطفال محدودي الإمكانيات المادية، لذا انتقل من منزل أسرة لآخر حتى تمكن من الالتحاق بكلية غرب أفريقيا. ونقلت «رويترز» عن المتحدث باسم حملته الانتخابية، عمارة كونيه، أنه «لتأمين رسوم الدراسة في تلك الفترة، عمل بوّاباً للمدرسة، وكان ينظف الأرضيات والمراحيض ليلاً ويدرس نهاراً».

نجاح علمي وعملي

تخرَّج بواكاي لاحقاً في جامعة ليبيريا بدرجة البكالوريوس في إدارة الأعمال. وخلال الإجازات، كان يبقى في السكن الجامعي للعمل على توفير احتياجاته المدرسية للفصل الدراسي التالي. كذلك درس وتخرج في جامعة كنزاس الحكومية «Kansas State University» الأميركية.

وظيفياً تدرّج بواكاي في وظائف عدة، منها العمل بشركة تسويق، سرعان ما ترقّى لإدارتها بوصفه أول ليبيري يتولى منصب مدير الشركة؛ وذلك بفضل نجاحه في بعض المشروعات، منها دعم تمكين مزارعي الكاكاو والبن ونخيل الزيت وتحسين دخلهم.

كفاءاته الشخصية والمهنية، مضافاً إليهما اهتمامه بالزراعة، كانت عوامل أهّلت بواكاي لتولّي منصب وزير الزراعة في الثمانينات من القرن الماضي، في فترة حكم صامويل إدو، الذي تولّى الحكم على أثر انقلاب عسكري. وكان أحد أبرز مشروعاته في تلك الفترة الإشراف على شق طريق جديدة وتمويلها في واحدة من القرى القديمة بطول 11.2 كيلومتر، كما شارك مع آخرين في بناء مدرسة لتعليم 150 طفلاً، إضافة إلى عيادة طبية لخدمة 10 قرى.

وأشرف بواكاي أيضاً على تنفيذ برنامج لتحقيق اللامركزية في الزراعة، من خلال إنشاء مراكز إقليمية، ويُعدّ هذا البرنامج أحد المشروعات الرائدة في ليبيريا، ولا سيما أن نسبة عالية من السكان يعملون في الزراعة.

وفي عام 1991، شغل بواكاي منصب المدير الإداري للشركة الليبيرية لتكرير البترول «LPRC» في ظل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، التي أدارت البلاد إبان فترة الحرب الأهلية الأولى.

لكنه عقب الإطاحة بتلك الحكومة، توجه للعمل الخاص، وكثرت سفرياته إلى الخارج، وأمضى بعض الوقت في غانا. لكنه، في موطنه، يسكن في منزل بسيط لم يتغير منذ نحو 50 سنة، وهو متزوج، ولديه أربعة أبناء.

الحياة السياسية

يُعدّ جوزيف بواكاي من قيادات المعارضة البارزين في ليبيريا، وتتلخص رؤيته للقيادة، وفق قوله في أحد خطاباته، في «إيمانه بأن أداء الخدمات على أعلى مستوى أمر واجب». وبعد استقرار الأوضاع في البلاد، وعودة السلام إلى ربوعها بانتهاء الحرب الأهلية، انتُخب عام 2005 نائباً لرئيسة الجمهورية إيلين جونسون سيرليف، وهو المنصب الذي شغله لمدة 12 سنة.

هذه الخبرة في مجالي السياسة والإدارة يشجع المراقبين على توقع قدرته على الحكم بفاعلية، ثم إن هذه الخبرة كانت الركيزة التي اعتمد عليها بواكاي إبان حملته الانتخابية الأخيرة، وحتى في الانتخابات الرئاسية السابقة التي خسرها أمام جورج وياه عام 2017 في جولة الإعادة وبفارق ضئيل، حيث قال، في مقابلة تلفزيونية آنذاك، إنه «آتٍ ومعه ثروة من الخبرة... لماذا نطلب من أحد أن يتعلّم الوظيفة؟».

في هذا الإطار، يشير بواكاي كثيراً إلى فترة تولّيه منصب نائب الرئيس ومشاركته في عملية إرساء السلام بليبيريا، ووضعها على الطريق الصحيح، بعد فترة طويلة من الصراعات. ويذكر موقعه الإلكتروني الرسمي 58 إنجازاً طوال تاريخه العملي والسياسي، يُعدّ أكبرها «قدرته على الحفاظ على فترة سلام بعد 15 سنة من الحرب الأهلية».

في تلك الفترة عُرف بواكاي بالشخص الملازم والمخلص لرئيسة الجمهورية. ولعلّ هذا ما دفعه إلى خوض الانتخابات عام 2017، حين كان يصف نفسه آنذاك بأنه «سيارة سباق تصطفُّ في المرآب»، ثم يكرر خوض السباق مرة أخرى ضد منافسه وياه، ولا سيما مع ما شهدته فترة حكمه من مشكلات. والواقع أنه عندما أعلن ترشحه قال إنه يترشح اقتناعاً بأن «ليبيريا ليست دولة فقيرة، لكن مشكلتها الدائمة ترجع أساساً إلى افتقارها لقيادة سليمة ونزيهة».

الزراعة... أساساً

جوزيف بواكاي يَعدّ نفسه في مهمة هي «ضمان استعادة الصورة المفقودة لليبيريا». وقد ركّز في حملته الانتخابية على الزراعة، وفي أحد الحوارات الإعلامية قبل الانتخابات قال إنه «ينوي التركيز على محاربة الفساد وتعزيز الإنتاج الزراعي لتقليل تكلفة الطعام، إضافة إلى إصلاح الطرق». وتعهّد بتسليط سيفه على الفساد. وبين وعوده، خلال المائة يوم الأولى من حكمه، «التأكد من أنه لا توجد مركبة في الوحل»، معتبراً ذلك عاملاً مؤثراً على أسعار السلع الغذائية، ولا سيما مع زيادة تكلفة النقل في الطرق الموحِلة.

في هذا الشأن، يرى بواكاي أن الإمكانيات الزراعية لبلاده «واعدة»، لكن المشكلة كانت في سوء الإدارة، وهو رغم اعترافه بمشقة الرحلة الرئاسية، يقول إنه «عازم على مساعدة ملايين الليبيريين الذين تُركوا في مواجهة الفقر والمرض والجهل وانعدام الأمن».

من وجهة نظر داعميه، فإن ليبيريا تحتاج الآن إلى «عمله الجاد وخبرته»، بعد سنوات من حكم وياه شابتها الفوضى الإدارية. ويرى هؤلاء أن «حياته الخالية من الفضائح وسلوكه الهادئ يُعدّان الترياق الواقي من فترة حكم وياه».

من ناحية أخرى، مع أن معدل النمو الاقتصادي في ليبيريا بلغ، عام 2022، نحو 4.8 في المائة، فإن أكثر من 80 في المائة من سكان البلاد الواقعة غرب أفريقيا، يواجهون نقصاً في الأمن الغذائي، وفق بيانات «البنك الدولي». كذلك ترتفع نسب البطالة وتعاطي المخدرات بين الشباب، ولا يمكن الاعتماد على إمدادات الطاقة في جميع أنحاء الريف المكسوّ بالغابات. وللعلم، في العام الماضي، احتلت ليبيريا المرتبة 142 بين 180 دولة في مؤشر الفساد الذي تُصدره «منظمة الشفافية الدولية».

كل هذه المشكلات تتربع على جدول أعمال بواكاي، الذي سيركز على ملفات التعليم والصحة والاقتصاد، بجانب الزراعة. وكما يقول ناطق باسم حملته: «سيعطي بواكاي الشعب الأمل، سيصلح الاقتصاد لتتحسن حياة كل فرد».

عامل السن

على صعيد مختلف، فور إعلان فوز الرئيس الجديد بالانتخابات، سارع عدد من الرؤساء والملوك إلى تهنئته، يتقدمهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي قال، في بيان صحافي: «أظهرت الانتخابات الحرة والنزيهة التزام الليبيريين بإسماع أصواتهم عبر صناديق الاقتراع... أتطلع للعمل معاً لتعميق العلاقات».

ولكن، في حقيقة الأمر، يثير سن بواكاي مخاوف لدى بعض منتقديه، الذين يعتبرون ذلك عقبة في إدارة بلد 60 في المائة من سكانه تحت 25 سنة. إلا أنه ردّ على ذلك، عدة مرات، خلال الحملة. وفي المقابل، يشدّد مؤيدوه على نزاهته وخبرته في محاربة الفساد، «وهو الذي عُرف عنه الدفاع عن النزاهة العامة»، ذلك أنه قال، في إحدى مقابلاته التلفزيونية: «الفساد بكل مظاهره يؤدي إلى التخلف والحرمان، وهذا ما يجب على القادة الأفارقة محاربته».اليوم، بعد انتهاء الكلام، يترقب الشعب الليبيري ما سيفعله بواكاي، آملين أن يخلصهم من عهود الفوضى والفساد، وأن يحافظ على البلاد؛ حتى لا تنزلق إلى هوة الحرب الأهلية من جديد.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.