نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

من أولويات المنصب إمداد الرئيس بعناصر اتخاذ القرار

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية
TT

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

نذير العرباوي... رئيس الوزراء الجديد في الجزائر مهمته انتشال البلاد من مشاكلها الداخلية والإقليمية

بعد ثلاثة أيام من تعيين نذير العرباوي وزيراً أول بالجزائر، وضع رئيس البلاد عبد المجيد تبّون خارطة للحكومة تخص المرحلة المقبلة، وذلك في أول اجتماع للوزراء عُقد الثلاثاء 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وخلال الاجتماع شدد الرئيس على «تفادي الوعود المبالغ فيها، البعيدة عن الالتزامات مع الشعب الجزائري»، وكان يلمح إلى التعهدات التي قطعها هو في حملة انتخابات الرئاسة 2019 وعددها 54. وبالنتيجة، فهم المراقبون أن سبب عزل الوزير الأول السابق أيمن بن عبد الرحمن، بعد سنتين ونصف سنة تقريباً من تسييره الشأن الحكومي، يعود إلى إطلاقه وعوداً لم تتحقق «كان مُبالغاً فيها». لكن اللافت هو أن بن عبد الرحمن (58 سنة) دفع وحده ثمن هذا «الحكم الرئاسي»؛ لأن تبّون أبقى على الطاقم الحكومي كاملاً على الرغم من الجدل الدستوري الذي يثيره عدم إنهاء مهام الحكومة بكامل تعدادها، عند تنحية رأسها؛ إذ يفترض تشكيل حكومة جديدة مع تعيين وزير أول جديد.

رجّح متتبعون في الجزائر أن يكون سبب عزل رئيس الوزراء السابق أيمن بن عبد الرحمن، الذي شغل منصب محافظ البنك المركزي الجزائري سابقاً، عجزه الكبير في إيجاد حل لندرة حادة تشهدها عدة مواد غذائية في السوق، وارتفاع أسعار الكثير منها منذ أكثر من سنة. لكن بن عبد الرحمن لم يكن وحده المسؤول عن هذا الوضع الذي جاء نتيجة لقرار سياسي بوقف استيراد عدد كبير من السلع والمنتجات، وهو ما خلف ندرة سلع أدت إلى الأزمة. مع، هذا، مما يؤخذ على رئيس الوزراء السابق أنه سياسي تعوزه «الشخصية القوية»، كما يتهمه البعض بأنه «يفتقر إلى الكاريزما».

في أي حال، مما جاء في كلام الرئيس تبّون على أنها توجيهات لرئيس الوزراء الجديد نذير العرباوي (73 سنة)، وهو مدير ديوانه بالرئاسة السابق، «وجوب اعتماد السرعة القصوى في تطبيق قرارات مجلس الوزراء التي لم تجسّد أو تأخر تنفيذها»، و«الإبقاء على دعم الطبقتين الهشة والمتوسطة نصب أعين الحكومة، وذلك من خلال الحفاظ على القدرة الشرائية، وجعل البرامج السكنية بكل صيغها ضمن الأولويات، صيانة لكرامة المواطنين وتيسيراً لحياتهم».

تبّون طالب حكومته أيضاً بـ«التحلي باليقظة والحذر من تبذير المال العام، ومن استهلاك ميزانيات إضافية غير مرصودة في البرامج المحددة، بينما هناك ما ينتظر التنفيذ في هذه البرامج». ومن ثم، شدد على «ضرورة تكثيف الاستشارة ما بين أعضاء الحكومة، حول القرارات المؤثرة على التوازنات المالية الكبرى للدولة»، مبرزاً «أهمية تكريس قيمة العمل بشكل أكبر، مع الحفاظ على المهن والحرف الصغيرة؛ كونها خلاقة للثروة ومناصب الشغل». واختتم تبّون بالدعوة إلى «رفع وتيرة تنفيذ ما تبقى من برامج والتزامات، لا سيما في قطاعي التربية الوطنية، واقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغّرة».

هذه الخطوط العريضة لحكومة العرباوي ستضعه على المحك خلال سنة من العمل، تأهباً لانتخابات الرئاسة المقرّرة قبل نهاية 2024، التي يعتقد أن الرئيس تبّون سيخوضها طلباً لولاية ثانية.

مشادات حادة

شارحاً محاولته التعاطي مع خبر تعيين العرباوي على رأس الحكومة الجديدة، كتب صحافي جزائري مقيم في فرنسا: «ليس من السهل رسم صورة رئيس الوزراء الجديد؛ لأن الناس يخشون الكلام. لقد تقاعد في عام 2020، وعاد إلى العمل بفضل رمطان لعمامرة (وزير الخارجية السابق) الذي أدمجه في ديوان وزارة الخارجية، قبل أن يقترحه سفيراً للجزائر بالأمم المتحدة». ووفق ذلك الصحافي، كان العرباوي يريد أن يكون سفيراً لدى المملكة العربية السعودية، إلا أنه في النهاية وجد نفسه في مقر رئاسة الحكومة الموجود وسط العاصمة.

من جهة ثانية، ما تعرفه الأوساط الجزائرية المهتمة بالشأن العام - وخصوصاً وسائل الإعلام - عن العرباوي أنه دبلوماسي متمرّس، كان أهم وآخر منصب له في قطاع الخارجية رئيس البعثة الجزائرية بالأمم المتحدة. وخلال الفترة القصيرة التي أمضاها في هذه المهمة، نشبت مشادات كلامية حادة بينه وبين نظيره المغربي عمر هلال، حول مسألة الصحراء.

وكان من أقوى فصول التوتر بين السفيرين، يحتفظ الإعلام بهجوم حاد للعرباوي على هلال، العام الماضي، عندما طالب بـ«تمكين سكان القبائل الجزائرية من تقرير مصيرهم»، على اعتبار أن هناك تنظيماً يطالب بانفصال المنطقة يدعى اختصاراً «ماك» تعتبره الجزائر منظمة إرهابية. فرّد عليه الممثل الجزائري قائلاً إن «ممثل المغرب يسعى، من خلال مزاعم وادعاءات بائسة، إلى إحداث حالة من اللبس وخداع الرأي العام الدولي...».

من جانب آخر، قبل التحاقه بنيويورك، تولى العرباوي منصب سفير لدى مصر، وممثلاً للجزائر بالجامعة العربية، ثم عيّن سفيراً في باكستان. ثم إن العرباوي، الذي يتحدر من محافظة تبسة الحدودية مع تونس، وكان حينذاك مديراً للعلاقات الاقتصادية الدولية بوزارة الخارجية. وكذلك عرف بقيادته مفاوضات مع السلطات التونسية أفضت يوم 11 يوليو (تموز) 2011، إلى التوقيع على اتفاق يخص الحدود البحرية مع تونس. ثم إنه في الرصيد المهني لرئيس الوزراء الجديد إشرافه على التكفّل بالأجانب الذين فرّوا من ليبيا إلى الجزائر عبر الحدود البرّية بعد سقوط نظام معمر القذافي في خريف 2011، وتمتعه بتجربة مهمة بوصفه عضواً بمجلس إدارة «المركز المغاربي للدراسات والبحوث».

الإمداد بعناصر اتخاذ القرار

عودة إلى علاقة رئيس الوزراء الجديد بالرئيس تبّون، يقول عارفون بشؤون الحكم إن الرئيس كان قد طلب من مقرّبين منه، مساعدته في إيجاد مدير ديوان له، وحدّد لهم أوصافاً دقيقة على رأسها أنه يكون ملمّاً بالقضايا الدولية، وذلك كي يستعين بخبرته في اتخاذ القرارات ذات البعد الدولي. وحقاً نصحه المقربون بالسفير لدى الأمم المتحدة نذير العرباوي، فقرر فوراً استدعاءه من نيويورك في مارس (آذار) 2023. وبعد 6 أشهر فقط، منح الرئيس مدير ديوانه الجديد صلاحيات كبيرة، في إطار مرسوم يتضمن إجراءات غير مسبوقة تتصل بإعادة هيكلة واسعة لشؤون الرئاسة الجزائرية.

فلقد نصّت المادة السابعة من المرسوم على إعطاء صلاحيات واسعة لمدير الديوان برئاسة الجمهورية، أهمها دراسة الملفات السياسية والعلاقات الدولية وتنفيذها، ومتابعة النشاط الحكومي وإجراء تحليل له. وأيضاً كلفه الرئيس بتنسيق نشاطات المستشارين بالرئاسة، وإبلاغ الرئيس بتطورات الوضع في البلاد سياسياً واقتصادياً، و«إمداده بالعناصر الضرورية لاتخاذ القرار». وأصبح من صلاحية مدير الديوان التواصل مع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ومع الأحزاب السياسية، وكذلك متابعة عرائض وتظلمات المواطنين والجمعيات بشأن أداء المرافق العمومية، ويُجري تقييماً لها.

من ثم، فُهم من توسيع صلاحيات العرباوي، أن الرئيس تبّون صار يعدّه «العقل المدبّر» في مقر الرئاسة، لا يقل أهمية عن «رجل الثقة» لديه، بوعلام بوعلام مستشار الشؤون القانونية والشؤون القضائية، الذي أضاف له في إطار الهيكلة الجديدة «العلاقات مع المؤسسات والتحقيقات والتأهيلات».

وبالفعل، إبان المدة القصيرة التي أمضاها العرباوي في قصر الرئاسة، كتبت مجلة «جون أفريك» الفرنسية، نقلاً عن «أحد معارفه رفض الكشف عن هويته»، أنه «بنى علاقات ثقة تتميز بالاحترام والاعتبار مع الرئيس... فمن حيث الأفكار والقناعات، هو مليء بالحماس الوطني... إنه متشبّع بقيم العدالة الاجتماعية وتعزيز الفئات المحرومة. وتحت سلطة تبون، أظهر ارتباطاً بقيَم الدبلوماسية الجزائرية، ومنها السيادة الوطنية والتعلق بقضايا التحرر». كذلك قال عنه «زميل سابق»، وفق المجلة ذاتها: «إنه مستبد لكنه ليس ديكتاتوراً... هو طاغية مستنير يشاوِر ويتشاور ثم يقرّر. إنه الجندي الذي حلم به رئيس الدولة».

أن الرئيس تبّون أصبح يعتبره «العقل المدبّر» في مقر الرئاسة

مشاكل التنمية والاضطرابات

بعدما استقر رأي الرئيس تبّون على أوصاف الشخص المؤهل ليكون «رقم 2» في السلطة التنفيذية لقيادة المرحلة المقبلة، يتساءل كثيرون عن ماهية التحديات التي تنتظر الوزير الأول الجديد، وكيف سيتعامل معها.

بهذا الخصوص، يقول الدكتور منير قتال، المحامي الدولي وأستاذ القانون العام بجامعة الجزائر، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه: «سبق للسيد العرباوي أن تقلد مناصب عدة داخل الدولة، وتدرّج في سلم المسؤوليات، آخرها مديراً لديوان الرئاسة. للسيد الوزير الأول دراية بالقضايا الاستراتيجية، الإقليمية والدولية، وبالكثير من الشؤون التي تخصّ الجزائر داخلياً وخارجياً. والمؤكد أنه يملك بُعد نظر واسعاً، لما ينبغي أن تكون عليه الجزائر في المستقبل، وفقاً للبرنامج المصمم من طرف السيد رئيس الجمهورية».

وفق الدكتور قتال: «سيكون الوزير الأول وجهاً لوجه مع تحديات كثيرة تنتظر حلولاً ملموسة، وهذا هو سبب اختيار الرجل من طرف رئيس الجمهورية للمهمة الجديدة. ومن بين هذه التحديات الملف الاقتصادي والمالي: التحول الاقتصادي وهو مطلوب في المرحلة التي تمر بها البلاد، بل هو ضروري وعاجل، وعلى الحكومة خلق قيمة إضافية وصياغة خطة اقتصادية على المديين المتوسط والبعيد، وخلق نمط اقتصادي يتماشى مع التطورات عبر العالم، والتخلص النهائي من الاقتصاد الريعي والتبعية للمحروقات».

وتابع قتال كلامه، فقال: «من غير المعقول ألا تستغل الجزائر ثرواتها الطبيعية الثمينة والبشرية المتنوعة. فاستغلال هذه الثروات بشكل جيد، وعلى أكمل وجه، سيولّد حتماً نهضة في البلاد، وسيحقق قفزات مهمة نحو اقتصاد صاعد ورائد». وأردف: «ما ينتظر السيد العرباوي هو الاهتمام بالقدرات المالية البلاد، وترشيد النفقات مع خفض مستويات الإنفاق، والحد من فاتورة الاستيراد، وتوجيه بعض الموارد المالية حسب الأهمية والأولويات، وتنويع مصادر الدخل لتجنيب البلاد تبعات انهيار محتمل لأسعار النفط». وأفاض المحلل القانوني والسياسي في شرحه: «مطلوب من الحكومة، بعد تعيين وزير أول جديد، خلق ثقافة جالبة للاستثمار الأجنبي، ومواصلة خطة تطوير البنية التحتية، وتنويع الصادرات من غير المنتجات النفطية، ما يسمح بتنويع مصادر الإيرادات العامة».

التكنولوجيا والعلوم والأموال المهرّبة

وفي القطاعات الأخرى، عدَّ الدكتور قتال أن من الأولويات «متابعة مشروع الرقمنة وتحديث كل القطاعات، وتحديات الذكاء الاصطناعي والحماية السيبرانية؛ إذ إن الحكومة مطالبة بوضع سياسة آمنة وشاملة لعصرنة كل المؤسسات والهيئات، وتبسيط العمليات المالية والمصرفية والإدارية والمرفقية، وحماية البيانات الشخصية والعمومية، ومحاربة كل الجرائم الإلكترونية».

واستطرد: «عليه أيضاً السهر على جودة التعليم وإيجاد تمويلات جديدة لقطاع التعليم العالي ودعم البحث العلمي، بجانب إيجاد آليات ونماذج جديدة لتمويله خاصة من طرف القطاع الخاص وتشجيعه على المساهمة فعلياً في تقوية الاقتصاد والتقدم العلمي. ثم إنه مطالب بمواصلة جهود استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج، وذلك عبر تفعيل الآليات القانونية التي تسمح بذلك، وتعزيز التدابير الوقائية من الفساد... وكل هذا من دون تناسي سد الثغرات التي يأتي منها القلق الاجتماعي، والتصدي للبطالة، وحل أزمة السكن، ورفع القدرة الشرائية للمواطن، ومعالجة مشكلة ندرة المياه بسبب الجفاف».

واختتم بالقول إن على رئيس الوزراء الجديد «العمل على توسيع التجربة الجزائرية في مجال تعزيز حقوق الإنسان ودور مؤسسات المجتمع المدني. وهذا، بالتوازي مع ضرورة التعامل مع التحديات الأمنية التي تواجه الجزائر على المستوى الإقليمي». فُهم من توسيع صلاحيات العرباوي،

 


مقالات ذات صلة

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شمال افريقيا قائد الجيش خلال زيارته مركز الهندسة الميكانيكية العسكرية (وزارة الدفاع)

الجزائر: قائد الجيش يشدد على «تعزيز المناعة الأمنية» للبلاد

شنقريحة يؤكد على «وضع الركائز الأساسية لصناعة عسكرية جزائرية، واعدة ومتكيفة مع متطلبات الدفاع عن الوطن وبأيادٍ جزائرية خالصة».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا مكان انعقاد القمة الروسية - الأفريقية في سوتشي (روسيا اليوم)

هجوم جزائري على المغرب وفرنسا في «قمة سوتشي»

في 25 يوليو (تموز) الماضي، أبدت الجزائر سخطاً شديداً عندما أبلغتها باريس، عبر القناة الدبلوماسية، بأنها قررت دعم «خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا الرئيس تبون مستقبلاً السكرتير الأول لـ«جبهة القوى الاشتراكية» في يونيو 2022 (الرئاسة)

الجزائر: حزب معارض يستنكر اعتقال قيادييه «في ظروف غامضة»

ندد حزب «جبهة القوى الاشتراكية» الجزائري المعارض باعتقال قياديين من صفوفه «في ظروف يلفها الغموض».

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا علي بن حاج قيادي «جبهة الإنقاذ» التي تم حلها (متداولة)

الجزائر: إضراب «إسلاميين» معتقلين عن الطعام لـ«تأخر» محاكمتهم

بدأ عدد من «الإسلاميين» في الجزائر إضراباً عن الطعام داخل سجنهم بعاصمة البلاد، احتجاجاً على طول مدة إقامتهم في الحبس الاحتياطي.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
شمال افريقيا من لقاء سابق بين الرئيس تبون ونظيره الفرنسي (الرئاسة)

قرار جزائري يهدد العلاقات التجارية مع فرنسا

جمعية البنوك والمؤسسات المالية الجزائرية تُبلغ البنوك بإجراء جديد يتعلق بوقف معالجة عمليات الاستيراد والتصدير من وإلى فرنسا.

«الشرق الأوسط» (باريس)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر