يفرض الامتداد المهيب لحرم «الجامعة الأميركية في بيروت» نفسه على العمل المسرحي «عدو الشعب» من تأليف النرويجي هنريك إبسن، استناداً إلى اقتباس الأميركي آرثر ميلر. وبتحوُّل المساحة العريضة إلى مسرح في الهواء الطلق، يتقدّم العرض بشكل استثنائي، مغموراً بهواء خريفي يرخي عذوبته على ليل المدينة الخانق. المفارقة هي أنّ عملاً عُرض في القرن التاسع عشر يمكن إسقاطه على لبنان اليوم كأنه ابن بيئته، من صلب الصرخة المكتومة، ورحم الحقيقة المُصادَرة.
تُترجم ندى صعب المسرحية إلى اللبنانية المحكية، ويتولّى لوسيان بو رجيلي الإخراج. الأخير معروف بحسّه التغييري وإيمانه بالمحاولة، لمسته ساطعة ونَفَسه بين سطوره، في محاولة لتحرير صوت هو ردّ فعل على إجهاض أحلام الهاتفين في الساحات المقتولة. لساعتين، وبالتنقّل بين مواقع بديعة بداخل الحرم التاريخي، تقدّم المسرحية إشكالية الدعاية المضادة، وتأجيج الرأي العام، وتقارب ثيمة السلطة والشعب بشكلها اللبناني الفجّ.
تحافظ الشخصيات على أسمائها في النصّ الأصلي: العالِم توماس ستوكمان (أداء ممتاز لزياد نجار)، وزوجته كاثرين (المنتجة فرح الشاعر)، مع بيتر ستوكمان (عبد الرحيم العوجي)، وأسماء أدّت بمهارة، وامتهنت الأدوار. تقول القصة إنّ قرية نائية تمتاز بينابيع عجائبية يزورها المرضى للشفاء، يخرج منها العالِم توماس بخلاصة مفجعة: الينابيع ملوّثة، والخلاص بمائها الصافي كذبة! سعيه إلى إصلاح النظام المائي يُبيّن أن جذور الفساد ضاربة في العمق، وتمتدّ لتطول المقرّبين منه: الأخ بيتر، رئيس البلدية، رمز السلطة؛ ووالد زوجته صاحب مصنع الجلود وسمومه المتدفّقة إلى الينابيع. رفضُ توماس الخضوع للضغط يكلّفه خسائر كبرى.
في العمل جانبان: الأول إحساسٌ طاغٍ بمكان السرد وزمنه؛ فأشجار الجامعة ومساحاتها العريضة تمنح النصّ طابع القرية، وأزياء القرن التاسع عشر (تصميم لاري بو صافي) تضفي هالة شاعرية. الجانب الآخر هو الشخصيات المُسقَطة على الواقع اللبناني؛ فالعامية المحكيّة على ألسنة كاريكاتورات تحمل أسماءً أجنبية، تعزّز جوّ مشاهدة مزدوجة عنوانها الاستعارة والواقع الذي يسطو لجهة وهج الرسالة. فإن صحَّ ألا ذِكر للبنان على الإطلاق، ولا لِما يمتّ له، فالأصحّ أنّ حضوره مطلق وراسخ ومكتمل، لمجرد استدعاء أشكال الصفقة والتواطؤ والإفلات من العقاب، وهنا عظمة المسرحية.
يرحّب سكان القرية بالحضور، ويسمّونهم سياحاً، ويسقونهم ماء النبع الشافي. بينما يلفح هواء لطيف وجوه المتسائلين عما يعنيه عرضٌ يستدعي الفضاء بأسره، والمساحات كلها، أمام أضواء تمنح الزائر شعوراً بالإحاطة والسكينة. يأتيهم الجواب سريعاً؛ فهم جزء من المسرح التفاعلي، يتنقلون في الأرجاء للدخول تماماً في اللعبة. العرض مبهر في شكله وموضوعه. كل شيء عُدَّ ليشكّل قيمة، وعلى وَقْع أوتار عود جهاد الشمالي، يُفتَتَح فصل ويُختَم آخر، ليتساءل الحضور عن الوجهة المقبلة.
لوَّعت الثورة المبتورة المخرج لوسيان بو رجيلي، وعمّقت ندوباً داخلية. مسرحه «مُوجَّه»، له صوت، وغالباً يحمل إدانة للتجاوزات السياسية اللبنانية، في محاولة لخلق الوعي حيال إدراكها أولاً ورفضها ثانياً. الفعل، وهو السلوك التغييري تجاه المرفوض، والمُنتظر منه قلب الطاولة؛ مسألة أخرى، يدرك بو رجيلي بأي عوائق يصطدم، وتحت أي جدران يرزح. اقتباس مسرحية «عدو الشعب» بالمحكية اللبنانية، عزاء لـ«ثورة 17 أكتوبر» وخيبة شبابها، وللمدينة الحالمة بتغيير لم يتحقق لاستحالة الإجماع على حقيقة.
ليس أداء زياد نجار والباقين وحده ما يرفع المستوى، بل اكتمال عناصر الجذب المشهدي ومحاكاة الفكر أيضاً. ما يبدأ محدوداً ومُسيطَراً عليه، يتّخذ شكل كرة النار المتدحرجة على رأس الضمير الحيّ، وسط بشر بارعين في الاغتيال المعنوي وتشويه الصورة.
يعرّي العمل أكذوبة «الأغلبية الصلبة»، ويبيّن ميل النَفْس إلى صاحب السلطة، بما يعني تمجيد القوة على حساب الحق. يُتّهم الدكتور ستوكمان بـ«تضخيم عيوب تافهة» لكون الجرثومة لا تُرى بالعين، وبالتالي ينتفي الخطر الحقيقي! وبينما قطّة تنضمّ إلى الحضور، وتتخذ مكانها تحت شجرة تتساقط أوراقها أمام أول هبَّة، يرفض أهالي الضيعة الاستماع إلى خطاب العالِم المُتَهم بهدم منجم الذهب. يرمونه بالجنون، ويصنّفونه «عدواً للشعب»، وسط إجماع على طرده من بينهم. تتكرّر مأساة الفيزيائي الإيطالي غاليليو حين جاهر بثبات الشمس ودوران الكوكب، ليُساق مذلولاً أمام عامة ينعتونه بالعته. تاريخ يعيد نفسه منتجاً مآسي البشرية.
يصبح الأخ عدواً لأخيه أمام عبودية المال، ويتحوّل الدم إلى شلال كراهية يُحلّل استخدام جميع وسائل حماية المصالح. عبد الرحيم العوجي بشخصية بيتر ستوكمان، وملابسه وعصاه وقبّعته، تجسيد مضاد لرمزية الدماء التي تتحوّل إلى ماء؛ وهنا الماء مسموم، أثبتت المختبرات تسبّبه بأمراض معوية. الأخ عدو أخيه، اختزالاً لسلطة قاتلة وجبروت يجنّد الضعفاء ليستبدّ. يُخوَّن الناطق بالحقيقة، ويُحاكَم بتهمة التآمر، ويُصاب دور الصحافة بالامّحاء وما هو أسوأ: التواطؤ.
تملك المسرحية فضيلة «الهزّ»، عوض الاكتفاء بالتفرّج على الساكن. نوعها لا يُرفّه فحسب، بقدر ما يحضّ على اليقظة. ليست وعظية على الإطلاق، ولا تسمح بتسرّب الملل. ساعتان من إعادة التفكير بأشياء كثيرة.