حكايات إنسانية للمخرج فِم فندرز حول العالم

خلافاته في هوليوود وعاطفته في طوكيو

Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)
Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)
TT

حكايات إنسانية للمخرج فِم فندرز حول العالم

Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)
Paris ,Texas هاري دين ستانتون في «باريس، تكساس« (رود موڤيز برودكشنز)

الإقبال الحافل الذي حظي به المخرج الألماني فِم فندرز في مهرجان طوكيو السينمائي، الذي انتهت دورته الثالثة والستين يوم الأول من هذا الشهر، كانت مستحقة، كون فندرز أحد أفراد النخبة التي ما زالت توفر لهواة الفن السينمائي أعمالاً ترتفع بالمشاهد إلى آفاق مختلفة عما هو سائد في معظم الأحيان.

في الوقت ذاته، عمد المخرج الألماني في فيلمه الأخير «أيام تامّة» (Perfect Days) لتصوير حكاية يابانية بممثل ياباني وبتلقائية لا تغرّب فيها عن المجتمع الياباني وتفاصيله المُعاشة. «أيام تامّة» هو فيلم ياباني بلمسات مخرج أوروبي، وهو أفضل صنعاً من فيلم عبّاس كياروستمي «مثل واحد في الحب» (Like Someone in Love) الذي كان حققه سنة 2012 بتمويل فرنسي.

Wim Wenders ڤِم ڤندرز (آي أف سي).

بدايات

فِم فندرز (78 سنة) هو واحد من رعيل السبعينات عندما بزغت شمس جيل ألماني جديد من السينمائيين من بينهم رينر فرنر فاسبيندر وفولكر شلندروف وفرنر هرزوغ. ما سبق ذلك الجيل كان حضور خافت جداً للسينما اليابانية التي كانت منقسمة على جانبي الجدار الفاصل. فجأة، انتشرت أفلام هذه المجموعة التي اختلفت أساليبها باختلاف اهتماماتها. الطريق الذي شقّه فندرز كان أكثر الطرق هدوءاً في النبرة وشعرية في جمالياته.

ربما لهذا السبب أنجز فندرز النجاح الأعلى بين أترابه، ففي حين اتجه هرزوغ صوب السينما التسجيلية أساساً، وعمد فاسبيندر لتلك الأفلام الغارقة في ألمانيّتها واختار شنلدروف مواضيع مختلفة بأساليب متعددة، رمى فندرز شباكه حول أعمال مرهفة وغير حادّة وجيدة (رغم وجود أعمال له لا تحمل المستوى ذاته من الجودة كأفلامه الأخرى).

خلفية فندرز بدأت تلفزيونية وفي سلسلة من الأفلام القصيرة التي دامت حتى عام 1971 عندما أخرج «صيف في المدينة». هذا الفيلم دنماركي الإنتاج ودار حول رجل يخرج من السجن ليجد نفسه وقد بات جوّالاً في أنحاء حياة تختلف اليوم عما كانت عليه قبل دخوله السجن.

Perfect Days «أيام تامّة» (ماستر مايند).

تلا ذلك بضعة أعمال ألمانية الموضوع والإنتاج لكنه في العام سجل أول لفت انتباه إلى موهبته عندما أخرج «ملوك الطريق» سنة 1976 الذي كان، فعلياً، الفيلم الثالث في ثلاثية تقع قصصها على الطرق («رود موفيز») بعد «أليس في المدن» (1974) و«الحركة الخطأ» (The Wrong Move) سنة 1975.

في عام 1977 حقق فيلماً صوّره في برلين بعنوان «الصديق الأميركي» (The American Friend) عن رواية بوليسية لباتريشا هايسميث. قصّة الفيلم مثيرة بحد ذاتها لكن القصّة خلف الكاميرا لا تقل إثارة. على الشاشة هي حكاية قاتل مأجور (دنيس هوبر) يقنع صانع إطارات الصور الفوتوغرافية (برونو غانز) بالقيام بالاغتيالات التي من المفروض أن يقوم بها هو. يتمنّع الرجل البريء عن ارتكاب الجريمة لكنه في النهاية يصبح شريكاً فيها.

خلف الكاميرا تعارك الاثنان في الأيام الأولى من التصوير. كان هوبر قد تأخر عن الحضور كونه كان منشغلاً بتصوير فيلم فرنسيس فورد كوبولا «القيامة الآن». يقول فندرز عنه: «حين هبط من الطائرة كان لا يزال في ثياب المصوّر حسب دوره في فيلم كوبولا».

حينها (سنة 1977) كان هوبر مدمناً على الشرب والحشيش وكان يمضي الوقت قبل التصوير في هذيانه لكن، وبشهادة فندرز، حال يبدأ التصوير ينقلب إلى محترف واعٍ. رغم ذلك، شكا غانز من أن هوبر ليس مهنياً واحتقر طريقته في التحضير للمشهد وعدم مبالاته باتباع تكنيك حرفي صحيح. ثم ما لبثت الشكوى، في أحد الأيام، أن أصبحت عداوة، والعداوة تحوّلت إلى شجار لكم فيه غانز هوبر على خده فما كان من هوبر إلا أن لكمه على فمه. حسب المخرج أيضاً، ساد وئام حذر.

عجيب كيف أن لا شيء من هذه العداوة تتبدى على الشاشة. الفيلم من بين تلك الأفلام الجيدة في عداد ما حققه فندرز ومشغول بدراية وإتقان لا بأس بهما.

مشاكل مع كوبولا

بعد عام واحد، حط المخرج في هوليوود ليخرج هناك فيلم شبه سيرة حياة الكاتب البوليسي داشل هامِت. الفيلم كان من إنتاج كوبولا وبطولة الراحل، قبل حين قريب، فردريك فورست (أحد الممثلين الذين استعان بهم كوبولا في أفلامه).

بدأ التحضير للفيلم سنة 1978 ومر بفترة تحضير طويلة. العلاقة بين كوبولا وفندرز كانت أشبه بسفينة جانحة قد تصطدم بصخور الشاطئ في أي وقت، وقد حدث ذلك من يوم التصوير الأول عندما عاين كوبولا المشاهد التي تم تصويرها وأعلن أنه غير سعيد بها. لاحقاً ما طلب من فندرز إعادة تصوير الفيلم بأكمله. لأسباب لها علاقة بالعقد المبرم، كان لا بد للمخرج الألماني تنفيذ الطلب، ولاحقاً ما تبيّن أن الفيلم، الذي حمل اسم فندرز مخرجاً، لم يحتوِ إلَّا على ثلث المشاهد الأصلية التي قام فندرز بتصويرها. الباقي كان إعادة تصوير حسب رؤية كوبولا للفيلم.

في 1982، العام الذي خرج فيه «هامِت» لعروضه العالمية بعد «برميير» على شاشة مهرجان «كان»، أنجز فندرز فيلماً آخر كان كتبه خلال الفترة الفاصلة بين َ«صديق أميركي» و«هامِت» وهو «حال الأشياء» (The State of Thins). من الطريف أن الفيلم دار عن صعوبة العمل لمخرج أوروبي مع منتج أميركي ومع هوليوود كمؤسسة.

الفيلم الأميركي الثالث كان أفضل أفلام تلك الفترة وحققه فندرز حسب هواه وتبعاً لرؤيته الذاتية. كان انكب على كتابة سيناريو بعنوان «باريس، تكساس» ثم انطلق إلى صحراء الولاية بفريق من الفنيين الأوروبيين كونه أراد الاستغناء عن النظام الاستديوهاتي، الذي لم يكن يطيقه. عندما قام أحد الاتحادات الأميركية بلفت انتباه المخرج بأن بعض فنييه ليسوا من النقابة ولا يتمتعون بأذونات عمل انضم إليها كون ذلك سيتيح له استئجار خدمات من يريد.

هذا الفيلم دراما عائلية تقع أحداثها في مدينتين (هيوستن، وتكساس ولوس أنجليس، وكاليفورنيا) وفي صحراء تكساسية عند الحدود مع المكسيك. الحبكة ذات اهتمام إنساني اختار لها فندرز أماكن تصوير وبطريقة تعبير منحته جائزة مهرجان «كان» سنة 1984. قصّة رجل اسمه ترافيز (هاري دين ستانتن) يغيب عن الوعي. يجد الطبيب المعالج (المخرج الألماني برنارد ويكي) رقم شقيق مريضه وولت (دين ستوكوَل) فيتّصل به وهذا يحضر. الستارة هنا تفتح على خلفية أحداث عائلية وعاطفية توضح حال ترافيز الذي نشاهده، في مشهد لاحق، وهو يمشي في الصحراء بخطى واثقة ولو أنه لا يعرف وجهته.

تحيتان

بعد هذا الفيلم تابع فِم فندرز تحقيق أفلام انتقل لأجلها ما بين ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليابان التي حقق فيها فيلمين وليس فيلماً واحداً كما قد يتبادر للبعض. فهو ككان أخرج Tokyo‪-‬Ga سنة 1985 متّكلاً على إعجابه بأعمال المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو الذي تفنن في تصوير شخصياته الهادئة التي يطل منها على حياة المدن اليابانية في تعليقات اجتماعية حول اختلاف الأجيال وتواري ثقافة التقاليد السابقة.

فيلم فندرز دار حوله، وهو يبحث عن تلك المعالم في سينما أوزو. كان ذلك تعبيراً عن حب المخرج الألماني للمخرج الياباني وهو حب يشاركه فيه رهط كبير من أهل السينما والنقد. لكن في فيلمه الجديد «أيام تامّة» هو رسالة حب لشخص خيالي ومن خلاله رسالة يقوم بحفرها في ذات بطله في طوكيو لكن بسمات إنسانية عالمية.

فيلمه حول عامل تنظيف المراحيض العامّة في المدينة اسمه هيراياما (كوجي باكوشو)، يستيقظ كل صباح بانشراح. يركب سيارته البيك أب ويقود سيارته إلى حيث سيعمل. في طريقه يستمع لأغاني الصول ميوزيك والروك أند رول الكلاسيكية حتى وإن لم يفهم كلماتها. كلما صعد حافلته لينتقل من مكان لآخر وضع شريطاً واستمع وغنى. لن يؤثر عليه سلباً نوع عمله ولا وضعه الاجتماعي، الذي يبدو كما لو أنه لن يتغيّر. بذلك هناك تلك الصورة الإنسانية المختلفة. لا يطلب منك أن تتطوّع وتصبح هيراياما آخر، لكنه يقدّمه لك لكي تدرك أن الحياة قد تكون جميلة حتى وإن كان المرء في قاعها. ليست جميلة بذاتها، بل بذات ذلك الشخص الذي ينجح في تحويل عمله إلى جزء من الحياة وليس كل الحياة.

في «أيام تامّة» ليس هناك من تحية مباشرة لسينما ياسوجيرو أوزو، على ذلك يتوسّم المشاهد أن متابعة الحياة اليومية لرجل بسيط وسعيد هو من بعض ملامح المخرج الياباني من حيث رصده لعالم الناس العاديين ومنحهم الضوء الكافي للنظر في دواخلهم. الاختلاف هو أن بطل فِم فندرز إنسان قنوع سيبقى على هذه القناعة مستقبلاً الحياة كما هي.

جوائز نالها فندرز عن أفلامه

نال فِم فندرز أكثر من 90 جائزة من مؤسسات ومهرجانات وجمعيات نقدية. هذه مجرد عيّنات منها.

الاتحاد الأوروبي (2011) عن فيلمه Pina

برلين (2015): جائزة شرف عن مجمل أعماله

سان سابستيان (2017) عن فيلمه The Salt of the Earth

سيزار (2015): جائزة أفضل فيلم تسجيلي عن The Salt of the Earth

كان (2023): جائزة السعفة الذهبية عن Perfect Days

لوكارنو (2005): جائزة شرف عن مجمل أعماله.

فينيسيا (1982) الأسد الذهبي عن The State of Things


مقالات ذات صلة

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)
سينما «بالرغم من» ‫(مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

شاشة الناقد: فيلم افتتاح «ڤينيسيا» 81 مبهر وموحش

يختلف جمهور اليوم عن جمهور 1988 عندما خرج ما بات الآن الجزء الأول من هذا «بيتلجوس بيتلجوس». آنذاك كان الفيلم جديداً في الفكرة والشخصيات

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
TT

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل يحمل عنوان «كلاسيكيات ڤينيسيا».

لا يُستهان بالإقبال الجماهيري، ولا بين النقاد أيضاً، على هذه الأفلام. الجمهور المحتشد لها هو من أهم أجزاء الصورة الشاملة لما يعرضه المهرجان من أفلام (أكثر من 300 فيلم في شتى برامجه وعروضه).

ما هو خاص بالنسبة للعروض الكلاسيكية أنها عاشت ليُعاد عرضها على الشاشات الكبيرة عوض استسهال البعض بالبحث عنها في المنصات المختلفة أو على الإنترنت لمشاهدتها بأحجام صغيرة وبنسخ قد لا تكون ناصعة ومرممة كتلك التي يوفرها المهرجان للحاضرين.

المخرج ناغيسا أوشيما (مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

منتخبات مهمّة

سبعة أفلام تستوقفنا بين منتخبات ڤينيسيا العام الحالي (27 فيلماً) هي «الليل» (La Notte) لمايكل أنجلو أنطونيوني (إيطاليا) و«الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (The Man Who Put His Will on Film) لناغيسا أوشيما (اليابان)، و«انعطاف نهر» (Bend of a River) لأنتوني مان (الولايات المتحدة)، و«الحرارة الكبيرة» (The Big Heat) لفريتز لانغ (الولايات المتحدة)، و«البشرة الناعمة» (The Soft Skin) لفرانسوا تروفو (فرنسا)، و«فتاته فرايدي» (His Girl Friday) لهوارد هوكس (الولايات المتحدة)، بمنأى عنها، بيد أنها في القسم نفسه، فيلم «مارون يعود إلى بيروت» لفيروز سرحال (إيطاليا)، و«الليل» (1961) هو أحد تلك الأفلام التي تمتعت بجمهور عريض عندما أنجزه أنطونيوني في ذلك الحين. أحد أسباب نجاحه أنه على عكس فيلمه السابق لهذا الفيلم، وهو «المغامرة» (L‪’‬Avventura) تحدث عن موضوعه بوضوح بدل إبقائه رهينة التساؤلات كما كانت عادته. ليديا (جين مورو) متزوّجة من جيوڤاني (مارشيللو ماستروياني) وعلاقتهما الحالية تمر بفتور. يؤمّان حفلة ساهرة. هو ينجذب لامرأة أخرى (مونيكا ڤيتي)، وهي تستمتع بالحديث مع رجل آخر (بيرنهارد فيكي)، حين عودتهما للبيت يدركان بأن عليهما استعادة وحدتهما.

بنبرة مختلفة أسس الياباني ناغيسا أوشيما حكاية فيلمه «الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (1970). هو دراما لغزية عن طالب لديه يملك كاميرا فيلم يسرقها منه شاب آخر. هذا السارق ينتحر. العلاقة بين ما صوّره الطالب الأول وكيف ترك تأثيره في المنتحر يمرّ بقناة من الغموض في فيلم لم يعمد أوشيما لنوعه بعد ذلك. والغموض لا يتوقف عند انتحار السارق، بل يستمر مع انتحار صاحب الكاميرا، أو احتمال ذلك لأن المخرج لم يشأ التحديد في فيلم ممنهج ليكون أقرب إلى التجريب.

ملصق المهرجان

تروفو وهوكس

مثّل جيمس ستيوارت حفنة من أفلام الوسترن التي أخرجها أنتوني مان و«انعطاف نهر» (1952) واحد منها. كلها جيدة بمستوى واحد من الحرفة والمهارة. الحكاية هنا هي لرجل قبل مهمّة إيصال شحنة من البضائع مقابل مال. شريكه في الرحلة (آرثر كنيدي) يميل إلى بيع البضائع لمجموعة تعرض مبلغاً كبيراً من المال لشرائها ما يسبّب التباعد بين الرجلين اللذين كانا صديقين إلى ذلك الحين. الفيلم مشحون بالمواقف الحادة والتمثيل الجيد من الجميع (بمن فيهم روك هدسون وجولي أدامز وآخرون في أدوار مساندة).

ممثلو فيلم «الحرارة الكبيرة»، ومنهم غلين فورد، ولي مارڤن، وغلوريا غراهام، جيدون كذلك في هذا الفيلم البوليسي (1953) الذي يلمع فيه فورد تحرياً قُتلت زوجته خطأ، بتفجير سيارة كان سيقودها. المسؤولية تتعارض ورغبته بالانتقام فيتخلى عن الأولى. غراهام هي المرأة التي يضربها القاتل لي مارڤن ويلقي على وجهه أبريق ماء يغلي فيشوّهها. ممتاز بين أفلام الفترة البوليسية.

ما سبق يشي بتنوّع كبير ليس في حدود اختلاف أسلوب التعبير الفني لكل فيلم، بل للكيفية التي يتحكّم فيها المخرج بمفرداته وقواعده السينمائية للوصول إلى أعلى مستوى من حسن التنفيذ.

هذا التنوّع الشديد يتوالى مع اختيار فيلم فرنسوا تروفو «البشرة الناعمة» (1964) الذي ينتمي إلى أعماله الدرامية ذات المنوال الرومانسي، يحكي قصّة ناشر يعيش حياة هانئة مع زوجته، لكن ذلك لا يمنعه من خديعتها مع مضيفة طيران التقى بها. هذا ليس من أفضل أعمال تروفو.

الفيلم السابع المختار هنا، «فتاته فرايدي» (1940) هو كوميديا. واحد من تلك الأفلام التي تميّزت بمهارة المخرج هوارد هوكس في الكتابة وفي إخراج هذه الكوميديات العاطفية. في البطولة كاري غرانت في دور الصحافي الذي يسعى لإثناء زوجته (روزيلاند راسل) عن طلب الطلاق. غرانت لديه نموذج لا يتغير في التمثيل وهو هنا يمارسه بنجاح مثالي.

العالمون سينتبهون إلى أن الحبكة ليست بعيدة عن الفيلم الكلاسيكي الآخر «الصفحة الأولى» (The Front Page) الذي أُنجز مرّتان الأولى سنة 1931 على يد لويس مايلستون، والثانية الفيلم الأشهر الذي حقّقه بيلي وايلدر سنة 1974.

في غير مكانه

«مارون يعود إلى بيروت» (2024) ليس كلاسيكياً، ما يُثير التساؤل في اختياره بهذا القسم. بالتالي هو الوحيد بين ما يرد هنا الذي لم تُتح لنا بعد مشاهدته قبل وصوله إلى هذا المهرجان. تسجيلي عن حياة وأفلام المخرج مارون بغدادي التي بدأت سنة 1975 بفيلم «بيروت يا بيروت». لم يكن فيلماً جيداً، لكن بغدادي اشتغل على نفسه وحقّق ما هو أفضل في لبنان وفرنسا.

ما تبقى ليس سهلاً الحديث عنه في المجال المحدود هذا، لكنه يحتوي على أفلام مهمّة أخرى من الهندي غيريش كاسارايڤالي («الشعائر»، 1977)، ومن روبن ماموليان «دم ورمال» (الولايات المتحدة، 1941)، ورينيه كليمو («ألعاب ممنوعة»، 1952)، وآخرين لهم باع ونجاح في تحديد هويات سينما الأمس الزاخرة.