الأونروا: غزة تتعرض للخنق والموت من القنابل

أرقام مرعبة وثلثا سكان القطاع يعيشون خارج منازلهم

الأونروا: غزة تتعرض للخنق والموت من القنابل
TT

الأونروا: غزة تتعرض للخنق والموت من القنابل

الأونروا: غزة تتعرض للخنق والموت من القنابل

في طريقها إلى الاجتياح البري، يقول ساكن في غزة إن إسرائيل «تدمر ما تيسر لها في القطاع، وتقتل ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، مهدمةً المنازل على رؤوس ساكنيها، والمساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس والمخابز والشوارع، في محاولة لإجبار الغزيين، وخصوصاً في منطقة شمال القطاع، على النزوح قسراً. وإذا كان يمكن رسم صورة لقطاع غزة، فيمكن القول إن إسرائيل تنفذ وعدها بإعادة القطاع 50 عاماً للوراء».

«بينما نتحدث الآن، يموت الناس في غزة»، هذا ما قاله مفوض الأونروا فيليب لازاريني، الجمعة، محذراً من «أنهم يموتون من القنابل والضربات. وقريباً، سيموت عدد أكبر من الناس بسبب عواقب الحصار المفروض على قطاع غزة».

وأضاف محاولاً رسم صورة لغزة من جانبه: «غزة تتعرض للخنق. الخدمات العامة تنهار، الخدمات المدنية تنهار، الخدمات الأساسية تنهار، الدواء ينفد، الغذاء والماء ينفد، بدأت شوارع غزة تفيض بمياه الصرف الصحي. إن غزة على شفا خطر صحي هائل، حيث إن مخاطر الأمراض تلوح في الأفق». وتابع: «نزح أكثر من مليون شخص، وسوت أحياء بأكملها بالأرض، وقتل الآلاف، وأصيب آلاف آخرون ولم يعد بإمكانهم الوصول إلى المستشفيات تقريباً، تحت مراقبتنا».

وتساءل: «ما الذي يحتاج إلى مزيد من الدعم؟ المخابز؟ آلات دعم الحياة في المستشفيات؟ نباتات مائية؟ كلها تحتاج إلى الوقود لتعمل». وتابع: «إنهم أمهات وآباء. أناس رائعون كرسوا حياتهم لمجتمعاتهم. لو لم يكونوا في غزة لكانوا جيرانك. توفي أحد زملائه بينما كان في طريقه لإحضار الخبز من أحد المخابز. لقد ترك وراءه ستة أطفال».

دخان يتصاعد بعد غارة إسرائيلية على غزة الجمعة (أ.ف.ب)

قائمة بأسماء القتلى

في 212 صفحة حملت أسماء الضحايا الرباعية وأرقام هوياتهم الشخصية، ردت وزارة الصحة الفلسطينية على الرئيس الأميركي جو بايدن الذي شكك بأرقام الضحايا في قطاع غزة، ونشرت أسماء 7000 قتلتهم الطائرات الإسرائيلية، عائلات بأكملها، آباء وأمهات وأطفال ومسنون. وبعد ساعات قليلة ارتفع العدد إلى 7400. وقالت وزارة الصحة الفلسطينية في اليوم الـ21 للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إن «عدد شهداء العدوان الإسرائيلي ارتفع إلى 7326 من بينهم 3038 طفلاً و1726 امرأة و414 مسناً، وعدد المصابين إلى 18967».

وفيما يحمل كل اسم من الأسماء المنشورة قصة حياة وذكريات وأمنيات وأحلاماً وطموحات، وترك خلفه كثيراً من الألم لأهله ومحبيه، يجب الإشارة إلى أن إسرائيل تعمدت استهداف الجميع، رجالاً ونساء وأطفالاً، مسلمين ومسيحيين، مسنِّين، وأطباء ومسعفين وصحافيين ومزارعين، ومستشفيات ومدارس ومخابز ومزارع ومساجد وكنائس وأبراجاً وبيوتاً ومصانع وشوارع، وقطعت الكهرباء والماء، ومنعت إدخال الوقود، وضربت الاتصالات، في حرب تبدو أقرب إلى حرب إبادة منها حرب انتقام.

مقاتلة إسرائيلية طراز «إف - 15» فوق حدود غزة الجمعة (أ.ف.ب)

كل القطاعات تحت الاستهداف

حتى اليوم الـ21 للعدوان على قطاع غزة، قتلت إسرائيل 7326 فلسطينياً، بينهم 3038 طفلاً، و1726 امرأة و414 مسناً، فيما ارتفع عدد المصابين إلى 18967. وتظهر الأرقام أن 70 في المائة من الضحايا هم من الأطفال والسيدات والمسنين. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإن 149 عائلة فلسطينية فقدت عشرة من أفرادها أو أكثر في عدوان الاحتلال على غزة، بينما فقدت 123 عائلة ما بين 6 - 9 أفراد، وفقدت 416 عائلة ما بين اثنين إلى خمسة من أفرادها، وذلك في 731 مجزرة.

وتشمل هذه الأرقام، 104 من الكوادر الطبية، أطباء وممرضين ومسعفين وصيادلة قتلتهم إسرائيل في أكثر من 260 اعتداء، طالت مستشفيات ومنازل وسيارات إسعاف، وخلّف هذا أكثر من 100 جريح، وتضررت 50 سيارة إسعاف، بينها 25 تعطلت عن العمل بشكل كامل. أما الصحافيون فقد قضى منهم 34 صحافياً وصحافية، جزء منهم أثناء التغطية وآخرون أثناء وجودهم في منازلهم، ولم تسلم عائلات الصحافيين من القتل؛ إذ قتلت إسرائيل زوجات وأبناء وأشقاء صحافيين.

وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إن إسرائيل قتلت 34 صحافياً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وأصابت العشرات بجراح، فيما هدمت بشكل كلي أو جزئي منازل 39 صحافياً، ودمرت مقرات ومكاتب 50 مؤسسة إعلامية، بينها فضائيات وصحف ومواقع.

وبحسب المكتب، فإن 2 من الصحافيين مفقودان. ولم يسلم موظفو الأمم المتحدة التابعون لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» من القصف الإسرائيلي. وأعلن المفوض العام فيليب لازاريني أن إسرائيل قتلت 57 من موظفي الوكالة في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب وحتى اليوم الـ21 منها.

وطال القتل الإسرائيلي كذلك موظفي الدفاع المدني الفلسطيني الذي نعى 16 من أفراده أثناء تأديتهم واجبهم. ولم تعلن الداخلية الفلسطينية أرقاماً متعلقة بأعداد الشرطة أو موظفي الوزارة والأجهزة الأمنية الذين قضوا في أول 20 يوماً، لكنها نعت قائد الأمن الوطني في قطاع غزة اللواء جهاد محيسن، والعقيد محمد جلمبو مدير وحدة التنسيق الفصائلي في وزارة الداخلية، واللواء فؤاد أبو بطيحان رئيس هيئة المعابر والحدود.

صورة فضائية لمحيط مستشفى «الشفاء» في غزة (أ.ف.ب)

تدمير ربع غزة

دمرت إسرائيل 200 ألف وحدة سكنية بين تدمير كلي وجزئي، بحسب وزير الأشغال والإسكان محمد زيارة، وهو ما يمثل أكثر من 25% من المناطق المأهولة في القطاع. وقال زيارة إن قصف الاحتلال شطب أسراً بأكملها من السجل المدني، ومحا أحياء ومناطق وتجمعات سكنية بقاطنيها، كما دمر منشآت بما فيها مستشفيات، ودور عبادة، ومخابز، ومحطات تعبئة مياه، وأسواق، ومدارس، ومؤسسات تعليمية وخدماتية، وبناء عليه تم تدمير كل مناحي الحياة؛ من صحة، وإسكان، ومياه، وصرف صحي، وبنية تحتية، واقتصاد، وزراعة، وتعليم، وخدمات، ومؤسسات إنسانية، وقطع المياه والكهرباء والوقود، وأن مقومات الحياة الأساسية أصبحت غير متوفرة، وحياة الناس مهددة إما بالقصف وإما بغياب الرعاية الصحية وإما بشح المياه والأكل.

وأظهر إحصائيات جديدة رسمية أن عدد المنازل التي تعرضت للقصف 6.500، وعدد الوحدات 200000، وعدد الهدم الكلي 29 ألف وحدة.

المستشفيات ودور عبادة

التدمير في غزة شمل 79 مقراً حكومياً، بينها مقرات داخلية وشرطة وأجهزة أمنية، كما شمل تدمير 38 مسجداً، و3 كنائس بمدينة غزة. أما عدد المدارس المتضررة فبلغ 189 مدرسة، منها 25 مدرسة خرجت عن الخدمة في قطاع غزة. ومن بين المباني التي ضربت وتضررت بشكل كبير مقر «أونروا» الرئيسي، و29 مدرسة تابعة للوكالة. كما استهدف الاحتلال الإسرائيلي 10 مخابز تم تدميرها بشكل كامل في مناطق مختلفة في قطاع غزة.

وقالت وزارة الصحة إنه تم تسجيل 69 اعتداء على المنشآت الصحية، 12 منها أصبحت خارج الخدمة، وهي: المستشفى الدولي للعيون، مستشفى دار السلام، مستشفى اليمن السعيد، مستشفى الطب النفسي، مستشفى بيت حانون، مستشفى الدرة للأطفال، مستشفى حمد لإعادة التأهيل، مستشفى الكرامة، مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي والجراحة التخصصية، كما من المتوقع أن يتوقف مستشفى الصداقة التركي عن العمل، وكذلك مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر والمستشفى الأهلي العربي المعمداني.

والمعمداني استهدفته إسرائيل بالقصف المباشر مرتكبة هناك مذبحة قضى فيها 500 فلسطيني. وتطالب إسرائيل 24 مستشفى بالإخلاء في شمال قطاع غزة (السعة الإجمالية لهذه المشافي 2000 سرير). كما توقف 46 مركز رعاية صحية من أصل 72 عن العمل جراء القصف ونفاد الوقود. وبحسب هذه الأرقام، فإن 34 في المائة من مستشفيات غزة لا تعمل، و65 في المائة من مراكز الرعاية الصحية الأولية مغلقة.

أطفال فلسطينيون يحصلون على الطعام في مدرسة تديرها الأمم المتحدة في رفح بجنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

ثلثا سكان القطاع خارج منازلهم

ورصد المكتب الإعلامي الحكومي، الجمعة، تعمد إسرائيل استهداف المستلزمات المعيشية والحياتية لمفاقمة الواقع الإنساني الكارثي الذي يعيشه المواطنون. وقال إنه رصد تعمد الاحتلال قصف المنشآت التجارية ونقاط تخزين وبيع المواد الغذائية؛ لمفاقمة الكارثة الإنسانية وتسريع نفادها من الأسواق، وقد جرى ذلك في أكثر من منطقة منها مول أبو دلال بالنصيرات، ومخازن مواد غذائية بحي الدرج، ومنطقة سوق الزاوية وشارع فهمي بك.

كما قصف الاحتلال آلاف دونمات الأراضي المزروعة بالخضراوات، ويمنع وصول المزارعين لها، وقد ألحق القصف دماراً بأكثر من 24 ألف دونم من المزروعات، وباتت غير صالحة للزراعة، إضافة إلى تدمير مزارع دواجن وأبقار ومصانع (لا توجد إحصائية دقيقة). وكل هذا القصف والتدمير غير المسبوق، قاد نحو مليون وأربعمائة ألف مواطن من غزة للنزوح، من أصل 2 مليون و200 ألف، بواقع 685000 نزحوا لدى عائلات أخرى، و565 ألفاً نزحوا في 148 مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، و101000 في المساجد والكنائس والأماكن العامة، 70000 في 67 مدرسة حكومية.

وحذرت وزارة الصحة من أن مراكز الإيواء تحمل فوق طاقتها بنسبة 250 في المائة، ما يشكل خطراً على تفشي الأمراض.


مقالات ذات صلة

موجة نزوح جديدة في غزة... وإصابة مدير مستشفى «كمال عدوان» بقصف إسرائيلي

المشرق العربي الدخان يتصاعد بعد غارة جوية إسرائيلية على مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة (د.ب.أ)

موجة نزوح جديدة في غزة... وإصابة مدير مستشفى «كمال عدوان» بقصف إسرائيلي

أفادت وزارة الصحة في غزة، الأحد، بارتفاع عدد قتلى الحرب الإسرائيلية على القطاع إلى 44 ألفاً و211 وإصابة 104 آلاف و567 منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل خلال مؤتمر صحافي في بيروت (رويترز)

بوريل: لبنان على شفير الانهيار

حذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الأحد، من بيروت من أن لبنان بات «على شفير الانهيار» بعد شهرين من المواجهة المفتوحة بين «حزب الله» وإسرائيل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي أحد أفراد الدفاع المدني يسير بين أنقاض موقع دمرته غارة إسرائيلية ببيروت (رويترز)

الجيش الإسرائيلي يهاجم أهدافاً في البقاع... ويطالب سكان قرى جنوبية بإخلائها

قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، إن الجيش هاجم بنى عسكرية مجاورة لمعبر جوسية الحدودي شمال البقاع، التي قال إن «حزب الله» اللبناني يستخدمها.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي الدخان يتصاعد من المباني بعد قصف سابق على حمص (أرشيفية - رويترز)

هجوم إسرائيلي يستهدف معبراً بريف حمص عند الحدود السورية - اللبنانية

ذكرت «وكالة الأنباء السورية»، السبت، أن الطائرات الإسرائيلية شنّت هجوماً استهدف معبر جوسية بمنطقة القصير في ريف حمص عند الحدود السورية - اللبنانية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي عناصر الدفاع المدني يبحثون عن ضحايا بعد قصف إسرائيلي على مدينة بعلبك في 14 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

لبنان: مقتل 24 وإصابة 45 في غارات إسرائيلية على بعلبك الهرمل

أفادت وزارة الصحة اللبنانية اليوم (السبت)، بأن الغارات الإسرائيلية على بعلبك الهرمل اليوم، قتلت 24 وأصابت 45 آخرين في حصيلة غير نهائية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
TT

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)

لم تكن الغارة الإسرائيلية الثالثة التي استهدفت منطقة البسطة، وسط بيروت فجر الجمعة، ذات طابع عسكري فقط، بل كان لها بُعدٌ رمزي يتمثّل في ضرب منطقة أضحت من البيئات الشعبية المؤيدة لـ«حزب الله»، وتماهت معه منذ تأسيسه في عام 1982 يوم انشق عن حركة «أمل» بصفته تنظيماً مسلّحاً حمل اسم «حركة أمل الإسلامية».

يكفي الحديث عن تاريخ هذه المنطقة لإدراك أن استهدافها وتدميرها لا يقفان عند حدود تعقّب قيادات «الحزب» واغتيالهم وترويع بيئته في قلب العاصمة بيروت فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى تدمير أحياء ومبانٍ ما زالت تحفظ على جدرانها وفي ذاكرتها كثيراً من تاريخ بيروت الجميل، رغم تغيّر هويتها، لا سيما شارع المأمون الذي تحمل عقاراته ومبانيه أسماء عائلات بيروتية سنيّة ومسيحية رغم انتقال ملكيتها في السنوات الماضية إلى أسماء أشخاص من الطائفية الشيعية الذين يدورون في فلك «حزب الله»، بعد أن عزز الأخير وجوده ونفوذه في البسطة وامتداداً منها إلى مناطق أخرى، سواء بفعل استملاك العقارات، أو بنقل سجلات قيد عائلات من الجنوب إلى بيروت لغايات سياسية انتخابية وأحياناً أمنية.

لا يختلف اثنان من أبناء بيروت على أن الهوية الطائفية والسياسية لمنطقة البسطة تغيّرت كثيراً، ويشير مختار المصيطبة، صائب كلش، إلى أن «المنطقة التي استهدفتها الغارة الإسرائيلية، وتحديداً شارع المأمون، ذات غالبية سنيّة بامتياز، وأغلب سكانها من عائلات: عيتاني، وشاتيلا، والنويري، وعيدو، والتنير، ومنيمنة، ومغربل، وسوبرة، وكان فيها عدد لا بأس به من العائلات المسيحية مثل: مجدلاني، وجنحو، ومنيّر، والمطران، وعودة... وغيرها».

وأوضح كلش لـ«الشرق الأوسط» أنه «على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والتهجير من الجنوب إلى بيروت، استوطنت عائلات شيعية في هذه المنطقة، وآثرت البقاء فيها، واستملكت عقارات وشققاً سكنية، ورفضت مغادرتها حتى بعد انسحاب إسرائيل إلى خلف ما كان يعرف بالشريط العازل في الجنوب».

مجزرة «فتح الله»

اللافت أن دور «حزب الله» ووجوده بدأ يتعزز مع اكتشاف ارتباطه بإيران، واتخذ في بداياته من منطقة البسطة مكاناً لقياداته وتقوية نفوذه، وحوّل ثكنة «فتح الله» الواقعة في شارع المأمون مقراً لقيادته. لكن بعد أشهر قليلة من عام 1987، وفي ظلّ تمدده عسكرياً بالمنطقة، اصطدم مع القوات السورية إثر دخول الأخيرة إلى «بيروت الغربية» على أثر إقدام «الحزب» على قتل جندي سوري، عندها عمد الجيش السوري إلى تصفية 27 عنصراً من مقاتلي «الحزب» داخل هذه الثكنة وسيطر عليها، وعرفت العملية يومها بـ«مجزرة فتح الله»، لينقل على أثرها «الحزب» مركز قيادته إلى الضاحية الجنوبية.

اتخذ «حزب الله» من تلك المجزرة عبرة لإعادة صوغ علاقته بالجيش السوري، خصوصاً في ظلّ العلاقات المتنامية بين إيران وسوريا. وأكد المختار كلش أنه «بعد سيطرته عسكرياً على بيروت، سمح الجيش السوري لـ(الحزب) بأن يتمدد في منطقة البسطة شعبياً، وهذا سهّل عليه وعلى مؤيديه استملاك الشقق والمنازل، خصوصاً بين عامي 1988 و1990عندما أطلق العماد ميشال عون ما سماها (حرب التحرير) ضدّ الجيش السوري، وتسبب ذلك في هجرة المئات من أبناء العائلات البيروتية السنيّة والمسيحية من المنطقة، والخشية من استهداف منطقتهم من الجيش اللبناني الذي كان تحت إمرة ميشال عون، كما شمل التهجير النهائي غالبية المسيحيين، وبقي وجود بعضهم رمزياً».

رجال أمن لبنانيون في وسط بيروت... وتبدو خلفهم صورة الأمين العام الراحل لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ب)

صحيح أن شوارع وأحياء المصيطبة، القريبة من البسطة، لا تزال تحمل أسماء شخصيات بيروتية سنيّة، إلّا إن وجهها تبدّل أيضاً، وهذا تظهّر بشكل كبير بعد انخراط «حزب الله» في العمل السياسي؛ بدءاً من الانتخابات النيابية في عام 1992 وحصوله على كتلة وازنة، كما تعزز أكثر بعد تحرير الجنوب في عام 2000، لكنّ التحوّل الأكبر انطلق في عام 2005 على أثر خروج الجيش السوري من لبنان على خلفية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وتصدّر «الحزب» المشهد السياسي ليأخذ الدور الذي كان يمارسه السوريون في لبنان.

نقل نفوس

ويلفت كلش إلى أن «عدد الشيعة المسجلين في دوائر النفوس ببيروت كان ضئيلاً جداً، لكن بعد عام 2005 نُقلت نفوس آلاف العائلات من الجنوب إلى بيروت، وسُجلوا في مناطق مثل المصيطبة، والباشورة، والمرفأ، امتداداً إلى ميناء الحصن وعين المريسة، والسبب في ذلك تعزيز حضور (الحزب) في الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية، بدليل أن نائب (الحزب) عن بيروت، أمين شرّي، حصد 33 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، بينها 28 ألف صوت شيعي، مقابل 6 آلاف صوت فقط لنائب حركة (أمل) محمد خواجة».

ذاكرة المصيطبة

لم يُكتب الكثير عن منطقة المصيطبة، إلّا إن أبناءها المتجذرين فيها يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم تاريخ منطقتهم، ويشير المحامي مروان سلام، رئيس جمعية «بيروت منارتي»، إلى أن البسطة «مصنّفة ضمن قائمة أشهر المناطق التراثية، لكن العوامل التي دخلت عليها غيّرت كثيراً من مزاياها». ويؤكد سلام لـ«الشرق الأوسط» أن المنطقة «تميزت بما تحتوي من مراكز إدارية وتعليمية وطبية، بالإضافة إلى عدد من الحدائق والمتنزهات التي جرى تشويه وجهها؛ إما عمداً، وإما تقصيراً»، لافتاً إلى أنها «غنيّة بالمطاعم والمقاهي الواقعة في مبانٍ تراثية قديمة». ويردّ سلام تسمية المنطقة «البسطة» إلى أنها «اعتُمدت مقراً لسلطة المماليك، وحملت هذا الاسم نسبة إلى الكرسي الخشبي التي كان يجلس عليه السلطان».

أكثر من ذلك، حملت المنطقة اسم «البسطة الشريفة»، كما يقول المحامي مروان سلام؛ «ففيها كانت تقام حلقات تلاوة القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية الشريفة، وكان لأهل بيروت في ذلك الحين مكانان يتحلقون فيهما للغرض المذكور؛ هما (البسطة الفوقا) و(البسطة التحتا)، ويعنون بهما الحلقات الدينية».

محطة القبضايات

ويتحدث عن مزايا أبناء المنطقة؛ «إذ كانت محطة دائمة للقبضايات الذين يرتادون مقاهيها، وكانت معبراً لـ(ترامواي بيروت) الذي ينطلق من البربير إلى النويري ثم البسطتين الفوقا والتحتا، والباشورة، وصولاً إلى محطته في (ساحة رياض الصلح)». ويضيف سلام أن البسطة «رغم صغر مساحتها، فإنها كات تحوي عدداً من المستشفيات منها: (البربير)، و(الإسلامي)، و(مليح سنو) و(مستشفى الدكتور محمد خالد)، إضافة إلى مدارس: (الشيخ نور)، و(عزيز مومنة)، و(شريف خطاب)، و(العلماوي) و(مكارم الأخلاق). كما خرّجت عدداً كبيراً من الفنانين، منهم: نجاح سلام، ومحمد سلمان، وأنطوان كرباج، وشوشو، ومحمد شامل، ومحيي الدين سلام، والرسام مصطفى فروخ... وغيرهم. وهؤلاء جميعاً من أبنائها وكانت تفخر بهم ويفخرون بها وبتاريخها».