أغمض قصيّ خولي عينيه وعدَّد النِّعم: «أهلي، ابني، الصحة، العمل والإيمان». حين سأله محمد قيس عمّا ينقص، حلَّ صمت. فسَّر له أنه جراء التوق إلى كثير لم يتحقق، وهو يفكر من أين يبدأ. الغياب عن العائلة، الأصدقاء، الحب، الثقة، وبعض ما يفضّل إبقاءه بين أسرار القلب. افتتح الإعلامي اللبناني برنامجه «عندي سؤال» (المشهد) باستضافة اسم قلّما يطلّ. برَّر أفضلية التواري حين لا يكون لدى المرء ما يقوله. لنحو ساعتين، مرَّ الحديث على محطات في المهنة والإنسان.
حين شكر الضيف مُحاوِره في نهاية اللقاء، توقّف عند «النكش»؛ وهو تنقيب الأعماق وإيقاظ الذاكرة. بدءاً من «هل البال مرتاح؟»، وصولاً إلى جَمعة الرفاق وشغب البدايات. قيس، ورئيس تحرير البرنامج جورج موسى، باحثان عن الاختلاف. في السؤال وكيفية طرحه، وفي أناقة الحوار. شكرهما بالاسمين لإحساسه بأنه مُحتَضن، لا يُحشر في زاوية مُحرجة، ولا يسير في حقل ألغام. أطلق المواقف لأنه مرتاح، وخصَّ الحلقة بالسبق من دون أن يُزجّ بما لا يليق.
عاد صبياً بين أم وأربع فتيات، دلّلنه ومنحنه الدفء. حافظت الحلقة على حميمية الضيف وتركته يستعيد الصور: الجبل والبحر في قريته وأيام الشام العصية على النسيان. ليس مرتاحاً ما دام السوريون في الأصقاع، تؤلمهم البلاد. جرحُ الوطن تقابله عائلة شكّلت العوض. وإنْ سأل قيس، الآتي من أسرة لم تنجب الإناث، عن معنى الأخت، وهل هي سند أو «الهَمّ للممات»؟ كما تُلقِّن بعض المجتمعات، أجابه بأنّ الأخوات رفيقات وحنان ونعمة.
استوقفه سؤال «المرة الأولى»: الكف الأول، التمرّد الأول، الحب الأول، التحدّي الأول... عبَّرت ضحكة لم تغادر وجهه عن امتنان للدروس والمَفارق. أقرَّ بجدوى الندم، «فمَن لا يندم لم يخض التجارب». أخبر مُحاوِره عن حبيبة المدرسة وحيَل التقرُّب منها، وعمَّن حاول إطفاءه قبل الشُّهرة. تحدّث عن الفرص والرهانات، وذَكَر حاتم علي بالفضل. بين المغرم المُصاب بالخجل والتلميذ المنتفض على المنهج الدراسي، وثقَ قصيّ الممثل بالدرب. ورغم مقابلته ببعض الرفض، أثبت العكس: «أفرض احترامي بموهبتي، لا جراء أي دعم. هذا التحدّي الأول».
الجزء البديع في الحلقة هو قصيّ الإنسان. سُرَّ لهذه الاستعادة، ولإعلان أنه ابن أبيه، منه ينهل ويستمدّ الإلهام. أطلق اسمه على ابنه، لأنّ الوفاء نُبل. أما سؤال: «ماذا تعني لك كلمة بابا؟»، فأشعل تنهيدة: «الحب والأمان، وآمل أنني أحيطه بهما رغم المسافات».
غاب قصيّ خولي عن اللقاءات، وحملت عودته هذه الخلاصة: «أعتزّ بكل أخطائي. سقطتُ وفشلتُ، لكنهما دَرَجُ النجاح». تأثّر بفيديو استقبال ابنه له على المطار، هو المقيم في أميركا وقصيّ في الأسفار وحيث تنادي الأدوار. لمحه يكبُر بينما يخبره بما مرَّ وتعلَّم، وعن الخيارات الخطأ. يشاء للابن الاعتزاز بمساره، كما يعتز بإرث أبيه الصحافي وسمعته في عالم الحبر والقلم.
تفوح رائحة الضحكات المتصاعدة من الصور. واجهه قيس بكادر يقيم فيه مع تيم حسن وباسل خياط، ليعيده إلى أيام المعهد العالي والأحلام الكبرى. مراراً ذكّره أنه في دردشة والصحافي فيه لا يتدخّل إلا في حالات مُلحَّة. في الشأن الفني، سمح له بالظهور. أعطاه مقعده وكلَّفه طرح الأسئلة. حركش بهدوء ونقَّب باحترام. بقي كل ما هو مؤذٍ خارج الحوار.
قدَّر المنافسة وأعلى شأنها: «على مَن أمامك أن يكون قوياً، فيتغيّر كل شيء». شغبُ محمد قيس قابله ضيفه بانتباه، فردَّ على سؤال «لو جُمعتم بمسلسل، أنت وباسل خياط وتيم حسن، اسم مَن يسبق في ترتيب الشارة؟»، بالاعتراف بإشكالية المسألة ولعلها تقف وراء عدم المغامرة بهكذا مشروع ضخم.
المقابلة ملهمة، كرَّر ضيفها الدعوة إلى «تكبير الأحلام». فإنْ حصل المرء على مبتغاه خفُتت الجدوى؛ لذا، فتوسيع الحلم يُبقي معنى الأيام. حلَّ صمت حين سأله «ماذا بعد؟»، وردَّ بأنه سؤال صعب يطرحه على نفسه ولا يجد الجواب. الاحتمالات مفتوحة، والتأكيد الوحيد أنّ المهنة تسكنه وبها يتنفّس الحياة.
سجَّل عتاباً مبطّناً، ولم يُخفِ أنّ إنتاج جزء جديد من «2020»، بغيابه، يُسبب زعله. كشف عن بطلة إطلالته الرمضانية، دانييلا رحمة، مع «إيغل فيلمز»، ومرَّ على أدوار ومحطات، وعلى شارات وثنائيات. وإنْ دوَّر زوايا، حافظ على الصراحة، وما لم يقله بوضوح، مرَّره بين السطور. ردَّ على نقد مسلسل «وأخيراً» بتبرير ظروفه، ولم تَسْلم الدراما التركية المعرَّبة من ملاحظاته. يؤلمه الحسّ التجاري وتحوُّل الفن إلى سلعة، مع تأكيده على جهود واستثناءات.
كما بدأ، بعدّ النِّعم، ختم: «علّمتني الحياة الاستيقاظ كل يوم وشكر الله. أتطلّع على ما أملك وأعجز عن وصف الامتنان».