كانت رواية «الدولفين» للروائي عدنان منشد، الصادرة عام 2023، مفاجأة غير متوقعة بالنسبة لي. فهذه هي المرة الأولى التي أقرأ فيها نصاً روائياً متكاملاً للكاتب الراحل الذي عرفناه ناقداً مسرحياً وإعلامياً قبل كل شيء. فالرواية تكشف عن موهبة سردية أصيلة ومتفردة. فقد وظَّف الكاتب مخيلته الجامحة ليخلق لنا عالماً كابوسياً، يذكِّرنا بعوالم فرانز كافكا الكابوسية؛ حيث قدم لنا المؤلف دستوبيا عراقية تنهض على رسم ملامح عالم مليء بالعنف والقسوة والموت والجثث. هذا العالم هو نتاج تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003.
لقد عمد الروائي لخلق بنية سردية تنهض على توظيف ضمير المتكلم (أنا) في سرد أوتوبيوغرافي اعترافي، يلتقط فيه السارد وبطل الرواية «داود محمد أمين»، المكنى بـ«الدولفين» ملامح العالم الخارجي، ويضعها داخل فضاء ضيق من الكوميديا السوداء الموشومة بنكهة عراقية، ترتبط أساساً بالواقع السياسي المرير الذي خلفه الاحتلال الأميركي، وتداعياته المتنوعة، ومنها الصراع الطائفي، وهيمنة الميليشيات المسلحة المدعومة بالسلاح غير الشرعي والقتل على الهوية، وشرعنة عملية قتل المعارضين والخصوم السياسيين، من خلال خلق عصابات ومافيات للقتل الشرعي بأسعار محددة.
ومن هذه النقطة بالذات، تتحرك الرواية؛ حيث نجد بطلها داود محمد أمين وساردها، وهو بروفسور بالبيولوجي، قد اضطر عام 1991، وتحديداً في زمن الحصار، إلى العمل سائق تاكسي في سيارة من نوع «دولفين»، ومن هنا كُني بـ«الدولفين»، وسُمي أيضاً «البروفسور»؛ حيث وضع خبراته العلمية في البيولوجيا في خدمة عصابات القتل والاغتيال التي يدعمها الحاج فلاح، المكنى بـ«الضبع»، بابتكار وسيلة علمية للتخلص من الجثث التي يجلبها الضبع وعصابته، عن طريق إذابتها في محاليل قوية، وجرفها بعد ذلك مع دورة المياه الصحية، وهو أسلوب سبق أن وظفه الجزار ناظم كزار، مدير أمن النظام الديكتاتوري الصدامي.
يكتشف بطل الرواية المركزي عوالم فنطازية ودستوبية يعيشها «الضبع» وعصابته، فتحت للرواية مسارات جديدة تعمق فيها جوهر بنية الكوميديا السوداء. ومن خلال السرد الذي يقدمه بطل الرواية المكنى بـ«الدولفين» تتكشف لنا خيوط شبكة أو شبكات مافيا إجرامية كبيرة، مرتبطة بذوي الشأن السياسي، هدفها قتل أو إخفاء المعارضين والخصوم السياسيين؛ حيث نتعرف إلى شركاء كبار، منهم العقيد عبد الباقي مدير شرطة القناة الذي يتستر على هذه الأعمال الإجرامية لقاء عمولة كبيرة.
ويستمر الانسجام في عمل أفراد العصابة لبعض الوقت، إلى أن يبدأ التفكك والصراع والاختلاف بين الفرقاء، فتبدأ عمليات تصفية داخلية لرموز العصابة، تطول الجميع، وكأن هناك يداً غامضة هي التي تحرك اللعبة. ويعلن الضحايا من أفراد الشبكة أن ما سيصيبهم يمثل «العدالة»، كما أشار العميد عبد الباقي إلى ذلك مرة. وهذا يتفق مع رؤيا المؤلف الذي ينفذ لونا من مبدأ «العدالة الشعرية» Poetic Justice؛ حيث يتلقى المسيؤون والأشرار العقاب الذي يستحقونه.
ومع أن السرد المهيمن في الرواية يتمثل في سر «الدولفين»، فإن الرواية تنفتح على بعدٍ بوليفوني من خلال تعدد الأصوات ومشاركة كثير من الشخصيات الروائية في إغناء السرد عبر ضمير المتكلم، وخصوصاً في الثلث الأخير من الرواية؛ حيث يكتسب السرد بعداً فنطازياً، ذلك أن المشاركين يتحدثون عن تجاربهم بعد موتهم، وبعد أن تحولوا إلى سائل «يخرخر» في المجاري التي ستصب في نهاية الأمر في النهر.
وأول من يتحدث عن تجربته هو «جمال حمدان»:
«أنا جمال حمدان، لبست اليوم بدلتي وقبعتي وعصاي، كما يجب، فظهرت بشكل وسيم لا يجارى... الذي يخرخر الآن في المجاري هو أنا». (ص 82).
أما الشخص الثاني الذي يقدم شهادته، بعد موته طبعاً، فهو «بلاسم داود»:
«اسمي بلاسم داود، أبدأ في كتابة ما كان وما هو كائن من سيرتي، واصفاً ما يجري حولي، وما يضطرم في داخلي من أهوال». (ص 89).
وتمثل كلمات هذا الشاهد إشارة إلى نزعة ميتا- سردية في الرواية؛ حيث نجد رغبة في التدوين والكتابة. ويمكن أن نعد شهادة بلاسم بوصفها وثيقة أو مخطوطة مستقلة، كما يمكن أن ننظر إلى بقية الشهادات بوصفها مخطوطات وثائقية أيضاً.
أما الشاهد الثالث، فهو «الحاج فلاح» المكنى بـ«الضبع»، وهو الرئيس الفعلي للعصابة، وأهم شخصية في الرواية بعد شخصية «الدولفين» داود محمد أمين:
«أنا الآن الحاج فلاح الضبع، ولست ذاك الصبي الذي لُقب باللقيط». (ص 97).
ونجده في مستهل هذه الشهادة يقوم بقتل فتاته ياسمين التي سبق أن أهداها سيارة ومجوهرات:
«أفقت من ذهولي على حيرتي في مقصدي: في هذه البطانية جثة ياسمين، تلك الفتاة التي أهديتها مجوهرات ومعاطف وسيارة».
أما الشاهد الرابع فهو «العميد عبد الباقي مخلف» مدير شرطة القناة، وهو شرطي مرتشٍ ومتواطئ مع عصابة الحاج فلاح الضبع.
وبدم بارد، نرى جثة الحاج فلاح الضبع، نفسه، ملفوفة في بطانية بانتظار دورها في عملية التذويب، كما نكتشف جثة أخرى هي جثة جمال الحنظل، أعقبته جثة بلاسم داود، ولكي يمنح العميد عبد الباقي مبرراً للقتل، قال إن ذلك مثل العدالة. وأشار العميد عبد الباقي إلى أن «الشركة تريد تصفية والد بلاسم لكي ترث زوجة جمال الحنظل ثروة زوجها». (ص 118).
وتتيح الإشارة إلى وجود «شركة» الفرصة للاعتقاد بوجود قوة عليا غامضة هي التي تتحكم عن بعد في عملية تصفية جميع المشاركين، بمن فيهم العميد عبد الباقي نفسه. ويستسلم العميد عبد الباقي لمصيره ببرود، وهو يدخن سيجاراً كوبياً نادراً؛ حيث اختفى مع القاتلين ياسر وجاسم في غرفة الإذابة.
«الدولفين» تجربة نادرة في تاريخ الرواية العراقية حتى يمكن أن نعدّها بمثابة ترميزة عن الواقع العراقي اليوم
أما آخر من يدلي باعترافه الأخير، فهو البروفسور، المكنى بـ«الدولفين»، بطل الرواية الرئيسي، وهو يتحدث بتلقائية وكأنه يجلس على كرسي اعتراف أمام كاهن تخيلي، تماماً مثلما جلس قبله بقية الشهود على كرسي الاعتراف هذا:
«ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى لمحت أربعة أشخاص بالزي المدني العادي ملثمين باليشاميغ يقتربون مني. قال أحدهم: أنت داود». (ص 121).
وهكذا اقتاده الملثمون الأربعة إلى مصيره النهائي، بعد أن وضعوا القيود في يديه، ورموه داخل سيارة سوداء، ثم أطلق عليه أحد الرجال رصاصة:
«خرجت الرصاصة من الشخص الأول، شعرت بجرح حارق ثم خدر». (ص 126).
وهكذا غاب إلى الأبد، ليسدل الستار على المشهد التراجيدي الأخير في الرواية:
«بعد حين توسدت فراغي، ونمت في نومي». (ص 126).
وهكذا تنتهي فصول هذه الرواية الغرائبية التي تكشف عن عالم دستوبي بامتياز؛ حيث تهيمن عليه صور الجثث والقتل والدماء وغرفة تذويب الأجساد البشرية، وتحويلها إلى مجرد سائل يخرخر في المجاري.
أشرت سابقاً إلى وجود قوة غامضة تتحكم في مصائر الشخصيات الروائية، وكأننا إزاء منظمة (مافيا) قوية تدير كل شيء، وأن قرارات القتل كانت تصدر بالإجماع، كما أن «الدولفين» نفسه كان يشبه الملثمين الأربعة بالميليشيات.
يمكن القول إن رواية «الدولفين» هي تجربة نادرة في تاريخ الرواية العراقية، وهي -بالتأكيد- على الرغم من غرائبيتها لم تسبح في فضاء سديمي فارغ؛ بل كانت تستقرئ بذكاء صفحات مسكوتاً عنها من واقع الحياة في المجتمع المعاصر، ومعاناته، بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 وتداعياته، حتى يمكن أن نعدَّها بمثابة ترميزة عن الواقع العراقي اليوم.