ما أهم الأفكار السائدة في الثقافة الغربية المعاصرة؟

التكنولوجيا تساهم بقوة في نشرها على مستوى العالم بأسره

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو
TT

ما أهم الأفكار السائدة في الثقافة الغربية المعاصرة؟

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو

كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يعتقد بأن المجتمعات البشرية تمر في مراحل مختلفة عبر تاريخ تطورها الثقافي، بحيث إن كل جماعة تتميز بمستوى معين من الوعي العلمي والفلسفي والسياسي والديني عبر تاريخها المتواصل، وعبر تفاعلها وتعاملها مع الجماعات الأخرى. على هذا الأساس، رأى فوكو أن كل جماعة بشرية تكون محكومة بخطاب معرفي يكون بدوره خاضعاً لمستوى الثقافة المسيطرة في مرحلة معينة من تاريخ الجماعة، ويسميه فوكو بمصطلح «إبيستيميه» Epistémé (الخطاب المعرفي السائد).

إذن، إن الخطاب السائد في المجتمعات المحلية يتفاعل مع المجتمعات الأخرى، بحيث ينتج عن هذا التفاعل نوع من السيطرة أو القبول والتعاون في ميدان الثقافات المختلفة على الصعيد العالمي. ولا شك في أن التكنولوجيا المعاصرة تساهم بقوة في نشر الأفكار السائدة على مستوى العالم بأسره.

في هذا المقال المحدود، سوف نحاول استعراض أهم الأفكار السائدة والمؤثرة في الثقافة الغربية المعاصرة، استناداً إلى مجلة «العلوم الإنسانية» الصادرة في فرنسا، في شهر فبراير (شباط) من عام 2019، والتي خصصت ملفاً أساسياً موسّعاً حول هذا الموضوع. وسوف نستعرض هذه الأفكار حسب الأبجدية الفرنسية.

هانس أسبرجر

نبدأ بفكرة Apocalypse التي تبشرنا بنهاية العالم أو بالقيامة. هذه الفكرة تطرح إمكانية انهيار العالم، اعتماداً على تقارير فريق الخبراء الحكومي حول المناخ والنشاط البشري الذي أدى إلى سخونة الكوكب الأرضي. وأصحاب هذا الرأي ينبهون إلى ضرورة أن تتحضر البشرية من اليوم للعيش في كوكب غير قابل للعيش.

الفكرة التالية Antispécisme المناقضة لنظرية الأنواع، تتعامل مع نظرية تفوّق النوع البشري على أنها تشبه العنصرية والجندرية. إن أصحاب هذه الفكرة يتعاملون مع الحيوانات بالتساوي مع الإنسان، ويدينون آيديولوجيا النوع، وينادون بضرورة تحرير الحيوان.

الفكرة التالية تحمل عنوان Asperger، أو «متلازمة أسبرجر» الذي اعتبر أن التوحّد (Autisme) كان يُعتبر خطأ كمحاولة مرَضية نفسية للتقوقع في مواجهة العالم، وصولاً إلى الهروب من الأهل غير الجديرين وغير المحبين. وفي بداية ثمانينات القرن العشرين بدأت «متلازمة أسبرجر» تفرض نفسها، وتحمل اسم طبيب الأطفال النمساوي الذي وصف قبل أربعين عاماً أطفالاً متوحدين يتميزون بغياب التأخر العقلي، وبتمكن ممتاز من اللغة. والدليل على ذلك عدد من المتوحدين الذين عرفوا شهرة واسعة إعلامية وأدبية.

الفكرة التالية تحمل عنوان Bienveillance، أي تربية المشاعر الطيبة، وتكريس فكرة التسامح، وهذا الرأي يبدو حائزاً الإجماع.

والفكرة التالية تحمل عنوان Capitalocène، أو محاكمة النظام الرأسمالي. وهنا نطرح السؤال التالي: من المسؤول عن سخونة الأرض؟ إجابتان ممكنتان: البشرية بكاملها، أو الأغنياء هم وحدهم الذين يهدمون الكوكب.

الفكرة التالية تتعلق بالمناخ Climat، أو بالهندسة الجيولوجية في سبيل إنقاذ العالم. لقد أصبح مؤكداً أن كوكب الأرض يسخن، ولكن كيف نخرج من هذه المشكلة؟ إن جواب علماء البيئة المباشر والاعتيادي يتلخص في الدعوة إلى خفض النمو. ولكن الذين يدعون إلى ذلك يعرفون أنه لا يمكننا التهرب من القيامة أو من نهاية العالم. ولكن النظام الرأسمالي يجيب بأنه تجب مواجهة المشكلات التي تجلبها التكنولوجيا بواسطة التكنولوجيا ذاتها. إنها سوق القرن الحادي والعشرين: إنقاذ البشرية. وسوف يتوجب تصور الوسائل التكنولوجية التي سوف تنقذ الأرض من التسخين.

ومن الأفكار السائدة والمهمة: Démocrature (استبداد الديمقراطية). هذا العنوان يستدعي القول بأن الديمقراطية في خطر، حسب تقارير المنظمات غير الحكومية؛ إذ إنه منذ ربع قرن لم تتقدم الديمقراطية في العالم؛ بل هناك أنظمة هجينة خليط بين الديمقراطية والتسلطية، تنمو حتى في البلدان الغربية (هنغاريا، وبولونيا). وأصبحت الحريات الفردية بشكل خاص موضع تساؤل (التعبير، التظاهر، التجمع، تعددية وسائط الإعلام...). وهناك بعض المثقفين الذين يتوقعون جدياً «نهاية الديمقراطيات» حتى في العالم الغربي. ووصل الأمر بالأستاذ الأميركي ستيفن هولمز إلى المقارنة البيولوجية؛ حيث إنه يعتبر أن الديمقراطية هي كأي كائن عضوي طبيعي ويمكن أن تموت. أما الصحافي جان-كلود هازيرا فقد استخدم مصطلح Démocrature كي يصف التحولات الحديثة للديمقراطية في بعض البلدان، كالولايات المتحدة وإيطاليا والنمسا، إذ إن هذه الدول لم تعد ديمقراطية حقاً، وذلك لأن قادتها يتبنون ممارسات تسلطية.

إذن نحن اليوم نعيش في عصر الديمقراطيات الخائبة. ورغم ذلك، فإن المواطنين يبقون متعلقين بالديمقراطية. باختصار: إذا كان الخبراء كما المواطنون يعترفون بنقائص وهشاشة الديمقراطيات الغربية، تبقى أقلية من المواطنين معجبة بالنظام التسلطي أو السلطوي.

ومن معجم الأفكار السائدة فكرة Épigénèse أو نظرية التخصيب. وهذه النظرية تستعيد طرح التساؤل حول الدور الوحيد للجينات في بناء الجسم الحي. الفكرة التالية Happycratie أو نظام السعادة. هذا العنوان يستبطن السؤال الآتي: هل السعادة إلزامية؟ في الواقع إن مسألة السعادة مطروحة بقوة، وكأن على الفرد أن يكون سعيداً مهما كلفه الأمر، بحيث يصبح تعيساً؛ لأنه لا يستطيع أن يكون سعيداً في ظروف معينة وتعيساً في ظروف أخرى. كيف يكون المرء سعيداً في ظل استبداد نظام السعادة؟ أليس الإنسان حراً في الحزن وفي السعادة؟

من أفكار الثقافة المعاصرة تبرز فكرة حسن الضيافة Hospitalité. هذه المسألة تتعلق بموضوع المهاجرين وضرورة تأسيس سياسة تقوم على حسن الضيافة، والعمل على تشجيع التعاون بين المهاجرين والمقيمين في سبيل الصالح العام.

الفكرة التالية: Hyperparentalité تتعلق بمبالغة الجيل الجديد من الأهل في الإحاطة بأبنائهم بحيث إنهم يتميزون بالميل المتطلب جداً تجاه أنفسهم، بحيث إنهم يريدون إنجاب طفل يكون سعيداً طيلة حياته، ولذلك يبالغون جداً في ممارسة الإحاطة بكل شاردة وواردة في حياة أطفالهم. ويبقى أنه بالنسبة إلى أهل هذا الزمن يبدو أن التشخيص أسهل من العلاج المطلوب: إذا كان الأهل يحاولون أن يكونوا كاملين، فيُخشى من أن يصبح التحدي قبول تنشئة أطفال غير كاملين.

ومن أفكار اليوم تبرز فكرة الذكورية le masculinisme التي تشن الهجوم المضاد؛ لأن العالم قد يصبح بين أيادي النساء. وهذا ما يطرحه أنصار الذكورية الذين يعبرون عن قلقهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً من خلال أصوات بعض الجامعيين الأنجلوساكسون، الراغبين في إعادة الاعتبار للهيمنة الذكورية. وفي فرنسا يتمثل هذا الفكر بالصحافي إريك زمّور، ومنظر اليمين المتطرف ألان سولال، وبالمحلل النفسي ميشال شنايدر.

من المسؤول عن سخونة الأرض؟ إجابتان ممكنتان: البشرية بكاملها... أو الأغنياء هم وحدهم الذين يهدمون الكوكب

ومن الأفكار السائدة تلك التي تقول بالمجتمع المفكك No society. وإحدى المقاربات المطروحة للنقاش حول هذا الموضوع هي مقاربة عالم الجغرافيا كريستوف غويلوي الذي يعتقد بأن الواقع الاجتماعي قد يكون منقسماً. وبدءاً من ثمانينات القرن الماضي وتحت تأثير السياسات الليبرالية، أصبحت الانشقاقات اجتماعية اقتصادية، مع اختفاء الطبقات الوسطى، وجغرافية بسبب الهوة المتنامية ثقافياً بين فرنسا المتروبولية وفرنسا الأطراف؛ حيث أصبحنا أمام فرنسا من فوق المتكونة من النخب المثقفة والسياسية والمالية، ولا تهتم أبداً «بعالم الأطراف».

ومن الأفكار الرائجة اليوم le posthumanisme (ما بعد الإنسانية). في الواقع إن نزعة تحويل الإنسان le transhumanisme هي مشروع تحسين القدرات الجسدية والذهنية والأخلاقية لدى الإنسان، من خلال التكنولوجيا العضوية، أما نزعة «ما بعد الإنسان» فتمثل التيار الفكري الذي يتمتع بإمكانية تدشين نوع جديد من خلال تحقيق هذا المشروع. إن أحد أشهر المبشرين بهذه الحركة هو إيريك دريكسلر الذي نشر عام 1986 كتاباً تحت عنوان «محركات الخَلق»؛ حيث كان يترقب الطريقة التي من خلالها سوف تفتح تكنولوجيات «النانو» عصراً جديداً، من خلال تحويل عميق للكائن البشري.

وحول هذا الموضوع، هناك فكرة توحي بكثير من الخشية من أن يوماً ما سوف تصبح الآلات أذكى من البشر، ومن الممكن أن تعدمهم. هكذا قد يصبح العالم ما بعد البشري تحت إدارة الذكاء الاصطناعي. ويمكننا بحق أن نقلق تجاه هذا الأمر. ولكن حتى الآن لا شيء يشير إلى أن الآلات سوف تصبح يوماً ما قابلة أن تكون مستقلة. وذلك لم يمنع بعض الفلاسفة من نقد القصد الأول للنزعة الـ«ما بعد إنسانية» المتمثل بتحسين شروط الكائنات البشرية من خلال تسويقها.


مقالات ذات صلة

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أفلاطون

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية تختلف عما نراه في أفلام السينما

خالد الغنامي
ثقافة وفنون عبد الزهرة زكي

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة

علاء المفرجي (بغداد)
ثقافة وفنون عادل خزام

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟

شاكر نوري (دبي)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».