المبادرة السعودية لمنع الاجتياح الإسرائيلي اصطدمت برفض السوفيات

«الشرق الأوسط» تنشر شهادات من صيف لبنان الساخن عام 1982 (2 من 3)

TT

المبادرة السعودية لمنع الاجتياح الإسرائيلي اصطدمت برفض السوفيات

عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)
عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)

في إطار الشهادات التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن صيف الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عام 1982، يروي هاني الحسن، عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، أن الفلسطينيين تجمعت لديهم معلومات قبل الاجتياح بسنة تفيد بأن «إسرائيل تعدّ لعدوان واسع على لبنان بهدف ضرب الوجود العسكري للمقاومة».

يقول إن قيادة منظمة التحرير اتصلت بالسعودية التي تجاوبت بسرعة وهو ما تبلور في مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز. يضيف الحسن «أن الهدف من المبادرة كان من أجل امتصاص الحرب المقبلة في لبنان ومنع حصولها. الواقع أن المبادرة تعثّرت لأن الاتحاد السوفياتي أصدر أوامره بعرقلتها».

في الشهور الأولى من عام 1982 بدأت تتوارد إلى مكتب مدير المخابرات في الجيش اللبناني العقيد جوني عبده معلومات عن استعدادات إسرائيلية لتنفيذ عملية اجتياح واسعة قد تصل إلى بيروت. وسأترك عبده يروي.

حصلنا على هذه المعلومات من مصادر لبنانية. وأعتقد أن الدول الغربية نفسها كانت تستقي معلوماتها من لبنان. كانت المعلومات على درجة من الأهمية والوقاحة إلى درجة أنه لم يكن ممكناً تصديقها لدى تحليلها. كانت المعلومات تتحدث عن اجتياح واسع مع رغبة إسرائيلية في تحاشي صدام مع القوات السورية المنتشرة في لبنان. ولم نكن نحن نرى كيف يمكن شن مثل هذا العدوان الواسع من دون الاصطدام بالقوات السورية. وكانت لدينا تساؤلات عن مدى أهمية مغامرة من هذا النوع، خصوصاً في ضوء العلاقات السورية - السوفياتية والمعاهدة الموقعة بين البلدين.

ثم بدأ الحديث عن التواريخ. وتبيّن أن التاريخ الأول كان قبل ثلاثة أشهر من وقوعه. ثم عُدّل وأرجئ إلى يونيو (حزيران). حين أطلعت وزير الخارجية فؤاد بطرس على هذه المعلومات في حضور الرئيس إلياس سركيس، سألني بطرس عمّا أصدّقه من المعلومات، فقلت 10 في المائة فقط. فقال: «عال، ظننت أنك جُننت!». كان تحليل بطرس أن إسرائيل لا يمكن أن تتحاشى الصدام مع سوريا التي يمكن أن تفتح جبهة الجولان ثم يتدخل الاتحاد السوفياتي، واستبعد أن يصل الإسرائيليون إلى هذه الدرجة من المغامرة.

جبهة الإنقاذ الوطني تعقد اجتماعها الأول في قصر بعبدا عام 1982 برئاسة الرئيس إلياس سركيس وحضور رئيس الحكومة شفيق الوزان والنائب نصري المعلوف وبشير الجميل وفؤاد بطرس ونبيه بري ووليد جنبلاط (أ.ب)

غادر بطرس القصر، فسألني سركيس هل أصدّق 10 في المائة فقط من المعلومات، فقلت: «لا، إنني أصدّق 90 في المائة منها، لكنني قلت ذلك أمام الوزير بطرس رغم اعتقادي أن الإسرائيليين درسوا سلفاً المسائل التي أثارها». كلفني الرئيس سركيس إطلاع رئيس الوزراء شفيق الوزان على كل هذه المعلومات وأن أُطلع عليها الإخوان السوريين. أبلغت الرئيس الوزان كما أبلغت العقيد محمد غانم المسؤول العسكري السوري في لبنان، وتأكدت من وصول المعلومات (للجانب السوري). لم يصدّق الإخوان السوريون، وربما استقبلوا المعلومات بحذر كونها جاءت من المخابرات اللبنانية التي لم تكن معهم على علاقات ثقة كاملة. وربما رأوا أن المعلومات مدسوسة نتيجة فقدان الثقة.

حصل هذا قبل أسابيع من الاجتياح. صدرت في ذلك الوقت تصريحات لشخصيات لبنانية قريبة من سوريا تعدُّ هذه المعلومات محاولة تهويل وتخويف غرضها ممارسة ضغوط على المقاومة لدفعها إلى تسهيل انتشار الجيش اللبناني في الجنوب. والواقع أن الحل لتفادي الاجتياح كان انسحاب الفلسطينيين من الجنوب وانتشار الجيش فيه. حاولنا ذلك مرات عدة، لكن أبو عمار لم يكن في وارد التخلي عن جنوب لبنان. فقد رفضت منظمة التحرير البحث في الموضوع جملة وتفصيلاً.

عرفات على الخطوط الأمامية للقتال في بيروت (غيتي)

أُطلق النار على السفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف فبدأت الغارات الإسرائيلية على لبنان وتلاها الاجتياح في السادس من يونيو. ظن كثيرون أن العملية محدودة، لكن المعلومات التي كانت متوفرة لدينا تشير إلى غير ذلك. بعضهم استند إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين للقول إن العملية محدودة. والواقع أن المسؤولين الإسرائيليين لم يكونوا على اطلاع على المدى الذي ستتخذه العملية. فوزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون وحده كان يعرف السيناريو وإلى أين سيصل. قبل الاجتياح، قام شارون سراً بعمليات استكشاف في مناطق بجبال المتن قبالة بيروت. جاء بواسطة طائرات هليكوبتر، في حين جاء آخرون بحراً.

يعرب عبده عن أسفه لأن السلطة اللبنانية لم تتمكن من إقناع منظمة التحرير باتخاذ ما كان يمكن أن يساعد على تفادي الاجتياح. ويعرب أيضاً عن أسفه لأن الجانب السوري لم يأخذ على محمل الجد المعلومات التي أوصلها إليه الجانب اللبناني.

كانت دولة ياسر عرفات أقوى على أرض لبنان من الدولة اللبنانية

وزير الخارجية اللبناني الأسبق فؤاد بطرس

«دولة ياسر عرفات»... ورحلة العذاب الطويلة

رجل آخر كان يؤلمه أن لبنان لم ينجح في تفادي كارثة الاجتياح رغم الجهود التي بُذلت. إنه فؤاد بطرس، وزير الخارجية في تلك الحقبة. بعد إغلاق آلة التسجيل، قال: «أريدك كصحافي أن تعرف القصة بايجاز. كانت (دولة ياسر عرفات) أقوى على أرض لبنان من الدولة اللبنانية. وكانت أقوى في العالمين العربي والإسلامي. هذا فضلاً عن الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه. كنا نلمس من بعض وزراء الخارجية والسفراء تفهماً لحقّ لبنان في أن ينشر جيشه في الجنوب لتفادي هجمات إسرائيلية، لكن هذا التفهم لم يكن يظهر علناً ويُترجم في سياسات هذه الدول. كانت للقضية الفلسطينية قدسية تمنع حتى إثارة تجاوزات المنظمة الفلسطينية التي تعرّض لبنان للأخطار».

وأضاف: «كانت منظمة التحرير تعدُّ وجودها العسكري في جنوب لبنان ورقتها الأخيرة للتذكير بالوجود والمطالب والقضية. لم يكن عرفات مستعداً للتخلي عن هذه الورقة. ولم تكن الدول العربية راغبة في الضغط على المنظمة. وكان الإعلام في المنطقة غير متعاطف مع أي دعوة لبنانية لفرض سيادة الدولة اللبنانية وحدها على أراضيها. ويُضاف إلى هذا كله أن الانقسام اللبناني حول الوجود العسكري الفلسطيني كان عميقاً وعنيفاً وكانت حتى محاولة ضبطه توصم بالخيانة».

رجل آخر أصابته معلومات عبده بالقلق وحاول إقناع نفسه بعدم تصديقها. إنه رئيس الوزراء شفيق الوزان. قلب الأمر. لم يسبق في تاريخ النزاع أن احتلت إسرائيل عاصمة عربية. وهناك الرأي العام العربي والإسلامي. وهناك الاتحاد السوفياتي. وليس من المتوقع أبداً أن تؤيد أوروبا مغامرة مجنونة من هذا النوع. حاورته لاحقاً وشعرت بالحرج. بدا وكأنني دفعته إلى أن يحك جرحاً عميقاً لا يزال يؤلمه.

في 1981 وبعد تبادل القصف الشديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين في جنوب لبنان، وما رافقه من غارات، جاءنا المبعوث الأميركي فيليب حبيب وقال: «أحب أن أطمئنكم إلى أننا توصلنا إلى اتفاق لوقف اطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين». ظهر الغضب والاستياء في عيني الرئيس سركيس، رحمه الله. كان بالغ الحساسية تجاه أي اتفاق يمكن أن يضع قيوداً على لبنان وسيادته، وكان شديد التمسك باتفاق الهدنة. قال سركيس لحبيب: «نحن لا علاقة لنا بأي اتفاق من هذا النوع، لدينا اتفاق الهدنة فقط». فتح حبيب فمه مستغرباً قول سركيس. كان لا بد من العثور على مخرج، فقلت لحبيب: «الرئيس سركيس على حق في موقفه، لكنني أقول لك إننا أخذنا علماً». أي إننا أخذنا علماً بالاتفاق لكننا لسنا طرفاً فيه.

آرييل شارون مع قواته في جنوب لبنان خلال الاجتياح عام 1982 (غيتي)

أضاف الوزان: «بعد الاجتياح، استدعينا سفراء الدول الكبرى وظهرت مواقف إيجابية وسلبية تبيّن في نهايتها أنه ليس أمامنا غير الرهان على الولايات المتحدة للجم العدوان، أو دفع إسرائيل إلى الانسحاب، حتى ولو كانت متعاطفة مع الغزو أو أهدافه. كان الموقف السوفياتي مفاجأة كبيرة لنا. سارع السفير السوفياتي إلى إبلاغنا ومن دون الرجوع إلى حكومته: «نحن دولة ليست بذات تأثير على إسرائيل». تألمت. فقد كان الاتحاد السوفياتي صديقاً للعرب، وكنا نأمل موقفاً آخر. ذكّرت السفير بانذار بولغانين الشهير (نيكولاي بولغانين، رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي) إبان العدوان الثلاثي على مصر، فاكتفى بابتسامة وامتنع عن الرد. كان كلام السفير السوفياتي واضحاً، ومعناه أن عليكم البحث مع من يستطيع التأثير على إسرائيل، أي الولايات المتحدة. بدت قدرة الأوروبيين محدودة بدورها. كنا نتمنى لو كانت هناك قوة عربية قادرة على التدخل وقلب مسار الأحداث، لكن الواقع كان غير ذلك. وهكذا صرنا تحت نار العدوان الإسرائيلي، وأمامنا الوسيط الأميركي وبدأت رحلة العذاب الطويلة.

أغمض الوزان عينيه لبرهة واسترجع المحطة المؤلمة. «حوصرت بيروت وانهالت عليها الحمم براً وبحراً وجواً. صحيح أن إرادة البيروتيين واللبنانيين في الصمود كبيرة، لكن المعاناة تجاوزت كل حدود. قطع الإسرائيليون المياه عن العاصمة المحاصرة، ورحت أفكّر بمن أستجير في وجه هذه الوحشية التي لا مثيل لها. اتصلت بالملك فهد بن عبد العزيز وأبلغته أن بيروت تعيش بلا ماء ولا خبز ولا دواء. تألم كثيراً وأبلغني أنه سيعاود الاتصال بي. بعد خمس ساعات، أبلغني الملك فهد أنه تحدّث إلى الرئيس رونالد ريغان طالباً تدخله، وأن الرئيس الأميركي اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، الذي وعده بإعادة المياه. وفي تلك الظروف القاسية، اعتبرنا إعادة المياه إنجازاً. أحبّ أن أسجّل هنا أن السعودية لم تبخل على لبنان بأي مساعدة ممكنة».

حزب العمل الصامت

لم أتمكن من الحصول على شهادة الرئيس سركيس عن تلك الأيام. والأسباب عديدة. كان من حزب العمل الصامت، لا من حزب الكلام. وكان واثقاً، انطلاقاً من نزاهته وسلوكه المسؤول، أن التاريخ سينصفه إذا كُتب بأمانة. يضاف إلى ذلك أنه غادر القصر مريضاً فأضيفت أوجاع جسده إلى أوجاعه كرئيس بفعل الانقسامات والعواصف التي ضربت عهده، والتي توّجت بزلزال الاحتلال الإسرائيلي. رأى سركيس بيروت تحترق وتُحاصر وتُستباح. ورأى جنود الاحتلال يقتربون حتى من قصر الرئاسة. كان صوت الدولة وكانت الدولة ضعيفة. وكان صوت الوطن وكان الوطن منقسماً. ويقول أصدقاؤه إنه كان يُحصي الأيام في انتظار موعد المغادرة، رافضاً أي بحث في تمديد ولايته.

هل حاول الجانب الفلسطيني تفادي الاجتياح الإسرائيلي، ومن يتحمّل مسؤولية إفشال تلك المحاولة؟ عثرت على الجواب لدى هاني الحسن. كان عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح» ومسؤولاً عن الأمن السياسي في الحركة، إضافة إلى حضوره في الحلقة الضيقة للقرار حول الرئيس ياسر عرفات.

آليات إسرائيلية خلال تقدمها في اتجاه بيروت عام 1982 (غيتي)

يقول الحسن إن معلومات تجمعت في 1981 تفيد بأن إسرائيل تعدّ لعدوان واسع على لبنان بهدف ضرب الوجود العسكري للمقاومة، وأن وجود إدارة الرئيس رونالد ريغان يسهّل لإسرائيل عملية من هذا النوع. كان الوضع العربي شديد الصعوبة. مصر في شبه عزلة عربية، والعراق غارق في حربه مع إيران. توجهت قيادة المنظمة إلى السعودية وأطلعت المسؤولين فيها على ما تملكه من معلومات. كان التجاوب السعودي سريعاً وكاملاً، وهكذا تبلورت مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز. ويجزم الحسن «أن الهدف من المبادرة كان من أجل امتصاص الحرب المقبلة في لبنان ومنع حصولها. الواقع أن المبادرة تعثّرت لأن الاتحاد السوفياتي أصدر أوامره بعرقلتها... وكلنا يعلم ماذا جرى في القمة العربية في فاس».

روى الحسن ما عدَّه قصة سيطرة السوفيات على القرار الفلسطيني. كل من يريد أن يؤرخ للثورة الفلسطينية بين 1972 و1982 عليه دائماً أن يضع الموقف السوفياتي في الاعتبار، لأن الثورة الفلسطينية عاشت في تلك الفترة مرحلة اللاقرار، حيث كان يسود فقط في النهاية، رغم كل الخلافات وتعدد وجهات النظر، القرار السوفياتي الذي استحكم بالمقاومة الفلسطينية وجعلها تنقسم دائماً إلى موقفين.

تيار مع السوفيات يؤمن أن قدرنا هو معهم، ويبذل كل جهده لمناقشة السوفيات وتطوير موقفهم لكنه في النهاية يتبنى الموقف السوفياتي. كانت قوة السوفيات في مواجهة التيار الآخر تنبع من سيطرتهم على أجهزة الأمن في المنظمات الفلسطينية، وبخاصة جهاز الأمن الموحد التابع للأخ صلاح خلف (أبو إياد) ومعه اليساريون في «فتح»، مثل المناضل الكبير ماجد أبو شرار ومحمود عباس (أبو مازن) الذي لعب، رغم أنه ليس يسارياً في بنيته الداخلية، دوراً مهماً في تبني وجهة نظر السوفيات. لقد دفعه أبو إياد إلى أن يصبح رجل العلاقة مع السوفيات وملزماً قبول هذا الموقف، هذا إضافة إلى أبو صالح (نمر صالح)، وعضو اللجنة المركزية سميح عبد القادر محمد أبو كويك؛ المعروف بـ«قدري».

في المقابل كنا مجموعة أخرى على رأسها الأخ ياسر عرفات، الذي كان يمثّل الوسط. وأنا لا أقصد أنه لا يأتمر في النهاية بالأمر السوفياتي لأنه كان يساير ويمشي. وكان أيضاً أمير الشهداء خليل الوزير أبو جهاد وفارس الفرسان سعد صايل وأبو السعيد. وكنت أنا ممثلاً للتيار الفلسطيني المستقل، الذي يبحث عن مصالحه سواء كانت عند السوفيات أم عند غيرهم. ومن دون فهم هذه العلاقة مع السوفيات لا يمكن فهم ما دار وراء الكواليس.

تابع هاني الحسن روايته. في 1982 جاءتنا معلومات من مصادر لبنانية صديقة. والحقيقة هي أن الرئيس أمين الجميل، وكان نائباً يومها، لعب دوراً مهماً في تنبيهنا أن الإسرائيليين آتون إلى بيروت. وكان كلامه شبه موثّق، وقد لعب بعض الإخوة دوراً مهماً في هذا الموضوع. إضافة إلى ذلك كان لدينا مصدر إسرائيلي مهم يديره الأخ أبو جهاد وكان في غاية الأهمية بالنسبة لنا. زودنا هذا المصدر بتفاصيل عن الهجوم المقبل الذي كان يفترض أن يحصل في أبريل (نيسان). إنه مصدر أمني وشبه عسكري ومعلوماته من الدرجة الأولى. ورغم شكوكنا التي استمرت فترة في معلومات المصدر، فإن مجريات الحصار أكدت أنه كان صادقاً معنا إلى أقصى الحدود. ناقشنا المعلومات مع القيادات اللبنانية والإخوة في دمشق ومع الدول العربية. والحقيقة أنه بعد تعثّر مبادرة فاس لأسباب فلسطينية لم يعد هناك مجال لقطع الطريق على العدوان الإسرائيلي.

مظلي فرنسي (بالنظارات) خلال مرافقته موكباً يضم ياسر عرفات خلال انسحابه من بيروت (غيتي)

لم تحدث الحرب في أبريل بسبب أمطار غير عادية هطلت، فتأجل الاجتياح إلى يونيو. عندما وقعت الحرب كان هناك انقسام في الرأي. بعضهم اعتقد أن الهجوم الإسرائيلي سيبقى في حدود 45 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية ثم تتراجع القوات الإسرائيلية. وهذا الرأي كان قوياً في أوساط الحركة الوطنية اللبنانية وموقفها كان مهماً جداً بالنسبة إلينا. كان لدينا في «فتح» قرار دائم باستمرار التعامل والتفاهم، أي أن نختلف ولا نفترق. لم يعتقد الإخوة السوريون أيضاً أن الهجوم سيصل إلى بيروت والبقاع. أقول هذا في ضوء اللقاءات التي عقدها مع الإخوة السوريين العميد سعد صايل وقياديون آخرون.

منذ 1972 وحتى 1982 كان لعرفات أسلوب للعمل يقوم على أن له مجموعته التي تناقش معه القضايا وتنفذها. بعد المناقشة، نذهب إلى اللجنة المركزية أو المجلس الثوري فنعدل القرار أو نزيد عليه. كانت مجموعة أبو عمار الأساسية في 1982 التي تطلع على آرائه ومواقفه وتوجهاته تضم إليه أبو جهاد وسعد صايل وأنا، وكان من خارج اللجنة المركزية المسؤول عن الاستخبارات العسكرية أبو الزعيم، وكان عضواً مهماً في عملية تقويم المواقف.

حصل الحصار وأبلغني أبو عمار أن علينا أن نقاتل ستة أشهر. كان ذلك في اجتماع مجموعة العمل فقط، لأن أبو عمار وأبو إياد كانا لا يلتقيان تقريباً طول فترة الحرب. ولهذا الجو خلفية تاريخية. كان أبو إياد يريد أن يمحو سبتمبر (أيلول) 1970 في الأردن بتشنج ظاهر في المواقف. وهنا نعود إلى السوفيات. المهم أننا اتخذنا قراراً سرياً بالقتال ستة أشهر، وطلب مني أبو عمار القيام بالعمل السياسي. أي أنه طلب مني أن نحرّك العمل السياسي، ولكن من دون الرجوع باتفاق. بمعنى أن نفاوض كي نفاوض، ثم نرى موازين القتال والوضع الدولي وموازين التدخل السوري.

غداً الحلقة الثالثة


مقالات ذات صلة

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: «حماس» تدرس مقترحاً بالتحول إلى حزب سياسي

خاص فلسطيني في مدينة غزة يوم الثلاثاء يدفع عربة وسط مياه الأمطار التي أغرقت خيام النازحين (أ.ف.ب) play-circle 01:47

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: «حماس» تدرس مقترحاً بالتحول إلى حزب سياسي

كشفت مصادر من حركة «حماس» عن أن قيادات داخل وخارج قطاع غزة، طرحت نقاشاً داخلياً بشأن مستقبلها السياسي في ظل الواقع الجديد الذي فرضته الحرب.

«الشرق الأوسط» (غزة)
تحليل إخباري نازحان يحملان حطباً لاستخدامه وقوداً للطهي شرقي مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة يوم الاثنين (أ.ف.ب)

تحليل إخباري الانقسامات الداخلية... كيف تؤثر على مسار اتفاق غزة وحلم الدولة الفلسطينية؟

تهدد الانقسامات الداخلية، في كل من الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية، مسار التهدئة وحل الدولتين الذي يجب أن ينطلق من قطاع غزة.

كفاح زبون (رام الله) نظير مجلي (تل أبيب)
خاص رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى متحدثاً لـ«الشرق الأوسط» (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 01:00

خاص رئيس الوزراء الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: وقف النار في غزة لا يكفي

اعتبر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى أن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، و«إعلان نيويورك» حول حل الدولتين، الذي قادته السعودية وفرنسا، يمثّلان خطّين متوازيين.

غازي الحارثي (الرياض)
المشرق العربي دمار في غزة (د.ب.أ)

الفصائل الفلسطينية تتفق على تسليم إدارة غزة إلى لجنة محلية من مستقلين

اتفقت الفصائل الفلسطينية المجتمعة في القاهرة، الجمعة، على تسليم إدارة غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من أبناء القطاع تتشكل من مستقلين «تكنوقراط».

خاص وزير الخارجية الصيني وانغ يي يتوسط موسى أبو مرزوق (يمين) القيادي في «حماس» ومحمود العالول القيادي في «فتح» في إحدى جولات المصالحة يوليو 2024 (رويترز) play-circle

خاص القاهرة تستضيف «حواراً وطنياً فلسطينياً شاملاً» قريباً... ماذا نعرف عنه؟

تستضيف العاصمة المصرية القاهرة، خلال الأيام القليلة المقبلة، حواراً فلسطينياً شاملاً، سيبحث بشكل أساسي القضايا المصيرية المتعلقة بخطة الرئيس الأميركي حول غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.