محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟
TT

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش... لِمَ لم تُطِل وقتَ زينتك؟

محمود درويش ظاهرة شعرية فريدة لا يمكن تفسير مسالكها وسُبُلها ببساطة. ومحمود درويش هو أبهى ما أعطت فلسطين من شعراء، وهو، فوق ذلك، شوط خاص في سلسلة طويلة من الشعراء الألمعيين من عيار عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وإبراهيم طوقان وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد وراشد حسين وتوفيق زيّاد وحنا أبو حنا ومعين بسيسو وعز الدين المناصرة وغيرهم. واللافت أن الفلسطينيين لم يُجمعوا، طوال تاريخهم المعاصر، على أي أمر أو شأن أو فكرة أو زعيم مثلما أجمعوا على محمود درويش؛ فقد شغفوا به وافتنّوا بشعره فتوّجوه ملكاً على ذائقتهم ووضعوا في كفيه «أحد عشر كوكباً». وهكذا تحوّل محمود درويش قديساً للفلسطينيين، فقدّم لهم الأمل، وأنبأهم أن في إمكانهم أن ينتصروا على المنفى، وأن هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض. فأعاد ترميم جروحهم، وقال لهم إنكم لستم «عابرين في كلام عابر».

محمود درويش شاعر فلسطيني بالمعنى الجغرافي، أي بهوية المكان والولادة. لكنه شاعر القلق، والحائر والباحث عن يقين بالمعنى الوجودي. شعره يخاطب الكوني لا اليومي، ولا سيما حين غادر مرحلة البدايات العاصفة، وذهب إلى الوجود، ومعنى الوجود والموت والاغتراب. وفي هذا الترحل تمكَّن محمود درويش من تحويل قضية فلسطين من قضية سياسية مباشرة إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى، وحوّل أغاني اللجوء ومواويل المنفى إلى ملحمة مدهشة للعودة المؤجلة. وفي هذه المكابدة صار شعره تحدياً إبداعياً لجميع الشعراء الذين عاصروه أو الذين جاءوا بعده.

ما سِرّه إذن؟

سِرّه أنه صنع في هذا الخلاء العربي أملاً، وزرع في هذا السديم منارة، وأبدع في هذا العماء وعوداً خلابة، فصارت قصائده شراعنا ومنائرنا وتاريخنا المكلوم وحاضرنا الراعب. ومع ذلك لم يكتشف كثير من الفلسطينيين أن نبياً للتيه كان بينهم ولم يعرفوه.

الشعر الصافي وتجارب الزمنقصائده مُشبعة بجماليات الإيقاع، وما انفك في جميع مراحله باحثاً عن أفق جديد لقصيدته، فلم يكن ليطمئن قط إلى أي إنجاز شعري له، لذلك كان كل ديوان جديد يمثل ذروة جديدة في مسيرته الشعرية المتواصلة. وفي غمار تلك المسيرة كانت متناقضاته الشعرية تحمل التوتر إليه في سعيه إلى الاكتشاف، وظهر ذلك في نزوعه الميتافيزيقي إلى التأمل خصوصاً بعد اختبار الموت. وكم حيّرته رحلة المتصوف الكامنة فيه مع اندفاعه الأيروسي، فأضرمت حرائقه الابداعية، واضطرم هو نفسه في ثنائيات متعاكسة كالحب والموت، الوطن والمنفى، الألم والابتسام، الجمال والكآبة، التيه والأمل، المدائن والمنافي، الحيرة واليقين، الحياة واللانهاية. تلك هي العناصر التي أشعلت في شعره عالماً من الألحان الكونية، وباتت قصائده مثل ضوع البخور الهندي في معبد منعزل عند أقاصي الأرض، أو مثل شميم المسك الجاوي في احتفال وثني في العراء.

تجربته الشعرية تمتد على أربع مراحل إذا نظرنا إليها في مسارها الزمني: ما قبل الخروج من فلسطين في سنة 1970، وفيها كتب: «عصافير بلا أجنحة»، «أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «يوميات جرح فلسطيني»، «حبيبتي تنهض من نومها»، «العصافير تموت في الجليل»، «كتابة على ضوء بندقية». ثم ما قبل الخروج من بيروت في سنة 1982 وفيها كتب: «أحبك أو لا أحبك»، «محاولة رقم 7»، «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، «أحمد الزعتر»، «دورة الحزن واكتمال الجرح»، «أعراس»، «حصار لمدائن البحر»، «الكتاب الشجر الليل»، «مأساة النرجس ملهاة الفضة». ثم ما قبل الخروج من الموت في سنة 1998 وفيها كتب: «مديح الظل العالي»، «ورد أقل»، «أرى ما أريد»، «أحد عشر كوكباً»، «لماذا تركت الحصان وحيداً»، «هي أغنية هي أغنية». وآخر المراحل هي مرحلة ما قبل الخروج من الحياة في سنة 2008 وفيها أبدع أبهى دواوينه وهي: «سرير الغريبة»، «جدارية محمود درويش»، «حالة حصار»، «لا تعتذر عما فعلت»، «كزهر اللوز أو أبعد»، «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي».السياسي اللامع

كان محمود درويش ذا حدس سياسي ثاقب، وكانت له رؤية سياسية بارعة، وإن لم يُعرف عنه هذا الضرب من التفكير، على الرغم من أنه شارك في صوغ خطبة ياسر عرفات في الأمم المتحدة في سنة 1974، وعبارة «لا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي» مسجلة ليراعه وحده. وهو الذي كتب إعلان الاستقلال الفلسطيني في سنة 1988، وخطبة ياسر عرفات التي ألقاها في حفل تسلمه جائزة نوبل للسلام في عام 1994، وخطبة عرفات أمام اليونيسكو في سنة 1996. وفي عام 1988، أي في معمعان الانتفاضة الأولى، نشر مقالة في جريدة «لوموند» عنوانها «سؤال إلى الضمير اليهودي»، جاء فيها: «لقد آن الأوان لنعلن من دون أن نخشى الاتهام أو الابتزاز أن شرف يهود العالم كلهم ملطخ بوحل الاحتلال الإسرائيلي، وبدم ضحاياه الفلسطينيين ما لم يعلنوا القطيعة مع هذا الاحتلال»، فقامت عليه قوائم المنظمات الصهيونية وحوافرها، ورُفعت ضده دعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية بتهمة إثارة الكراهية ضد اليهود. لكن محكمة الاستئناف في باريس أصدرت في 17/3/1990 حكماً بالبراءة.

مَن عرف محمود درويش من قرب أدرك أنه كان سياسياً خارق الذكاء. ففي إحدى المرات كان محمود في بيروت، واتصل بي المستشار الثقافي الإيراني وأبدى رغبته في مقابلة لأمر ثقافي مهم. ونقلتُ هذه الرغبة إليه فأبدى استعداده لاستقباله، وجرى اللقاء في فندف «كافالييه» حيث ينزل محمود درويش، وكنتُ إلى جانبه في ذلك اللقاء. وكانت الغاية دعوة محمود درويش إلى زيارة إيران. ورحب محمود بالدعوة بعد أن قدم مطالعة مدهشة في الآداب الفارسية وأثرها في الأدب العربي، وأبدى استعداده لتلبيتها، لكنه قال إنه مضطر إلى مغادرة بيروت غداً إلى عمان، وهو غير قادر الآن على تحديد الموعد الملائم للزيارة. فقال له المستشار الثقافي الإيراني: هل ثمة مانع في أن يتابع موضوع الزيارة المستشار الثقافي الإيراني في عمان، فأجابه محمود: لا مانع إطلاقاً. وهكذا اتفقا على ذلك الترتيب. وبعد خروج المستشار ومَن معه رحتُ أحبّب الزيارة لمحمود درويش، خصوصاً أنني زرت إيران مرات عدة، وأخبرته أن دواوينه مترجمة إلى الفارسية، وأن عرب إيران يعشقون شعره. فإذا بمحمود ينظر إليّ بدهشة ويقول لي: وهل تعتقد أنني سأزور إيران حقاً؟ ودُهشت بدوري وقلت له: لكنك وعدته بتلبية الزيارة؟ فقال لي باسماً: يا صقر، عليك التفكير بطريقة سياسية محسوبة. إيران تهاجم ياسر عرفات في هذه الأيام ولا تتوقف عن مهاجمته، وهم سيستغلون زيارتي للنكاية بياسر عرفات، فهل أفعل؟ لا يمكنني أن ألعب مثل هذه الألاعيب. بالطبع أود زيارة إيران لكن ليس في هذه الأحوال. وهنا جحظت عيناي وقلت له: ولكن ماذا ستفعل حين سيتصل بك المستشار في عمان؟ فأجابني: سمعنا منهم كلاماً جميلاً وأجبناهم بكلام جميل، وهذا يكفي. وأنا سأغادر حقاً إلى عمان ثم منها إلى رام الله ثم إلى تونس فباريس... ليلحقوني إذن!. هكذا هو محمود درويش السياسي الحصيف، أما قصائده فكانت، تدعونا دوماً إلى الاحتفال بانتصار الشعر على السياسة، أي إلى إزاحة القبح من درب الجمال، وإلى زحزحة الواقع ولو قليلاً أمام الحلم.

معايشة الموت

قبل خمس عشرة سنة طوى محمود درويش آخر أوراقه، وأدار لنا ظهره، ومضى إلى حيث «رأى ما لا يريد». لم يتحرر من منفاه البتة، ولم يشعر أنه في وطنه حتى حين عاد إلى رام الله. في البدايات كان «مقيماً» في وطنه من دون «مواطنة»، أي بلا جواز سفر. وحين أمسى خارج بلاده ظل يحمل وطنه في منفاه. وبعد عودته صار يحمل المنفى في وطنه. قبل الموت كان خائفاً وَجِلاً من أن تُثقب شرايينه في أي لحظة. ومع ذلك عاش مثل قصبة ثقبتها الريح فصار ناياً شجيّاً.

كان شجاعاً لكن بقلب راعش. غير أنه زهق من معايشة الموت والنوم معه في سرير واحد فصرخ: وداعاً لشعر الألم، ثم رمى زهر النرد من يده ومضى إلى إغفاءته الأخيرة بعيداً عن خبز أمه. ولو كان بيننا الآن لاحتفلنا بميلاده الثاني والثمانين، لكنه مضى كقصيدة أخيرة من دون أن ينظر خلفه، لأنه لو التفت قليلاً إلى الوراء ما كان ليرى غير مناديل تلوّح له بلوعة، وحناجر تصيح به: لمَ لم تُطِل وقتَ زينتك أيها الشاعر البهي؟

* كاتب لبناني


مقالات ذات صلة

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق اجتماع اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية استعرض الإنجازات (وزارة الخارجية السعودية)

اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن «العُلا» تناقش توسيع التعاون

ناقشت اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير العُلا سبل توسيع التعاون المشترك بين الجانبين في مختلف القطاعات، خصوصاً في مجالات الآثار والرياضة والفنون.

«الشرق الأوسط» (باريس)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».