بعد نصف قرن على توقفها... العدد الأخير من مجلة «شعر» يبصر النور

إصدار تذكاري تحية لبيروت وكوكبة من الشعراء المؤسسين

بعد نصف قرن على توقفها... العدد الأخير من مجلة «شعر» يبصر النور
TT

بعد نصف قرن على توقفها... العدد الأخير من مجلة «شعر» يبصر النور

بعد نصف قرن على توقفها... العدد الأخير من مجلة «شعر» يبصر النور

بعد مرور أكثر من خمسين سنة على صدور العدد الأخير من مجلة «شعر» في خريف عام 1969 وكان يحمل الرقم 44، قرر الناشر سليمان بختي إعادة إصداره لإلقاء الضوء على حكاية توقف مجلة لعبت دوراً استثنائياً في مسار الشعر العربي الحديث، من خلال سيرة روادها وتمردهم وتفردهم. هذا العدد التذكاري الذي تصدره «دار نلسن» يسمح لمن لم يطلع عليه أن يكوّن فكرة، عما كانت عليه «شعر»، ومستوى النصوص الإبداعية والنقدية التي كانت تنشرها.

في مستهل العدد يكتب بختي مقدمة يشرح فيها كيف أن النداءات الكثيرة، لإعادة إصدار «شعر»، لم تفلح في إرجاعها إلى الحياة، ولو باسم جديد هو «دفاتر شعر» بين عامي 1982-1983. هل تعب الشعراء؟ على الأرجح، هكذا. لكن المغامرة الشعرية نفسها بقيت مستمرة، في الحياة، وخارج إطار المجلة، حين ذهب كل من المؤسسين يشق طريقه في عالم الإبداع.

يروي يوسف الخال مبررات توقف المجلة وظروفها على الشكل التالي في إجابته على سؤال في حوار صحافي: «حدثت هزيمة 5 حزيران 1967، وكان العدد الثاني ماثلاً للطبع. ومع الهزيمة تغير الجو تماماً، وانقلب المناخ وصار القارئ العربي لا يهتم بالشعر ولا بأي أدب إبداعي... وباختصار برزت اهتمامات خارجة عن الأدب والشعر والفن تماماً. والمجلة تعنى بالأدب الإبداعي دون أن تهتم بواقع العالم العربي الذي يفتش عن شيء يقدر أن يمسك به. صارعت المجلة التيار ثلاث سنوات وتوقفت».

يعد الناشر بختي أن هذا الإصدار التذكاري «بمثابة تحية إلى مجلة (شعر) ومؤسسها، وتحية إلى كل شعراء مجلة (شعر) على الجهد التأسيـسي لـمشروع تغييري تجديدي يستهدف الكلمة والإنسان والمجتمع والموقف من العالم». ويضيف: وهو «تحية إلى بيروت مدينة البدايات التي تخطر بجزيل الرونق والتلاوين رغم كل شيء، بيروت التي أطلقت مجلة ذات مرحلة لعلها الأهم والأخطر والأجمل أثراً في حركتنا الشعرية في لبنان والعالم العربي. مجلة غيرت وجه الشعر العربي الحديث ورفعته نحو الآفاق الجديدة. كانوا كوكبة أو (حزمة من الشعراء) تلاقوا ومشوا في وعورة الطريق وزاد الشغف وكانت بيروت تلفهم بالرواء والجناحين والظل الوارف».

وكتب شوقي أبي شقرا توطئة للعدد التذكاري، قال فيها واصفاً تلك المرحلة وما كانته «شعر» بالنسبة لشعرائها وكان أبي شقرا أحد أركانها: «كانت الحماسة لها، وكانت لناحية النهوض، حبّة الشجاعة وحبّة الفأل السعيد، حبّة النهوض إلى الأمام، إلى حيث النار ونحن أشعلناها. وما كانت من أجل هدف آخر، من أجل العادة، لا الإبداع ولا النظرة المحكمة والحكيمة، ومن أجل الحقيقة في لبنان».

ومع العدد الأخير كان المدير المسؤول للمجلة هو يوسف الخال، وفي هيئة التحرير أسماء: فؤاد رفقة، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ، رياض نجيب الريس. أما محتويات العدد والمشاركين، فقد كتب المقدمة يومها يوسف الخال، ونشرت قصائد لأنسي الحاج، وأخرى لمحمد عفيفي مطر، ومحمد زفزاف، وأحمد مرسي، وباسيل عكولة، وهناك باب: «كتب ظهرت حديثاً»، وباب «قضايا وأخبار في ثلاثة أشهر»، وفصل من رواية «البومة العمياء» لصادق هدايت.

نقرأ أيضاً في العدد لنور سلمان (مع المعلم سلفادور دالي في باريس)، وإدريس الخوري (الطليعة في المغرب تبحث عن ميكروفون)، وهانز بندر (حول الشعر السياسي المعاصر في ألمانيا)، وبرتولد برشت (مشهد دائرة التباشير القوقازية).

لماذا العدد الأخير عدد تذكاري؟ وما الهدف من ذلك؟ يجيب الناشر: «يحدونا الأمل أن نكمل ما فعله الأسلاف من هنا، من هذه المدينة إلى دنيا العرب والعالم. ونرى كيف سيستمر أثر المجلة في وعي الشعراء وفي تجاربهم المعاصرة». كتب مرة يوسف الخال: «وإذا لم تعد بيروت على أيامنا، فالمشعل سيحمله أبناء (شعر) وأجيال (شعر) التي لا تنتهي».

ويتذكر أبي شقرا تلك التجربة بالقول: «الحقيقة تبدأ من القصيدة ومن أجل الذهاب أكثر نحو جنينة الإبداع، ونحو النص الذي نريده أن يكبر وأن يتسع وأن يفيض، بل وعلى أهبة السكون وأهبة الابتكار. الذي يدفع وينبع من الذهن ومن بئر الموهبة، ولا تنام هي ولا تصغي إلى منقار البومة، إلى نشيدها المتوالي بين الأشجار وبين الورق الذي يجلب النص».

ليس أمام الأصيل نقاط وفواصل وقيود، وليس أمام المبدع الحقيقي مراحل زمنية تقع عليه كالأسر. صحيح أن مجلة «شعر» بكلام أنسي الحاج: «باقية إلى الأبد حداً فاصلاً في تاريخ الشعر». ولكن الصحيح أيضاً «أن على كل جيل أن يصنع مجلته ومغامرته وثورته وأحلامه. إنها إذن دعوة إلى عدد جديد ووعد جديد وبداية جديدة»، بحسب الناشر سليمان بختي.


مقالات ذات صلة

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

ثقافة وفنون جورج أورويل

غضب وطني في بريطانيا بعد بيع أرشيف جورج أورويل بالقطعة

بـ10 آلاف جنيه إسترليني يمكن شراء رسالة كتبها بخط اليد، مؤلف رواية «1984» إريك بلير (1903 – 1950)، الشهير بالاسم الأدبي جورج أورويل.

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون «مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

«مريم ونيرمين».. الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت رواية «مريم ونيرمين» للكاتب عمرو العادلي، التي تعزف في قضيتها الكبرى على وتر الحب الذي لا يكتمل في حياة النساء عبر لغة بسيطة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

«توسيع دائرة الشكوكيين» لخالد الغنامي

صدر للباحث خالد الغنامي كتاب جديد بعنوان «توسيع دائرة الشكوكيين»، وحسب المؤلف، فإن الداعي لهذه الدراسة في أول الأمر قبل توسع البحث هو خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية

ندى حطيط
كتب جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

جديد «الفيصل»: السعودية تحتفي بعام الإبل.. في الثقافات

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة. وكرست المجلة ملف العدد لتقصي صورة الإبل في الثقافات، يأتي ذلك بمناسبة احتفاء السعودية بعام الإبل 2024.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية
TT

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

وجوه حول هتلر: محاولة مغايرة لفهم التجربة النازية

ثمة بحر من الكتب المرجعيّة عن تاريخ النّازية والنّازيين ودورهم في الحرب العالمية الثانية، كما دراسات كثيرة عن أدولف هتلر، وسير ذاتية لمعظم قادة ألمانيا النازية الكبار. على أن المؤرخ البريطاني والبروفيسور ريتشارد جيه إيفانز مؤلف الثلاثية الشهيرة «تاريخ الرايخ الثالث – 2003» اختار في كتابه الأحدث «شعب هتلر: وجوه من الرايخ الثالث – 2024*» صيغة مغايرة لمنهجه الأثير في تجنّب شخصنة التاريخ، وذلك المزاج المعتاد لدى مؤرخين آخرين في إلقاء اللوم في مجمل التجربة النازية على عاتق الفوهرر وبعض رجاله المقربين مع إعفاء غالب الألمان من المسؤولية؛ إذ استفاد إيفانز من توافر مواد توثيقيّة جديدة ليعيد قراءة المرحلة برمتها عبر استكشاف الأدوار الفرديّة لأربع وعشرين شخصية من مستويات قيادية وتنفيذية مختلفة دون إغفال النظر في أي لحظة عن الإطار الكليّ الأكبر.

ينقسم «شعب هتلر» إلى أربعة أجزاء تغطي سيرة 24 شخصاً من مختلف مستويات تراتب القيادة في المجتمع الألماني اختيروا لوضعهم بكل خصوصياتهم وخصائصهم وتوفر المواد عنهم في السياق الأعم للتاريخ الألماني خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. أول تلك الأجزاء قسم طويل في مائة صفحة عن هتلر نفسه، وثانيها عن عدد من أفراد دائرته المباشرة هاينريش هيملر – قائد القوات الخاصة الألمانية والرجل الثاني في النظام -، وهيرمان غورينغ – رئيس الغستابو (جهاز الاستخبارات) -، ورودلف هس – نائب الفوهرر وممثله الشخصي -، ويوهانس إرفين رومل – قائد الجيوش الألمانية والإيطالية في شمال أفريقيا -، وبول جوزيف غوبلز - وزير الدّعاية النازية -، لكن الإضافة النوعية للكتاب تبدأ في ثالث أجزائه مع سير مجموعة من الممكنين الذي قادوا التنفيذ، وكذلك آخرها الرابع، عن المستوى الأدنى من (الأدوات) الذين خدموا النّظام ونفّذوا أوامره.

هتلر

وللحقيقة، فإن سيرة هتلر كما قطّرها إيفانز في الكتاب تبدو الأقل إثارة للدهشة مقارنة بالشخصيات الأخرى، فالقائد الألمانيّ وإن كان شخصاً آيديولوجياً صرفاً، إلا أنّه كان انتهازياً أيضاً ويعرف كيف يخفف من غلوائه عندما لا يكون أمام الجمهور؛ ولذلك كانت خطاباته شكلاً من أشكال الأداء المسرحيّ المدروس، لكن بقية الشخصيات في الكتاب فقد كانت من النّوع الشديد الإيمان بالقائد لدرجة الإصابة بالإغماء عند الاستماع لخطاباته المدويّة.

يجزم إيفانز بأن هتلر على تفرده لم يكن عبقري سياسة أو حرب، لكنّه كان يمثل تقاطعاً عجيباً في الزّمان والمكان بين تبلور ظاهرة الخطابات العامّة أمام الحشود، وذلك الإحساس الوطني العام بالإذلال بسبب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ومعاهدة فرساي (1919) - التي أقرَّت فيها ألمانيا بذنبها في اندلاع الحرب، ومسؤوليتها الوحيدة عن الخسائر والأضرار التي نجمت عنها، إضافة إلى قبولها التخلي عن أراضٍ واسعة يسكنها ناطقون بالألمانية – وما تبع ذلك من دمار اقتصادي وكساد مديد. لقد نجح هتلر بديماغوجيته في أن يصبح للألمان تجسيداً لآمالهم بترميم النظام الاجتماعي المتهتك واستعادة الكرامة الوطنيّة المهدورة، وذلك بعد التجربة الفاشلة لجمهورية فايمار التي قامت على أنقاض الإمبراطورية المهزومة.

وبحسب إيفانز، فإن الوجوه التي اجتمعت حول هتلر لم تكن جميعها بالسمات ذاتها، فبينما كان يوليوس شترايشر – رئيس تحرير جريدة الحزب – معادياً لليهود بشدة، كان هيلمر مثلاً أقل اهتماماً بتأثير سلبيّ مزعوم لليهود على المجتمع الألماني، لكنه حقد بالمقابل على المثليين الشواذ، واستمر في الضغط على هتلر لتوسيع دائرة الفئات المستهدفة في مشروع (الحل النهائي) لتشمل إلى اليهود، الشواذ المثليين والشيوعيين والغجر والمرضى. على أنّ القاسم المشترك بين كل هذه الوجوه كان بالدّرجة الأولى تلك الصدمة الجمعية للشعب الألماني بعد الهزيمة التامّة المذلة في الحرب العالميّة الأولى وما أعقبها من حراك اجتماعي هابط، فكان أن قدّم لها الفوهرر نظريّة مؤامرة عن أسطورة «الطعنة في الظهر» من قِبل اليهود واليسار لتفسير الانكسار ومخرجاً للدونية، بدلاً من تقبل الحقيقة الموضوعية بثانوية ألمانيا أمام الهيمنة الصاعدة للتحالف الأنجلوساكسوني على جانبي الأطلسي.

لكن إيفانز يؤكد أن هتلر لم يكن ليصل إلى أي مكان لولا دعم النخب اليمينية المحافظة التي دعته إلى تولي السلطة مستشاراً للرايخ في عام 1933. لم يكن وقتها لدى الأرستقراطيين والبرجوازيين وكبار قادة الجيش الألمان قناعة خاصة بالأفكار والتكتيكات النازية العنيفة، لكنهم تلاقوا على كراهية ديمقراطية فايمار الفاسدة، وأرادوا إطاحتها، ومن بينهم لمعت لاحقاً الشخصيات القيادية في النظام النازي. سير الشخصيات المختارة للكتاب من هؤلاء تشير بمجموعها إلى مجموعة من أنماط السلوك التي ارتبطت بالتجربة المشتركة لها، ومنها تلك القدرة على التوحش التي أنتجتها السلطة المطلقة على البشر الآخرين المختلفين والمحتقرين آيديولوجياً، وكذلك الحماسة الظاهرة للسحر والتنجيم والباطنيات. لكن كان هناك أيضاً «صيادو الفرص»، أي أولئك الأشخاص الطموحين المفتقرين إلى الأخلاق ممن رأوا في المشروع النازيّ منصة للصعود والتقدم والظهور على نحو لم يكن متاحاً لهم في ظل النظام السابق. أما فيما يتعلّق بـ«الأدوات» - وفق تسمية إيفانز دائماً – فباستثناء شخصية واحدة من الطبقة العاملة في كل الكتاب – ابن أحد الخبازين –، فإن كتلة اللحم الأساسية للنظام النازي جاءت كما يبدو وبأغلبية ساحقة من خلفية الطبقة الوسطى المسكونة بأحلام التّرقي الاجتماعي، ولو على حساب الآخرين الأقل حظاً.

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف

يأتي كتاب إيفانز في توقيت مثاليّ ربّما؛ إذ يغرق الغرب في لجّة من صعود يمين متشدد يقف على أقصى نهاية طرف الطيف السياسيّ ويستمد مادته من ديماغوجيّة العداء للآخر المختلف، وهذه المرّة للمهاجرين الأجانب، لا سيمّا المسلمين منهم. ولا شكّ أن إعادة تفكيك التجربة النازية – وشقيقتها الفاشيّة في جنوب القارة – سيضيء على دروس قد تساعد البشرية على تجنب كارثة كونية أخرى قد تكون نتائجها أكثر فداحة من الحرب العالمية الأخيرة، كما أن مغامرة المحافظين اليمينيين بتصعيد النازيين الجدد اليوم قد تمنح المؤرخ عدسة أخرى ليقرأ بها تاريخ النازية متسلحاً بفهم أعمق للحراك الاجتماعي المعاصر.

شعب هتلر: وجوه الرايخ الثالث

Hitler's People: The Faces of the Third Reich

المؤلف: ريتشارد إيفانز

الناشر:

Allen Lane – 2024