تفجيرات واغتيالات في الجزائر لكن «الحرب الأهلية ما زالت بعيدة»

السفير البريطاني: الإرهابيون لن ينجحوا في تحويل الجزائر إلى بلد لا يمكن حكمه (3 من 3)

قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
TT

تفجيرات واغتيالات في الجزائر لكن «الحرب الأهلية ما زالت بعيدة»

قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)
قوات أمن جزائرية في حي باب الوادي الذي كان يُعد معقلاً لـ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في العاصمة الجزائرية في 17 يناير عام 1992 (أ.ف.ب / غيتي)

فيما كانت بريطانيا تناقش كيفية تعاملها مع الإسلاميين المتشددين واستقبالهم، وتحلل «اعترافات» المتورطين في تفجيرات إرهابية لتحديد ما إذا كانت قد انتُزعت منهم تحت التعذيب أم لا، لم يكن هناك من شك أن الجزائر كانت تشهد، منذ بداية تسعينات القرن الماضي، حقبة دموية امتدت لسنوات وباتت تُعرف لاحقاً بـ«العشرية السوداء».

فقد كانت تتوالى يومياً أخبار التفجيرات والاغتيالات التي تقوم بها جماعات مسلحة ضد قوات الأمن على وجه الخصوص، ولكن أيضاً ضد المثقفين والإعلاميين والنقابيين الذين يُنظر إليهم على أنهم يساندون الحكم الجزائري. كان مناصرو «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الحزب الإسلامي الذي كان على وشك الفوز بالسلطة قبل إلغاء الانتخابات في يناير (كانون الثاني) 1992، يقفون وراء كثير من عمليات العنف تلك، كما حصل في تفجير مطار هواري بومدين بالعاصمة الجزائرية في أغسطس (آب) من ذلك العام.

لكن كانت هناك أيضاً جماعات مسلحة أخرى تتخذ مواقف أكثر تشدداً بكثير من «جبهة الإنقاذ» وتقوم ببعض أبشع عمليات العنف التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة، برز منها آنذاك «الجماعة الإسلامية المسلحة» (الجيا) التي نجحت لاحقاً (عام 1994) في توحيد جزء من «الإنقاذ» وجماعات أخرى تحت رايتها في إطار ما عُرف آنذاك بـ«لقاء الوحدة». بدت الجزائر في ظل الاغتيالات والتفجيرات شبه اليومية كأنها ذاهبة إلى «حرب أهلية». ظهر انطباع أيضاً بأن الإسلاميين المتشددين يمكن أن ينجحوا في الاستيلاء على السلطة وإطاحة الحكومة المدعومة من الجيش والتي تولّت الحكم عقب تنحي الرئيس آنذاك الشاذلي بن جديد.

كانت تلك إلى حد كبير الصورة التي بدت بها الجزائر آنذاك، على الأقل في كثير من وسائل الإعلام الدولية. لكنها كانت صورة خاطئة، كما أكد السفير البريطاني لدى الجزائر كريستوفر باتيسكوم. أقر السفير، في مراسلات مع وزارة الخارجية بلندن (محفوظة في الأرشيف الوطني البريطاني)، بأن الجزائر تشهد بالفعل أحداث عنف دامية، لكنه تحدث أيضاً عن «الحياة العادية» التي تعيشها العاصمة الجزائرية، مضيفاً أن «الحرب الأهلية» التي يجري الحديث عنها «ما زلنا بالتأكيد بعيدين (عنها) جداً».

عنصر أمن يوقف رجلين من الإسلاميين المشتبه بهم عقب صلاة الجمعة في باب الوادي بالعاصمة الجزائرية يوم 31 يناير 1992 (أ.ف.ب / غيتي)

وبالإضافة إلى قضية الوضع الأمني، تكشف مراسلات السفير أيضاً أن البريطانيين كانوا يبدون آنذاك «تحفظاً» في مواجهة ضغوط فرنسية لتقديم مساعدات مالية من المجموعة الأوروبية للحكومة الجزائرية. وكما هو معروف، كانت السلطات الجزائرية بحاجة ماسة آنذاك لتلك المساعدات، سواء لجهة تمويل حربها ضد الجماعات المسلحة أو لجهة إطلاق مشروعات يمكن من خلالها إرضاء شرائح من المواطنين الذين يمكن أن يستقطبهم الإسلاميون في ظل تردي الأوضاع في البلاد.

الوضع الداخلي في الجزائر

كتب السفير كريستوفر باتيسكوم، في الأول من مارس (آذار) 1993، رسالة إلى أس. فولر في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية في لندن، قائلاً:

«الوضع الداخلي في الجزائر

1- جزيل الشكر لرسالتكم في 17 فبراير (شباط) بخصوص المراجعة السنوية ولملاحظاتكم التي تمتدح تقريرنا عموماً.

2- أتفق إلى حد كبير مع ما تقول في الفقرة 2 من رسالتكم بخصوص الحالة الأمنية. مستوى الأحداث الإرهابية بقي إلى حد كبير من دون تغيير على مدى الشهور الـ12 الماضية مع تسجيل سيل ثابت من الهجمات الخفيفة، واغتيالات الشرطيين، وتفجيرات في أماكن عامة... إلخ، تقطعها أحداث كبيرة أحياناً، على غرار قنبلة المطار في أغسطس (آب)، والكمين الذي قُتل فيه 5 شرطيين في ديسمبر (كانون الأول)، وقتل 4 شرطيين آخرين بهجوم بالرشاشات في الجزائر العاصمة الشهر الماضي، ومحاولة الاغتيال الفاشلة ضد الجنرال نزار (الجنرال خالد نزار، وزير الدفاع آنذاك). أشك كثيراً فيما إذا كان يمكن أبداً للسلطات أن تضع حداً لمثل هذه الحوادث، أكثر مما يبدو أن السلطات الأمنية البريطانية قادرة على منع الهجمات الإرهابية للجيش الجمهوري الآيرلندي في المملكة المتحدة. ولكن في حين أن الوضع الأمني في الجزائر بدا، قبل سنة أو نحو ذلك، كأنه متجه للانفلات كلياً، يبدو لي الآن أن الإرهابيين لن ينجحوا في تحويل الجزائر إلى بلد لا يمكن حكمه أو إرغام الحكومة على تغيير جذري في مسارها. ورغم استمرار حظر التجول وانتشار حواجز التفتيش التي يحرسها شرطيون تبدو عليهم معالم القلق، أعتقد أن معظم زائري الجزائر العاصمة يفاجأون بالحياة العادية بشكل عام هنا. ما زلنا بالتأكيد بعيدين جداً عن الحرب الأهلية التي غالباً ما نرى مكتوباً عنها في تحليلات الصحف الغربية.

قادة جبهة الإنقاذ وبينهم عباسي مدني وعلي بن حاج في 13 مارس 1990 في البليدة (غاما-رافو غيتي)

3- من الواضح أن على المرء أن يضع عدداً من التحفظات (عن هذه الخلاصات). التقارير عن الحوادث الأمنية التي نقرأ عنها في الصحف غير كاملة بشكل واضح ومصممة لطمأنتنا بأن الحكومة لها اليد الطولى. نحن لا نتجول كثيراً في المناطق الشعبية بالعاصمة، ولا في المدن الأخرى، ولا نحتك بالدوائر الإسلامية. توقعاتي أنه رغم كل ما حصل فإن التأييد الشعبي للجبهة الإسلامية للإنقاذ يبقى قوياً، وهذا يبدو ما يؤكده تردد الحكومة في المخاطرة بأي نوع من الانتخابات. لكنني أسجل مدى إعجابي بالطريقة التي واصلت فيها قوات الأمن أعمالها خلال سنة بالغة الصعوبة وبطريقة محافظتها على معنوياتها رغم المشاكل التي كان عليها التعامل معها ومع استمرار الهجمات عليهم (عناصر قوات الأمن). كما أنهم حققوا عدداً من النجاحات اللافتة. معركتهم مع الإرهابيين من المرجح أن تستمر لبعض الوقت ويبقى فيها التوازن بين الطرفين. لكنني أواصل الاعتقاد بأن قوات الأمن هي التي تتفوق تدريجياً (كما قلت في مراسلتي) وليس العكس، رغم أنني لا أتوقع أن يكون النجاح سريعاً، وقد يكون، كما أفترض، هذا النجاح قابلاً لأن ينعكس.

4- إنني أتفق، أو على الأقل أقبل، النقاط الأخرى التي وردت في رسالتكم لكنني سأبدي ملاحظة واحدة بخصوص الفقرة 4. النقطة الآنية التي تشكل محور القضية ستكون على الأرجح ليس كمية الأموال الجديدة من المجموعة الأوروبية (رغم أنني أوافق على أن الفرنسيين ربما سيضغطون من أجل هذا أيضاً) لأن الإفراج عن الدفعة الثانية من مدفوعات القرض من المجموعة الأوروبية يبدو أنه جعل هذه المسألة مشروطة باتفاق مع صندوق النقد الدولي، والإفراج المماثل عن قرض بـ70 مليون وحدة مالية أوروبية لمساعدة برنامج الحكومة لبناء المساكن. لقد اتخذت حتى الآن موقفاً متحفظاً من هاتين المسألتين، لكن ليس لدي شك في أننا سنواجه ضغطاً منسقاً ليس في وقت بعيد من أجل أن نكون أكثر مرونة. سي. باتيسكوم».

طالبات في العاصمة الجزائرية... الحياة عادية في نظر البريطانيين رغم تصاعد أعمال العنف في بدايات تسعينات القرن الماضي (سيغما / غيتي)

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوحدة المالية الأوروبية (The European Currency Unit (ECU)) كانت آنذاك وحدة قياس للعملة في أوروبا قبل اعتماد عملة «اليورو» وقبل تحوّل المجموعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي. ودعا البروتوكول الرابع للمجموعة الأوروبية (يغطي الفترة من 1992 إلى 1996) إلى معاملة أكثر سخاء إزاء الدول المتوسطية مثل الجزائر والمغرب وتونس. وزاد البروتوكول إنفاق المجموعة الأوروبية بـ28 في المائة عما كان في البروتوكول الثالث، وقدّم تمويلاً لمشروعات تقوم بها الجزائر وشركاؤها في اتحاد المغرب العربي. وسمح البروتوكول الرابع أيضاً للجزائر بالحصول على قروض أكبر والسحب من مخصصات بـ70 مليون وحدة عملة أوروبية، مقارنة بـ54 مليون وحدة أوروبية في البروتوكول الثالث. وجاء ذلك التحرك آنذاك بموازاة تحرك موازٍ على خط البنك الدولي الذي زاد مساعداته للجزائر في إطار برنامج للإصلاح الاقتصادي.

وليس واضحاً في الواقع سبب التحفظ البريطاني عن التحرك الفرنسي لتقديم المساعدات المالية الأوروبية للجزائر. لكن المعروف أن الإسلاميين المتشددين كانوا يوجهون اتهامات آنذاك للدول الأوروبية التي تقدم دعماً للحكومة الجزائرية بأنها تدعم «حكم العسكر». كما وجّه متشددون تهديدات بالانتقام من الدول التي تقدّم مساعدات للسلطات الجزائرية، وهو أمر قد يكون أثار مخاوف لدى بعض الدول التي خشيت أن تقديمها مساعدة للجزائر يمكن أن يؤدي إلى قيام متشددين بتنفيذ اعتداءات على مصالحها أو رعاياها.


مقالات ذات صلة

أفريقيا الكابتن إبراهيم تراوري خلال ترؤسه اجتماع الحكومة أمس الخميس (وكالة أنباء بوركينا فاسو)

بوركينا فاسو تعيد عقوبة الإعدام لمواجهة توسع الإرهاب

قررت السلطات العسكرية في بوركينا فاسو، الخميس، إعادة العمل بعقوبة الإعدام التي أُلغيت عام 2018، خصوصاً فيما يتعلق بتهمة الإرهاب.

الشيخ محمد (نواكشوط)
تحليل إخباري عناصر من مجموعة مسلحة مرتبطة بتنظيم «القاعدة» في النيجر (أرشيفية - الشرق الأوسط)

تحليل إخباري كيف وسّع تنظيم «القاعدة» نفوذه في غرب أفريقيا؟

أعلن تنظيم «القاعدة» أنه شنّ خلال الشهر الماضي أكثر من 70 عملية في دول الساحل وغرب أفريقيا ما أسفر عن سقوط أكثر من 139 قتيلاً.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

العراق يصنف «سهواً» حلفاء إيران «إرهابيين»... وارتباك داخل «التنسيقي»

في غضون ساعات، تراجع العراق عن وضع «حزب الله» وجماعة «الحوثي» على قائمة إرهاب، بعد ارتباك وذهول بين أوساط حكومية وسياسية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ ضباط من فرقة الخدمة السرية يرتدون الزي الرسمي يقومون بدورية في ساحة لافاييت المقابلة للبيت الأبيض في العاصمة واشنطن يوم 27 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

«إف بي آي»: صلات محتملة بين منفّذ «هجوم الحرس الوطني» وجماعة متشددة

يحقق «مكتب التحقيقات الفيدرالي» الأميركي بصلات محتملة بين منفّذ هجوم الحرس الوطني بواشنطن الأفغاني رحمن الله لاكانوال، وطائفة دعوية غامضة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
TT

النيات الأوروبية في امتحان التواطؤ وعقدة الذنب والرضوخ للضغوط

أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)
أورسولا فون دير لاين خلال إلقائها خطاباً رئيسياً عن حالة «الاتحاد» من «البرلمان الأوروبي» في ستراسبورغ - 10 سبتمبر 2025 (أ.ب)

عندما دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني، مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. كان مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية السابق، جوزيب بورّيل، يتناول طعام العشاء في العاصمة البلجيكية مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين، وقال: «هذه حرب طويلة قد تنتهي بحصول الفلسطينيين على الدولة، أو تقضي نهائياً على حل الدولتين. لكنها في الحالتين ستكشف ضعف السياسة الخارجية للاتحاد وعجز الدول الأعضاء عن التوافق حول موقف موحَّد من القضايا المصيرية التي تمسّ أمنها بشكل مباشر».

وها هي أوروبا اليوم، بعد عامين على حرب مدمرة رفعها تقرير دولي مستقل إلى مرتبة الإبادة، تقف عاجزة حتى عن فرض الحد الأدنى من العقوبات التجارية التي تطالب بها عدة دول أعضاء وتنادي بأكثر منها الحشود الشعبية التي تخرج كل أسبوع في المدن الأوروبية، احتجاجاً على جمود الحكومات والمؤسسات أمام المجازر والانتهاكات الإسرائيلية.

في الأشهر الأولى من الحرب كان الاصطفاف الأوروبي واضحاً بجانب الموقف الإسرائيلي، خصوصاً من الدول الوازنة، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ومن رئيسة المفوضية، أورسولا فون در لاين، التي كانت تتعرض لانتقادات شديدة بسبب انحيازها السافر إلى جانب إسرائيل، وعدم تجاوبها مع دعوات حكومات إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة الموقعة بين الاتحاد والدولة العبرية.

واشتدّت تلك الانتقادات بعد صدور تقرير، وضعته أجهزة الاتحاد، ويؤكد الانتهاكات الإسرائيلية لبنود أساسية في الاتفاقية تتعلق باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. لكن رئيسة المفوضية بقيت على موقفها المماطل، مدعومة من بعض الدول الأعضاء، خصوصاً ألمانيا التي صرحّت غير مرة بأنها ترفض مجرد طرح موضوع العقوبات على إسرائيل، الذريعة التي كانت تلجأ إليها رئيسة المفوضية، رغم انتقادات بعض كبار المسؤولين، هو نظام التصويت المعمول به في اجتماعات المجلس، الذي يقتضي للموافقة على العقوبات أغلبية موصوفة غير متوفرة من غير ألمانيا وإيطاليا والمجر.

لكن بعد صدور التقرير الدولي الذي وضعته مجموعة من الخبراء المستقلين، الذي خلص إلى أن الارتكابات الإسرائيلية في غزة تستوفي شروط توصيفها بالإبادة، وفقاً لأحكام القانون الدولي، وبعد تنامي الاحتجاجات الشعبية في العديد من البلدان الأوروبية، خصوصاً بعد قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وجدت رئيسة المفوضية نفسها مضطرة لطرح موضوع العقوبات على إسرائيل، وتعليق بعض بنود اتفاقية الشراكة معها على المجلس.

ويقال إن التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني، الذي بدوره دفع فون در لاين إلى تغيير موقفها وقلب المعادلة داخل المجلس، لم يكن غريباً عن التحول في موقف الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الوازنة في تحديد مواقف الفاتيكان في القضايا الكبرى.

وكان البابا ليو الرابع عشر أشار، في أول حديث صحافي مطوَّل له كشف عنه، مطلع الشهر الماضي، أن الفاتيكان ليس جاهزاً بعد لاتخاذ موقف رسمي في صدد وصف حرب غزة بالإبادة، ثم أضاف: «يزداد عدد الذين يستخدمون هذا المصطلح، بمن فيهم منظمتان تدافعان عن حقوق الإنسان في إسرائيل نفسها».

لكن بعد طرحها خطة مشتركة لفرض عقوبات على إسرائيل، تتضمن رسوماً جمركية على سلع مستوردة منها كانت حتى الآن معفاة من الرسوم، وإنهاء المعاملة التفضيلية التي تحظى بها الدول العبرية مع شريكها التجاري الأول في العالم، فضلاً عن عقوبات على اثنين من أعضاء الحكومة الإسرائيلية وتجميد أصولهما على الأراضي الأوروبية، ألقت المفوضية الكرة في ملعب الدول الأعضاء الذين سيعود لهم قرار تفعيل هذه العقوبات في المجلس.

ولم يتحدد إلى اليوم موعد مناقشة هذه الخطة في المجلس الأوروبي تمهيداً للموافقة عليها وتفعيلها؛ ما يتركها مجرد حبر على ورق النيات الأوروبية المتأرجحة بين التواطؤ، وعقدة الذنب، والرضوخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية التي نادراً ما تخرج دولة أوروبية من شباكها. وعند مشارف انقضاء عامين على مقتلة غزة التي أحدثت تغييراً جذرياً في الخطاب السياسي والشعبي الأوروبي حيال الصراع في الشرق الأوسط، لكن من غير تغيير يُذكر حتى الآن في القرار الرسمي لحكومات الدول الأعضاء، عاد جوزيب بورّيل ليقول في حديث هاتفي من برشلونة: «في غزة، خسر الاتحاد الأوروبي روحه».


رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

رسائل الغزيين في ذكرى الحرب: «يكفينا موتاً وخربان ديار»

فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)
فلسطينيون يحملون مساعدات غذائية جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

مع مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على غزة إثر هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، على المواقع والبلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، لا يزال الغزيون يدفعون من حياتهم وأعمارهم ثمناً لم يكن لأحد أن يحتمله في ظل مأساة تتفاقم من يوم إلى آخر.

وعلى مدار هذه الفترة، يقف الغزي أشرف الحليقاوي (46 عاماً) من سكان مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والنازح حالياً في دير البلح وسط القطاع، يومياً في طابور طويل للحصول على بعض اللترات من المياه القابلة لـ«الاستخدام الآدمي»، ثم يقف في طابور آخر لساعات إضافية من أجل تأمين مياه الشرب، فيما يتناوب هو وأبناؤه وأحفاده على هذه الطوابير وغيرها من طوابير التكيات التي تقدم بعض الطعام.

ويقول الحليقاوي لـ«الشرق الأوسط»: «حياتنا تحولت إلى جحيم حقيقي، كنا أعزاء في بيوتنا وأصبحنا أذلاء بسبب هذه الحرب القاسية جداً والتي لا تصفها كل الكلمات».

يضيف الحليقاوي بعد تنهيدة طويلة: «نحن هنا نُطحن يومياً على مدار عامين بين طوابير المياه والتكيات والمساعدات، وزحمة الطرق ومركباتها المهترئة التي بالكاد تسير في شوارع باتت وعرة ومدمرة تقسو بكل تفاصيلها على حياة أي مواطن في غزة».

يرى الحليقاوي أنه مع مرور عامين على الحرب، حان الوقت لأن تتوقف هذه «المقتلة» كما وصفها، داعياً «حماس» والفصائل الفلسطينية لترك الحكم والنظر في خيارات يمكن أن تنقذ ما تبقى من السكان وإبقائهم على قيد الحياة، قائلاً: «كل دقيقة تمر هي صعبة وقاسية علينا».

صبي جالس على قبر بينما أقام نازحون فلسطينيون مخيماً مؤقتاً في أرض المقبرة في خان يونس جنوب قطاع غزة 25 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

أهوال كيوم القيامة

توافق الغزية ناريمان أبو عاصي من سكان حي الصبرة جنوب مدينة غزة، الحليقاوي، الرأي بضرورة أن تقف «حماس» عند مسؤولياتها تجاه سكان القطاع بعدما دفعت بهم إلى حرب لم يرها أي فلسطيني منذ أن وطئت إسرائيل هذه الأرض، كما تقول.

وأضافت أبو عاصي (51 عاماً) وهي نازحة في دير البلح وسط القطاع بعد أن خرجت من مدينة غزة في الأسبوعين الماضيين: «خلال عامين من الحرب شاهدنا أهوالاً كثيرة وكأنها من أيام القيامة، وعشنا ظروفاً لا يتحملها بشر، وحان الوقت لأن تقبل (حماس) بما هو مطروح عليها؛ لأنه لم يعد هناك ما يحتمل أكثر مما احتملناه».

وتشير أبو عاصي إلى أن أكثر فصول الحرب قسوة هو النزوح، قائلةً: «كلمة النزوح قد تكون كلمة عابرة بالنسبة للكثيرين، لكنها بالنسبة لكل فلسطيني في غزة، تحمل كل معاني الألم والوجع الذي يفوق الاحتمال».

وتابعت: «آن الأوان لأن تقف هذه الحرب إلى الأبد حتى ولو تنازلت المقاومة عن سلاحها في سبيل أن نعيش ونواجه ما تبقى من مصيرنا بأنفسنا بعيداً عن حكم (حماس) أو أي فصيل آخر».

وواصلت بغضب ويأس: «يحلّوا عنا (فليرحلوا)، زهقنا وتعبنا، حتى من يموت يرتاح من الهم الذي يتآكلنا. حتى إننا فقدنا الشعور بمن يموت فبالكاد يتسنى لمن يبقى على قيد الحياة أن يفكر بنجاته... تبلّدت مشاعرنا».

أعلنت الأمم المتحدة رسمياً في 22 أغسطس المجاعة في غزة (أ.ف.ب)

الخيارات الضيقة

ويقول الشاب جاسر وادي (33 عاماً)، وهو موظف في القطاع الخاص، من سكان بلدة القرارة شمالي خان يونس ونازح إلى مواصي بلدتهم، إن الحرب أنهكته كما بقية أفراد عائلته، ليس اقتصادياً أو حياتياً فحسب، وإنما حتى جسدياً وصحياً.

ورغم كل هذا الواقع والظروف القاسية، لكن وادي يرى أن تسليم السلاح من قبل «حماس» والفصائل الأخرى، هو بمثابة رفع راية بيضاء أمام إسرائيل بعد كل هذه الدماء والتضحيات الكبيرة التي عانى منها الغزيون، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الخيارات ضيقة أمام الجميع، ونهاية الحرب تبدو مرتبطة بذلك، وحقن الدماء هو السبيل والحل الوحيد لذلك.

وأضاف: «الحياة هنا صعبة وقاسية، وقد تكون فكرة الهجرة مناسبة لكثيرين، لكن هناك أيضاً من لا يزال يرى في غزة المكان الأنسب للحياة، فكل ما نريده هو أن يتوقف قتلنا، ونشعر ببعض الأمان حتى لو أمضينا سنوات أخرى في الخيام».

وتابع وادي قوله: «الحصول على المياه، والطعام، وحتى التنقل في الطرقات لساعات طويلة من أجل الوصول من مكان إلى آخر، أمر منهك. والأطفال بلا مدارس وبلا حياة، أصبحوا يقفون في الطوابير مثل الكبار، أجسادهم منهكة من الجوع والقتل وقسوة الحياة عليهم حتى أصبحوا ينامون باكراً ليس استعداداً للذهاب إلى مدارسهم، بل لجدول طويل من المشقة. كل هذه الصور من المعاناة تفرض على السكان القبول بأي حل من أجل التوصل إلى اتفاق يخفف معاناتهم لكن نهايتها لن تكون سهلة وبحاجة لسنوات حتى يستعيد كل مواطن جزءاً يسيراً من حياته».

وتؤكد مؤسسات حقوقية ودولية أن سكان قطاع غزة يواجهون ظروفاً قاهرة، في ظل نقص المياه والطعام وتراجع فرص العمل، وعدم توفر الأموال، إلى جانب تدهور الواقع الصحي والبيئي الذي يفاقم سوء ظروفهم.

نازحون فلسطينيون في مخيم في خان يونس جنوب قطاع غزة... 29 سبتمبر 2025 (أ.ب)

استغلال التجار والصيارفة

بعض أبناء قطاع غزة ممن لهم دخل ثابت مثل الموظفين التابعين للسلطة الفلسطينية، يعانون بدورهم من عدم توفر السيولة النقدية بسبب تعطل البنوك، الأمر الذي دفعهم لسحب مستحقاتهم من تجار وصرّافين، مقابل عمولة مالية تراوحت خلال الحرب من 20 إلى 50 في المائة أحياناً.

ويقول الموظف في السلطة وسام عودة، من سكان بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة: «اضطرارنا لسحب رواتبنا عبر مكاتب صرافة أو التجار وغيرهم، جعلنا لقمة سائغة لهؤلاء. فقد نهبوا أموالنا بطريقة يرونها مشروعة في ظل تعطل عمل المصارف قسراً بفعل الحرب الإسرائيلية».

وأضاف عودة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الظروف أنهكتنا اقتصادياً وحولتنا من موظفين كنا نعيش حياة مستقرة نسبياً، إلى أناس بالكاد يملكون ما يسدون به رمق أطفالهم بالقليل القليل مما يتوفر من مواد غذائية».

وأشار إلى أنه يضطر كل شهر لتحويل ما في رصيده البنكي عبر التطبيق الإلكتروني لأحد التجار، مقابل أن يحصل على نحو نصف المبلغ أو أقل قليلاً، ليعتاش منه، مشيراً إلى أن تجار المواد الغذائية وغيرها من المواد يفضلون دوماً الدفع نقداً على أن تدفع لهم إلكترونياً.

وبحسب جهات تتابع هذه العمليات، فإن تجار المواد الغذائية يتعمدون فرض البيع بالسيولة النقدية لجمع أموال يعيدون تدويرها عبر مكاتب الصرافة، ما يدر عليهم أرباحاً مضاعفة.

في المقابل، تجبر عوائل فقيرة تتلقى دعماً مالياً غير منتظم من قبل بعض المؤسسات الدولية أو من أقرباء مهاجرين على دفع أكثر من نصف المبلغ أحياناً كعمولة مقابل الحصول نقداً على ما تبقى.

دخان يتصاعد جراء قصف إسرائيلي لأحياء في مدينة غزة (أ.ب)

«موت وخربان ديار»

وتقول المواطنة نهال أبو عبدو، من سكان حي النصر بمدينة غزة، والنازحة في مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، إنها تتلقى دعماً شهرياً يصل إلى نحو 270 دولاراً، من مؤسسة دولية، ولكنها عندما تضطر لسحب المبلغ نقداً من أحد التجار، تحصل على ما يقارب 140 دولاراً فقط.

وتضيف أبو عبدو (43 عاماً) والتي دمر منزلها وتعيل 4 أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة: «الحياة في غزة موت ودمار وخربان ديار».

وتابعت متسائلةً: «إلى متى سيبقى هذا الحال؟ نحن تعبنا ونريد لهذه الحرب أن تقف، وأن نشعر بالأمان ونجد مالاً لنعيش ونطعم أطفالنا... فهم بحاجة للحفاضات والحليب والغذاء».

وتابعت قولها: «إن أرادوا تهجيرنا، فليهجروننا، ولكن فليوفروا الأمان والأكل والمياه والكهرباء حتى نستطيع العيش مثل البشر، وليس كالحيوانات في بلدان منكوبة أصلاً».

فلسطينيون نازحون يتجهون جنوباً في قطاع غزة خلال وقت سابق (أ.ف.ب)

هجرة طوعية لا قسرية

بينما تخشى غالبية سكان قطاع غزة من التهجير القسري، تؤيد غالبية منهم الهجرة الطوعية إلى دول أوروبا أو دول مستقرة سياسياً واقتصادياً للبحث عن حياة أفضل، وخاصةً بين الجيل الشاب الذي لم يعد يملك مستقبلاً حقيقياً في القطاع نتيجةً للظروف الحالية.

ويقول الشاب نور البحيصي، من مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، إنه لا مشكلة له في الهجرة من القطاع للبحث عن حياة ومستقبل أفضل.

ورأى أن خطة ترمب قاسية على سكان القطاع، لكنها تمنحهم فرصة الهجرة الطوعية وليس القسرية، مؤكداً أنه مثل عشرات الآلاف من الشبان يرغب في الخروج بلا عودة بسبب تكرار الحروب.


معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

TT

معالم الشرق الأوسط الجديد بين وعود ترمب وواقع المنطقة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب متحدثاً في نيوجيرسي (أ.ب)

«بعد 7 أكتوبر كل شيء تغير في الشرق الأوسط»، جملة قالها المبعوث الأميركي توم براك تختصر المشهد المعقد الذي خيّم على المنطقة والسياسات الأميركية فيها منذ الهجمات في 2023.

اليوم وبعد مرور عامين على 7 أكتوبر (تشرين الأول)، يزداد المشهد تعقيداً، فهذه هي الذكرى الأولى في العهد للثاني الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كان بدأه متأملاً بانفراجات في الأزمة، وواعداً باستعادة الرهائن ووقف الحرب، ناهيك عن رفع سقف تطلعاته بإبرام الاتفاقات الإبراهيمية.

لكنها طموحات كبيرة لم تأخذ تعقيدات الوضع في المنطقة في الحسبان، زادها تعقيداً قرارات مثيرة للجدل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو الذي جر ترمب معه في دوامة قراراته من حرب غزة وخطط ضم الضفة الغربية إلى مواجهة إيران وتحدي سوريا بعد سقوط نظام الأسد. ومعها تلاشت الطموحات والخطط الكبيرة التي أعدها الرئيس الأميركي، بل يذهب البعض إلى حد القول إن «تهور نتنياهو وتساهل الإدارة الأميركية معه قد يقضيان كلياً على اتفاقات إبراهام».

إلا أن ترمب سعى جاهداً لتدارك الوضع، معلناً عن خطة من 20 نقطة لإنهاء حرب غزة، ورؤيته للمنطقة، متأملاً بكلماته الخاصة بأنها ستنقذ الاتفاقات العزيزة عليه.

لا اتفاق بلا اعتراف

شكّلت اتفاقات إبراهام التي كان ترمب عرّابها في عهده الأول لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، الهيكل الأساس لرؤيته للمنطقة والتي وضع من خلالها بصمته على سياسة خارجية كانت لتلقب الموازين وتغير المعادلات. وسعى ترمب جاهداً للاستمرار بمسار التغيير هذا، فكانت أول زيارة خارجية رسمية له إلى المملكة العربية السعودية، في إشارة صريحة إلى أهميتها الاستراتيجية.

لكن حرب غزة ألقت بظلالها على هذه الطموحات، وبدا أن أي تحرك لتوسيع الاتفاقات سيفشل قبل انطلاقه؛ فالسعودية كانت واضحة أيضاً في موقفها الرافض لأي توجه من هذا النوع مع الحرب المستعرة، ومن دون اعتراف دولي وأميركي بحل الدولتين، وهو ما رفضته كل من أميركا وإسرائيل.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجية المملكة العربية السعودية يترأسان قمة الاعتراف بفلسطين وحل الدولتين في الجمعية العامة في نيويورك (إ.ب.أ)

وكأن ذلك كله لم يكن كافياً لتشتيت آماله، ليأتي الهجوم الإسرائيلي على قطر استهدافاً لقادة «حماس» فيصب الزيت على نار الأزمة، ومسلطاً الضوء على الشرخ بين المواقف الأميركية وتلك الإسرائيلية. فمن جهة يؤكد مسؤولون إسرائيليون أنهم أبلغوا أميركا مسبقاً بنواياهم، من دون معارضة تذكر، ومن جهة أخرى ينفي ترمب نفياً قاطعاً أن نتنياهو أبلغه بالضربة قبل وقوعها.

وبغض النظر عمن هو محق في هذا الجدل العلني، تبقى النتيجة واحدة، ولا تصب في مصلحة أميركا ولا إسرائيل، وتمثلت بإجماع دولي على الاعتراف بدولة فلسطين في دورة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة رغم المعارضة الأميركية، في مبادرة بدأتها السعودية وفرنسا، وتوسعت لتشمل أكثر من 100 دولة.

ويقول براين كتوليس، كبير الباحثين في معهد الشرق الأوسط، إن الرسالة الأساسية التي يوجّهها الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية إلى ترمب هي أن «طموحاته في التوصل إلى اتفاق تطبيع أوسع بين إسرائيل والسعودية قد أصبحت في حكم المنتهية ما دام ترمب يواصل هذا النهج السلبي في إدارة ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني».

ويضيف كتوليس، في حديث مع «الشرق الأوسط»: «من المهم الإشارة إلى أن السعودية هي الداعم الرئيسي لخطوة الاعتراف بدولة فلسطينية، وأن الرسالة الأساسية التي توجهها هي أن هذا الملف يمثل أولوية بالنسبة لها».

خطة إنهاء الحرب

بمواجهة الإجماع الدولي في الاعتراف بدولة فلسطين بعيداً عن المسار الأميركي، سارع ترمب لاحتوائه طارحاً رؤيته لإنهاء الحرب أمام الزعماء العرب على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومن أبرز النقاط التي تعهد بها ضمن هذه الرؤية عدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، وذلك حرصاً على عدم انهيار اتفاقات إبراهام وانسحاب دول منها. وهذا ما تحدث عنه المستشار العسكري السابق في الخارجية الأميركية، الكولونيل عباس داهوك، قائلاً إنه رغم أن اتفاقيات أبراهام «ما زالت قائمة من الناحية التقنية، فإن مستقبلها يزداد غموضاً».

ويضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مع أن الاتفاقات لم تصبح بحكم المنتهية بعد، فإن أي خطوة إسرائيلية كبرى لضم الضفة الغربية ستقوّض الأسس التي أُبرمت هذه الاتفاقيات عليها. فخطوات من هذا النوع تتجاوز خطاً أحمر بالنسبة للدول العربية الرئيسية. كما أنها ستعرض جهود الاندماج الإقليمي للخطر، وتنسف الالتزام المشترك بحل الدولتين».

خريطة لمراحل الانسحاب من غزة وفق خطة ترمب (البيت الأبيض)

علاقة متقلبة

في ظل هذه التجاذبات، تسلط الأضواء على العلاقة بين ترمب ونتنياهو، فمن الواضح أن طموحات رئيس الوزراء الإسرائيلي تقف عائقاً أمام سعي الرئيس الأميركي لتصوير نفسه بمظهر رجل السلام. ولهذا فإن موافقة نتنياهو على خطة ترمب تعد انفراجة في العلاقة التي شهدت تقلبات عدة بين التعاون الوثيق إلى الخلاف العلني منذ وصول ترمب إلى الرئاسة في عهده الثاني. فالتقلب في مواقف ترمب حيال حرب غزة وإصرار نتنياهو على موقفه الرافض لحل دبلوماسي أدّيا في بعض الأحيان إلى توتر العلاقة بين الرجلين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد انتهاء مؤتمر صحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض يوم الاثنين (أ.ب)

كذلك، فإن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا من دون مباركة إسرائيلية فاجأت نتنياهو، على غرار إعلان ترمب عن نيته التفاوض مع إيران قبل أن يقرر ضرب المنشآت النووية الإيرانية في خطوة أشاد بها نتنياهو في خطاب رنان. وحول هذا التفاوت يقول داهوك: «فيما أظهرت واشنطن رغبة في خفض التوتر، جاءت رسائلها الدبلوماسية ومواقفها العسكرية في كثير من الأحيان غامضة. بل إن الإدارة في بعض الأحيان أثنت على العمليات الإسرائيلية التي استهدفت إيران ووكلاءها. وقد فسّر نتنياهو هذا التأييد الانتقائي على أنه موافقة ضمنية على المناورات الهجومية تحت عنوان الدفاع عن النفس، رغم الدعوات الرسمية إلى ضبط النفس».

ومنذ تسلم ترمب سدة الرئاسة في يناير (كانون الثاني)، التقى الرجلان في البيت الأبيض 4 مرات، منها اجتماعات أظهرت قوة العلاقة بينهما، وأخرى أظهرت عمق الانقسامات بين الرجلين، وعن هذه الاجتماعات يقول كتوليس: «لقد استغلّ ترمب ونتنياهو لقاءاتهما الثلاثة الأولى لمغازلة قواعدهما الداخلية ودفع سياسات ألحقت أضراراً كبيرة بخصوم البلدين، خصوصاً إيران وحلفاءها. لكنّ هذين الزعيمين لا يقودان بالمعنى التقليدي للكلمة، بل يكتفيان بمخاطبة قاعدتهما السياسية من دون أي أفكار كبرى للمستقبل».

وتابع كتوليس: «عمل ترمب ونتنياهو في الغالب وفق تكتيكات عسكرية مصحوبة بجهود اتصالات استراتيجية هجومية، لكن ذلك لا يشكّل نموذجاً لتحقيق السلام والأمن، بل ضربات بلا استراتيجية. إن التوصل إلى اتفاقيات دبلوماسية تعيد البناء وتنتج السلام أصعب بكثير من تصفية الخصوم».

تغير المزاج الأميركي

بعد 7 أكتوبر، اصطف الأميركيون وراء إسرائيل، لكن الحالة اليوم اختلفت مع استمرار حرب غزة، وتعالي أصوات ديمقراطية وجمهورية وصف بعضها ممارسات إسرائيل بالإبادة الجماعية، في مواقف لافتة خاصة من قبل بعض الجمهوريين من قاعدة (ماغا) الشعبية المناصرة لترمب كالنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين التي وجهت كذلك انتقادات لاذعة للوبي الإسرائيلي (إيباك) ونفوذه في واشنطن. مواقف دفعت بترمب إلى القول في مقابلة مع موقع «دايلي كولر» إن اللوبي «لم يعد يسيطر» على الكونغرس كالسابق.

متظاهرون ضد نتنياهو في نيويورك خلال إلقائه كلمة في الأمم المتحدة الجمعة (رويترز)

وترافق هذا مع استطلاعات رأي تظهر تراجع دعم إسرائيل في الرأي العام الأميركي، خصوصاً بين الشباب من الجمهوريين. وأفاد استطلاع لمركز بيو للأبحاث أن 50 في المائة من الجمهوريين تحت سن الخمسين لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل خاصة حيال تعاطيها مع حرب غزة.

لكن، ورغم هذه المعارضة الجديدة، تتصدر إسرائيل البلدان التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية؛ إذ تحظى بـ3.8 مليار دولار سنوياً ضمن مذكرة تفاهم لعشرة أعوام وقع عليها الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في عام 2019، ولم تواجه هذه المساعدات خاصة الدفاعية أي عرقلة فعلية في الكونغرس، رغم وجود بعض المشرعين الذي يسعون لتأخير المصادقة عليها.

وبالإضافة إلى المساعدات، يقر الكونغرس بشكل دوري صفقات أسلحة مع تل أبيب ما يفيد القطاع الصناعي العسكري الأميركي ويعزز مبيعاته بملايين الدولارات، ليثبت مقولة أميركية واسعة التداول في الأوساط السياسية: «إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فاتبع خيط الأموال».