أطل السياح برؤوسهم خارج الحافلة البيضاء الطويلة بينما تتجه إلى ساحة الانتظار الإسفلتية وسط تلك القرية الأنيقة. غطى السياح رؤوسهم بقبعات واقيه من الشمس وأمسك كل منهم بكاميرا ليتجولوا وسط الحدائق والمنازل ذات الألوان البراقة بينما ينصتون للمرشد السياحي الذي قدم شرحا عن مشروعات المزارعين.
كان كل السياح الروس في جولة داخل روسيا، وهو مشهد صار مألوفا بعد انهيار قيمة الروبل منذ نهاية العام الماضي، الأمر الذي جعل السياحة الخارجية أمرا بعيد المنال بالنسبة للكثيرين من الطبقة المتوسطة.
ورغم أن بعض السياح الروس قد يتضايقون من تلك الرحلات الداخلية في مثل هذه الحافلات وفى هذه البلدات مع نهاية الموسم، فإنهم أقبلوا عليها بهدوء.
«باريس لا بأس بها، لكن ليس هناك أجمل من أرض الوطن»، حسب أولغا كروفينا (53 عاما) وهي سيدة أعمال من ضاحية قريبة من ياروسلاف تضع كاميرا حول عنقها تلتقط بها الصور لأصدقائها من أمام كوخ مجدد يعود للقرن التاسع عشر، بعدما ألغت خططها للتجول في أوروبا هذا الصيف نتيجة لانهيار قيمة عملتهم المحلية (الروبل) مما جعل الجولة الأوروبية أمرا مكلفا للغاية.
وأحد أكبر التحديات في حياة الروس منذ سقوط الاتحاد السوفياتي كانت القدرة على السفر إلى الخارج، غير أن التغيير ساهم في فتح المجتمع المغلق وسافر السياح للخارج كل حسب مقدرته. زادت وتيرة السفر للخارج تصاعديا وملأت أفواج الروس من الطبقة المتوسطة شواطئ تركيا، ومصر، وتونس، وتايلاند.
بيد أن تغيرا كبيرا طرأ العام الماضي، فبعد ضم روسيا لجزيرة القرم وتباعد روسيا عن الغرب، توقف العاملون في مجال الأمن الروسي عن السفر للخارج. وبحلول فصل الصيف، بدأ العاملون في الشركات المملوكة للدولة في رحلات سياحية داخلية، وذلك لتجنب مضايقة رؤسائهم في العمل ممن منعتهم السياسة وأحيانا العقوبات الاقتصادية من السفر للخارج، حسب مايا لوميدز، مدير تنفيذي بشركة «أسوسيشن تور أوبيريشن أوف رشا».
ومع نهاية العام، انهار الروبل وتراجع لمستويات غير مسبوقة أمام الدولار الأميركي، وأصبح مقترح عدم سفر العاملين في المجال الأمني للخارج بمثابة حظر سفر فعلي أثر على نحو أربعة ملايين سائح إضافة إلى عائلاتهم، حسب مايا لوميدز.
وتحول تراجع العملة إلى مكسب للسياحة الداخلية، إذ تشير المؤشرات الأولية إلى ارتفاع في السياحة الداخلية بنسبة 20 في المائة هذا العام، في حين انهارت السياحة الخارجية بشكل كبير، حسب لوميدز. كذلك تراجعت السياحة إلى تايلاند للنصف، وإلى اليونان للثلث.
وبالنسبة للروس، فإن للسياحة الداخلية منافع أخرى، فهي مفيدة لبلادهم، إذ إن روسيا مغسولة بالوطنية التي بثتها فيهم حكومة فلاديمير بوتين، ولم تكن السياحة بمنأى عن ذلك الحس.
وروجت وكالات السياحة للأمر ولزيادة أعداد السياح داخليا كدليل على حب الروس لوطنهم الأم. ففي شهر يوليو (تموز) الماضي، أجل الكرملين بداية العام الدراسي حتى يتسنى للجميع الاستمتاع برحلاتهم لوقت أطول.
وعقد الرئيس فلاديمير بوتين اجتماعا مع الحكومة هذا الشهر لمناقشة السياحة الداخلية في يالتا، بلدة وسط جزيرة القرم، وهي شبة جزيرة تقع في البحر الأسود قامت روسيا بضمها العام الماضي. وشهد منتجع سوشي السياحي على البحر الأسود، الذي استقبل أعدادا كبيرة من السياح، عزفا للنشيد الوطني الروسي على الشواطئ يوميا عبر مكبرات الصوت. وأظهرت مقاطع مصورة السياح في ملابس البحر ينهضون واقفين احتراما للنشيد الوطني.
ومن ضمن البلدات هناك بلدة فياتسكوي التي تضم منازل تعود للقرن التاسع عشر بعد أن أعيد ترميمها، تقع على بعد 165 ميلا شمال موسكو، وتبدو من أكثر المناطق روعة. وتعتبر المدينة متحفا مفتوحا ساهم في إحيائه زوجان ثريان من ياروسلاف وقد بدأ بترميم منزلهما ببلدة فياتسكوي منذ عدة سنوات وقررا الاستمرار في ترميم باقي منازل البلدة.
وتضم البلدة عشرة متاحف أحدها يعكس الإبداع المعماري الروسي في تصميم النوافذ والآلات الموسيقية وقوالب الأحجار القديمة المستخدمة في البناء. تضم البلدة كذلك حمامات ساونا روسية تقليدية، وآبار مياه احتفظت بنقائها منذ أول استخدام لها مع بداية القرن الماضي، إضافة إلى منزل ذي لون أخضر براق يبدو وكأنه من القرن التاسع عشر عندما كانت القرية مأهولة بالفنانين في النحت وزخارف السقف وغيرها من الفنون. ويقول أوليغ زاروف، متبرع ومتخصص في الرياضيات منذ عهد الاتحاد السوفياتي: «يسمح لك المكان أن تنظر بشكل مختلف لنفسك ولبلدك». وأضاف أوليغ أنه كون ثروته من العمل بتكرير النفط والعقارات.
واستقبل مجمع المتاحف أكثر من 80 ألف زائر العام الماضي، حسب زاروف، وأضاف أن العائد من تلك الزيارات كان كافيا للإنفاق على صيانة المجمع للمرة الأولى منذ افتتاحه منذ خمس سنوات. بيد أنه لا يتوقع أن يسترد مبلغ الـ20 مليون دولار التي أنفقها كاستثمار.
ويضم المجمع فندقا ومطعما جميع حوائطه مزينة بساعات حائط تشير لنهاية القرن. (وفي لفتة وطنية أطلق على بعض أنواع السلطات في المطعم أسماء بعض الرموز الدينية والقادة السياسيين مثل نيكولاي باتريشيف، السكرتير العام الحالي لمجلس الأمن الروسي، وتشتمل السلطة على الكرز، والطماطم، وقطعا من اللحم البقري والزيتون).
جلس بافيل ياغروف وزوجته يرتشفان القهوة خارج المطعم الثلاثاء الماضي بعد زيارتهما لأربعة متاحف. وكان الزوجان قد غادرا شقتهما في موسكو قبل الفجر كي يصلا إلى فياتسكوي وقت الغذاء. تعتبر زيارة الزوجين للمكان هي المحطة الأولى خلال رحلة امتدت لأسبوع حول الطريق الدائري الذهبي، وهي مجموعة من البلدات والمدن الرائعة بغرب روسيا معروفة بكنائسها ذات القباب التي تشبه البصل وكذلك بقلاعها الرائعة. سافر الزوجان بالقطار العام الماضي إلى فرنسا وسويسرا التي أحباها كثيرا، إلا أنه ليس بمقدورهما تدبير نفس النفقات العام الحالي. وعند سؤال الزوجين عن سبب زيارتهما لهذا المكان، أجابا بأن «روسيا أرخص».
غير أن هناك كذلك بعض السلبيات، فعلى الإفطار لم يكن هناك غير القهوة سريعة التحضير، ولم يعمل الإنترنت بالفندق (رغم أنهما لم يحتاجاها على أي حال). كما لم يفتح المتحف سوى الساعة الحادية عشرة صباحا، وكان عليهما الانتظار لساعتين بعد الإفطار، إلا أنهما لا يزالان سعيدين.
كانت المتاحف مفتوحة بالفعل عندما وصل الزوار في حافلاتهم من ياروسلاف. وكان في المكان كتاب كبير للاعترافات أحضروه من كنيسة البلدة، وأدوات مطبخ قديم، وآلات موسيقية، وجهاز قديم يستخدمه طبيب الأسنان.
«المتعة ليست الكلمة، بل الروحانية أيضا»، حسب تعليق عاطفي كتبته أوليغ اليسكندروفا، محاسبة متقاعدة، في سجل الزيارات. وأضافت «الزيارة هي لكي نشاهد ماذا كنا وماذا كنا قادرين على فعله».
وحسب كروفينيا، سيدة أعمال، فإن معرفة الماضي أشبعت فضولها هي وأصدقائها الروس. وأضافت: «الآن فقط بدأ الروس يقفون على أقدامهم، نشعر حقيقةً بالفخر، وتشعر كأنك تريد أن تفرد جناحيك، وتشعر بقلبك ينبض بقوة».
* خدمة «نيويورك تايمز»
الروس يكتشفون بلدهم.. بفضل هبوط الروبل
انخفاض قيمة عملتهم دفع الكثيرين منهم إلى قضاء إجازاتهم داخليًا
الروس يكتشفون بلدهم.. بفضل هبوط الروبل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة