مع اقتراب موعد انعقاد القمة المقبلة للحلف الأطلسي (ناتو) في ليتوانيا، وتوسعة عضويتها لتشمل دولتين من الرموز التقليدية للحياد العسكري في العالم، هما فنلندا والسويد، عاد الحديث عن التكامل المفترض بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة الدفاع الأطلسية التي تبدو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، امتداداً للذراع العسكرية الأميركية، التي ما زالت تشكّل الرافعة الأساسية لنفوذ واشنطن السياسي والاقتصادي، والضمانة الأمنية للأوروبيين في مواجهة التحديات والأزمات الكبرى.
وعلى الرغم من الانعطاف الواضح الذي فرضته الحرب في أوكرانيا على المقاربات الأوروبية للسياسات الدفاعية، والخطوات غير المسبوقة التي أقدمت عليها معظم بلدان الاتحاد الأوروبي لتنسيق سياساتها العسكرية وإرساء القواعد لمشاريع مشتركة في مجال التصنيع الحربي، يعترف المسؤولون الأوروبيون بأن الطريق إلى سياسة دفاعية موحدة ما زال طويلاً، ودونه عقبات كثيرة لن يكون من السهل تجاوزها في القريب المنظور، خصوصاً في ضوء المعادلات الاستراتيجية، الدولية والإقليمية، التي ستسفر عنها الحرب في أوكرانيا.
وكان المسؤول الأوروبي للسياسة الخارجية، جوزيب بوريل، كرر منذ أيام أن التطورات الأخيرة باتت تحتّم على الاتحاد الأوروبي السير، بأسرع ما يمكن، نحو سياسة دفاعية ذاتية تضمن أمنه، وأن ذلك يقتضي تجاوز قاعدة الإجماع التي تحكم قرارات المجلس الأوروبي على مستوى رؤساء الدول والحكومات.
ويدعو بوريل إلى «دمج» المجلس الأوروبي، الذي يمثّل الدول الأعضاء، والمفوضية الأوروبية، التي تشكّل الذراع التنفيذية للاتحاد، على اعتبار أن المجلس ليس هيئة اشتراعية، بل هو جهاز سياسي بامتياز يستند في قراراته إلى توجيهات المفوضية وتوصياتها.
وكان خبراء المجلس اعدّوا اقتراحاً، ما زال ينتظر عرضه على رؤساء الدول والحكومات، يدعو إلى التخلي عن قاعدة الإجماع في القرارات الدبلوماسية وفرض العقوبات، والإبقاء عليها في القضايا الأساسية، مثل الموافقة على انضمام عضو جديد إلى الاتحاد أو ما يتصّل بالمبادئ والقيم التأسيسية للمشروع الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه يحظى بتأييد أغلبية واسعة داخل البرلمان الأوروبي.
لكن يرى الخبراء أن استخدام قاعدة الأغلبية بدلاً من الإجماع لاتخاذ قرارات المجلس الأوروبي، على أهميته باعتباره خطوة سياسية لازمة، ليس كافياً وحده للسير في اتجاه سياسة دفاعية موحدة وفاعلة ميدانياً، طالما أن هناك ما يزيد على 125 منظومة سلاح مختلفة في بلدان الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن رفع سقف الإنفاق العسكري إلى 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، لن يحل أي مشكلة إذا كانت كل دولة ستواصل تطوير ترسانتها الذاتية.
وتشير الوثيقة الاستراتيجية الأساسية، التي وضعها الاتحاد الأوروبي مطلع السنة الجارية، إلى أن الوقت قد أزف لإطلاق مشروع «القوات المسلحة الأوروبية المشتركة».
وللمرة الأولى تشير الوثيقة إلى أنه «ليست ثمّة حاجة للمفاضلة بين الانتماء إلى منظومة الدفاع الأوروبية والانتماء إلى منظمة الحلف الأطلسي»، وأن ما تحتاج إليه أوروبا في المستقبل، منظمة تدافع عن النظام الديمقراطي وسيادة القانون. كما تشير الوثيقة إلى أن منظمة الدفاع الأطلسية التي أدّت مهمة أمنية جليلة على مدى أكثر من 7 عقود «أصبحت هي أيضاً بحاجة لأن تتغير».
المسؤولون الأوروبيون لا يكفّون في تصريحاتهم عن التكرار والتأكيد على أن أي سياسة دفاعية مشتركة، لا بد أن تكون مكملة للحلف الأطلسي، سيّما وأن المادة الخامسة من معاهدة واشنطن المؤسسة للحلف، تنصّ على مبدأ الدفاع الجماعي، الذي يضمن لكل دولة حق الدفاع المشترك عنها في حال التعرّض لاعتداء من أي دولة خارج الحلف.
لكن هذا الإجماع الظاهر بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول ضرورة السير في اتجاه سياسة دفاعية مشتركة، يخفي وراءه الكثير من مشاعر التحفظ غير المعلنة والحساسيات، الناشئة عن الخشية من وقوع هذه السياسة الدفاعية تحت سيطرة دولة واحدة، هي فرنسا التي تدفع وحدها بقوة في هذا الاتجاه، خصوصاً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، والتحفظات الألمانية التقليدية تجاه تطوير أي مشروع عسكري ذاتي خارج الحلف الأطلسي.
وإذ تذهب مجموعة من الدول إلى تبدية الإنفاق الإنمائي على الإنفاق العسكري، والاكتفاء بالمظلة الأطلسية للأغراض الأمنية، تذكّر بأن الحلف الذي قام بشكل أساسي لاحتواء وصدّ التهديدات السوفياتية المحتملة ضد أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، هو أيضاً ضمانة لنزع فتيل صدامات لا يمكن استبعادها في قارة، شهدت قبل الحربين العالميتين سلسلة من النزاعات والحروب الدموية والمديدة منذ حرب المائة سنة أواسط القرن الرابع عشر إلى الحروب الفرنسية البريطانية والفرنسية البروسية، حتى أواخر القرن التاسع عشر. ولا يغيب عن بال هذه الدول حرب البلقان الأخيرة في تسعينيات القرن الماضي، وما يعتمل مجدداً في الأجواء البلقانية على وقع تطورات الحرب الأوكرانية.