صفحات وفصول من الثقافة السعودية في معرض الدوحة الدولي للكتاب

يقدم الجناح السعودي المشارك في معرض الدوحة الدولي للكتاب نحو 45 فعالية ثقافية تشمل ندوات وورش عمل وجلسات حوارية على مدى 10 أيام (وزارة الثقافة)
يقدم الجناح السعودي المشارك في معرض الدوحة الدولي للكتاب نحو 45 فعالية ثقافية تشمل ندوات وورش عمل وجلسات حوارية على مدى 10 أيام (وزارة الثقافة)
TT

صفحات وفصول من الثقافة السعودية في معرض الدوحة الدولي للكتاب

يقدم الجناح السعودي المشارك في معرض الدوحة الدولي للكتاب نحو 45 فعالية ثقافية تشمل ندوات وورش عمل وجلسات حوارية على مدى 10 أيام (وزارة الثقافة)
يقدم الجناح السعودي المشارك في معرض الدوحة الدولي للكتاب نحو 45 فعالية ثقافية تشمل ندوات وورش عمل وجلسات حوارية على مدى 10 أيام (وزارة الثقافة)

يقبِل زوار معرض الدوحة الدولي للكتاب على جناح السعودية، ضيف شرف المعرض في نسخته الثانية والثلاثين، للوقوف عن كثب على ما يضمه الجناح من فصول الثقافة وألوان الفنون، وإرث تاريخي عريق احتفظت به المخطوطات النادرة والفريدة التي تزيّن جنبات الجناح.

وقفةٌ على أبواب التراث وألوان الفنون، وتنوّع ثقافي وحِرف فنية تملأ جدول البرنامج الثقافي السعودي الذي يَعقد أكثر من 40 مناسبة ثقافية وتدريبية، خلال مشاركة السعودية كضيف شرف في معرض الدوحة للكتاب، الذي يمتد لـ10 أيام، تكون فيه السعودية حاضرة بتاريخها المرويّ وثقافتها الملهمة، وشواهد التراث التي تعكس أصالة الماضي والإرث الذي تختزنه المناطق السعودية الشاسعة، فيما تحضر مبادرة الشعر العربي، التي أطلقتها السعودية اسماً لعام 2023 والاحتفاء بدورها التاريخي كمهد للشعر العربي ومصدر إلهام لقائمة من القصائد الخالدة.

يقف أيمن فقيهي، أحد منسوبي مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، بترحاب لاستقبال زوار الجناح السعودي، لإطلاعهم على كنوز التراث وذخائر الوقف التي تحتفظ بنسخ نادرة من المصحف الشريف والمؤلفات الإسلامية، بعضها مكتوب بمداد مؤلفيها الأوائل، احتفظت بين سطورها بعبق التاريخ، بينما يتصفح زوار الجناح السعودي مجموعة من الإصدارات التي تعرّف بالعناصر الثقافية السعودية ومواقع التراث التاريخية التي شقت طريقها إلى قوائم التراث الإنساني العالمي.

شواهد لحضارات ضمّتها المناطق السعودية

في أحد جوانب الجناح السعودي، شاهد غير مكتمل، وهو أحد المعثورات التي وجدت في منطقة تبوك، شمال السعودية، يضم نقوشاً ترمز إلى معبودات نبطية خلال القرن الأول الميلادي، وفي المقابل مسلّة تاريخية، يعود تاريخها إلى 6 آلاف عام، استخدمت حينذاك كشاهد على مدافن الملوك والشخصيات التاريخية، فيما يتأمّل زوار الجناح بتمعّن وتمهّل في الشواهد والآثار التي تتوزع في جوانب المعرض، وعلى التفاصيل الدقيقة التي تعكس البعد الحضاري والتراثي الذي تحتفظ به مناطق السعودية.

كما يضم المعرض مجموعة من نوادر الكتب والمؤلفات التي تتفاوت في تاريخيتها، لكنها تجتمع في أهمية ما تعكسه من صيانة العرب والمسلمين لمصادر العلم، وحرصهم في حفظ تراثه ومدخراته. يقول فقيهي في حديث مع «الشرق الأوسط» إن المخطوطات النادرة تلفت انتباه الزوار وعنايتهم، سواء المثقفون منهم أو الأجيال الناشئة، التي تتطلع لاكتشاف غير المألوف من أنماط توثيق العلم وتثبيته عندما كانت الإمكانات والأدوات متواضعة وبسيطة.

يقبِل زوار معرض الدوحة الدولي للكتاب على جناح السعودي ضيف شرف المعرض في نسخته الثانية والثلاثين للوقوف على فصول الثقافة وألوان الفنون (وزارة الثقافة)

45 ندوة حوارية في الجناح السعودي

يقدم الجناح السعودي المشارك في «معرض الدوحة الدولي للكتاب» نحو 45 فعالية ثقافية، تشمل ندوات وورش عمل، وجلسات حوارية، وحلقات نقاش، وذلك على مدى 10 أيام في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات. وتتنوع مجالات الورش بشكل يومي لتتناول الرواية، والشعر، والخط العربي، وفن فهرسة المخطوطات، والحرف اليدوية؛ كالقط العسيري، وصناعة السدو والنسيج، وفن القراءة. وتهدف من خلال ذلك إلى التعريف بثقافة وتراث وفنون المملكة المتنوعة. ويخصص الجناح جلسات حوارية دورية، تحت عناوين مختلفة، تجمع الزوار بالمؤلفين السعوديين، والحديث عن تجاربهم الكتابية، كما يشهد مشاركة نحو 25 دار نشر سعودية، تعرض آلاف العناوين القديمة والحديثة في مختلف المجالات.

10 أيام تحضر فيها السعودية بتاريخها المرويّ وثقافتها الملهمة وشواهد التراث التي تعكس أصالة الماضي والإرث الذي تختزنه المناطق السعودية الشاسعة (وزارة الثقافة)

وانطلقت فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الثانية والثلاثين، في 12 يونيو الماضي، تحت شعار «بالقراءة نرتقي»، وحلّت السعودية ضيف شرف المعرض لهذا العام، بمشاركة عدد كبير من دور النشر المحلية والعربية والدولية.

وبالتزامن مع افتتاح معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الــ32، وقّعت السعودية وقطر (الاثنين) مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الثقافي، في وقت شهدت فيه قطر عقد الاجتماع الأول للجنة الثقافة والسياحة والترفيه بمجلس التنسيق السعودي - القطري.

وأعرب الأمير بدر بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة السعودي، عن اعتزازه بتوقيع مذكرة التفاهم المعنيّة بالشأن الثقافي بين وزارتَي الثقافة في البلدين، «متطلعاً لاستمرار الحراك الثقافي بينهما، والعمل على المبادرات والمسارات لِلَجنة الثقافة والسياحة والترفيه التي انطلقت تحت مظلة مجلس التنسيق السعودي - القطري، الذي يُعد إطاراً شاملاً لتعزيز العلاقات الثنائية والتعاون المشترك، والدفع بالشراكة بين البلدين إلى آفاق أرحب، وفق رؤية السعودية 2030، ورؤية قطر الوطنية 2030، بما يُلبّي تطلعات القيادة، ويحقق مصالح الشعبَين الشقيقَين».



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.