محمد آشي لـ«الشرق الأوسط»: السعودية تشهد «انفجاراً» إبداعياً مثيراً

أول مصمم سعودي ينضم إلى البرنامج الرسمي لـ«هوت كوتور» بباريس

TT

محمد آشي لـ«الشرق الأوسط»: السعودية تشهد «انفجاراً» إبداعياً مثيراً

المصمم السعودي محمد آشي (خاص)
المصمم السعودي محمد آشي (خاص)

لم يكن محمد آشي الذي حاورني عبر «زووم» منذ أكثر من شهر، هو نفسه الذي قابلته في عام 2015. تغيير كبير جدّ عليه. لا وجهه أو صوته تغيرا، ولا حتى ضحكته العفوية التي يصل رنينها إلى القلب كلما شاكسته بسؤال يرد عليه بمهارة مبارز أو شراسة مدافع على مرماه. فاجأني هذه المرة بتغنِّيه بـ«سعوديته».

عندما أصارحه بملاحظتي وأذكره بلقائنا السابق، يرد بسرعة وبحماس: «من الطبيعي أن أتغير... ألا ترين أن معجزة حصلت في زمن لم نكن نؤمن فيه بالمعجزات؟ نعم كنت في بداياتي متحفظاً بهذا الشأن ولم أتبرع بالإعلان عن جنسيتي، لكن ليس لأني لم أكن أفتخر بها، لا أبداً كنت فقط مدفوعاً برغبة تسكن أي مصمم في بداياته في أن أفرض نفسي في الساحة العالمية، ثم لا تنسي أن النظرة العامة إلى المصممين العرب آنذاك لم تكن تُشجع على فتح هذا الباب والخوض فيه».

المصمم محمد آشي يحيي الحضور بعد عرضه لـ«ربيع وصيف 23»... (محمد آشي)

 

18 عاماً مرت على بدايته تُوّجت هذا العام بانضمامه إلى البرنامج الرسمي للفيدرالية الفرنسية لـ«هوت كوتور» كأول مصمم خليجي. لا يخفي أن 18 عاماً رقم مهم في مسيرة أي مصمم أزياء. ليس لأن الموضة من القطاعات التي تقوم على مفهوم التغيير السريع بالأساس، بل لأن المصمم عموماً ابن بيئته. يتأثر بما يجري من حوله من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإنسانية، وآشي أكد أنه فعلاً ابن بيئته. يتذكر كيف كانت النظرة إلى مُبدعي المنطقة العربية ككل مجحفة.

«أنا نفسي لم أتخيل في فترة من الفترات أن يكون سعودي ضمن فريق عملي. عندما التحقت بالاستوديو الخاص بي في باريس متدربة شابة في العام الماضي، فاجأتني بمهنيتها وانضباطها، وهو ما لم أكن أتوقعه من أي شخص في مقتبل العُمر بغض النظر عن الجنسية. الآن أنا متأكد أكثر من أي وقت مضى أنه عندما يكون لديك بلد يتمتع بكل المقومات المادية والثقافية والتراثية والفنية، فإن كل ما نحتاجه هو التحرر من القيود».

رغم أنه عاش في الغرب وتشبع بأسلوب «بالنسياجا» فإن هناك دائماً ما يشده إلى جذوره (محمد آشي)

يصف لي مدى الذهول والانبهار اللذين غمراه عندما زار السعودية بعد غياب أربع سنوات: «لأني لم أعش التغييرات بشكل تدريجي، احتجت لبعض الوقت لكي أتقلم مع الوضع الجديد». يضيف ضاحكاً: «كانت أجمل صدمة ثقافية يمكن أن يتلقاها الإنسان. لم أصدّق أن هذا هو بلدي الذي تركته منذ أربع سنوات فقط. إرثه وغناه الثقافي وتقاليده الجميلة لم تختف. كانت تتجلى على الوجوه والواجهات، على حد سواء، لكن كانت هناك ديناميكية لم أر لها مثيلاً في أي مكان من العالم».

محمد آشي من جيل عاش حقبة الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي. درس في الولايات المتحدة الأميركية ثم انتقل إلى باريس ليصقل موهبته. لكن في بيروت التي انتقل إليها بعد فترة قصيرة سجل بأسلوبه الهندسي والفني اسمه بين الكبار في مجال الأزياء. الآن هو عضو في هيئة الأزياء السعودية لكي يدعم مبدعي بلده من الشباب، وفي الوقت ذاته يرد الجميل. لم ينس أنه بالرغم من ابتعاده عن بلده لسنوات ورغبته في الحفاظ على خصوصيته لكي لا يوضع في خانة نمطية من صُنع الغرب «أن بنات بلدي كُن أكبر داعم لي طوال مسيرتي، فخمسون في المائة من زبوناتي كن سعوديات».

اسمه يتردد هذه الأيام بشكل مكثّف، نظراً لأنه أول مصمم خليجي تضمه الفيدرالية الفرنسية لـ«هوت كوتور» لبرنامجها الرسمي، وأيضاً لمشاركته في مهرجان «كان» السينمائي بإطلالات شدت الأنفاس، ومؤخراً في عرس ولي عهد الأردن بفستان تألقت فيه أخت العريس إيمان العبد الله وكان من الاختيارات الموفقة جداً.

الأميرة إيمان عبد الله في فستان من تصميمه نال كثيراً من الثناء والاستحسان (رويترز)

الآن يعود إلى مسقط رأسه، حيث سيفتتح محلاً رئيسياً في الرياض، ويساهم في بناء مستقبل الموضة في بلد «يشهد انفجاراً في عدد المواهب»، حسب تعبيره. فقد أصبح وجهاً مألوفاً فيها ليس كمصمم فحسب، بل كمؤثر وفاعل بحكم عضويته الاستشارية في هيئة الأزياء. عندما أُلمح له أن مهمته صعبة بالنظر إلى عدد المصممين، حتى بعد أن تمَت غربلتهم إلى «100 براند سعودي»، يدافع قائلاً: «طبيعي أن تتلقى الهيئة هذا العدد الهائل من الطلبات، لا تتصورين عدد المواهب التي حُرمت طويلاً من أي وسيلة تُمكِنها من التعبير عن قدراتها. والمقصود هنا ليس الموضة وعالم التصميم فحسب، بل شتى الفنون والمجالات من الموسيقى إلى الطهي وغيرهما، وأنا متأكد أن هناك عدداً كبيراً آخر لم نسمع منهم بعد».

هذا الانفجار الإبداعي بنظره ردة فعل طبيعية للانفتاح الذي تشهده المملكة. فـ«رؤية 2030» غيّرت الكثير من المفاهيم، بما فيها التخلص من التابوهات التي كانت تتعلق بتصميم الأزياء.

يتذكر كيف أنه استمات في السبعينات لكي يُقنع عائلته بدخول مجال التصميم. كان هناك رفض وشد وجذب. «الآن لا يواجه هؤلاء قيوداً أو ردود أفعال مماثلة، لأن احتراف تصميم الأزياء لم يعد مشيناً للرجل تحديداً أو تقليلاً من قيمته، كما لم يعد يُنظر إلى ابن البلد كمجرد خياط. فصفة مصمم أزياء كانت إلى عهد قريب قُصراً على من يعملون في بيوت أزياء عالمية. الآن أصبح الباب مفتوحاً لأي شخص يتوسم في نفسه الموهبة أن يحقق فيه مكانة مميزة تدر عليه وعلى اقتصاد البلد إيرادات لا بأس بها».

لكن هذا لا يعني أن التحديات لم تعد قائمة، بل العكس فإن البقاء للأقوى فقط، لأن إلغاء القيود وتوفر دعم الأهل والمجتمع ألغوا أي مبررات يمكن أن يتحجج بها المصمم. «المرحلة الحالية هي أرضية للاختبار والتجارب، بعضها سيصيب، وبعضها سيخيب، لكن في كل الأحوال يبقى هذا (الانفجار الإبداعي) مكسباً للمنطقة ومرحلة طبيعية لا بد وأن تؤدي إلى مرحلة الاحتراف في حال تم التعامل معها بجدية وشغف».

يستشهد هنا بساحة الموضة في لبنان خلال السبعينات، التي لم يكن فيها سوى إيلي صعب، مصمماً وصل إلى العالمية، لكن «لننظر الآن إلى لبنان كم عدد المصممين اللبنانيين العالميين فيه؟... العشرات. إيلي صعب لم يجد الطريق مفروشاً بالورود لكنه ساعد في تعبيده أو على الأقل إعطاء الأمل لغيره بأن الأمر ممكن. وهذا ما يحصل في السعودية حالياً. نعم هناك بعض الحالمين، وهؤلاء موجودون في كل مكان، في لندن وباريس ونيويورك وغيرها، لأن الحُلم من حق الجميع، وهنا يأتي دور هيئة الأزياء ومهمتها الأساسية في انتقاء من تتوسم فيهم الموهبة والنفس الطويل». ثم يستطرد مدافعاً عن فورة الشباب قائلاً: «كنت مثل هؤلاء في يوم من الأيام، أحلم بالنجاح وكانت طموحاتي كبيرة جداً». يتابع ضاحكاً: «وربما غير معقولة، فأنا كنت أحلم أن أصبح بالنسياجا ثاني... تخيلي».

لا بد من الإشارة هنا إلى أن قصة محمد آشي مع كريستوبال بالنسياجا مثيرة وملهمة. فهذا الأخير من أدخله إلى عالم الأزياء وحبّبه فيه. كان ذلك بعد أن شاهد، وبمحض الصدفة، فيلماً وثائقياً بثته محطة الـ«بي بي سي» عن كريستوبال بالنسياجا ضمن سلسلة «العالم السري للهوت كوتور». انبهر بما رآه. أعاد مشاهدة الفيلم أكثر من 20 مرة، وفي كل مرة كانت قناعته تزيد بأن هذا هو العالم الذي يريد أن يخوض غماره ويعيش فيه: «كنت مبهوراً بأناقة زبوناته، أسلوب حياتهن المرفه وتقديرهن لكل قطعة بحيث يتعاملن معها وكأنها تحفة فنية».

تأثير «بالنسياجا» من ناحية الابتكار والإبداع في التفاصيل يسكنه دائماً (محمد آشي)

كان الفيلم نقطة التحول في حياته. أثر على مسيرته كما على نظرته وأسلوبه في التصميم. قبل ذلك، كان كأي مصمم شاب يتلمَس طريقه، يتابع ما يقدمه باقي المصممين الكبار ليعمل مثلهم. الوثائقي فتح عينيه على معنى أن تكون مُبدعاً ومبتكراً بالمعنى الصحيح. يتذكر هذه البداية فلا يقسو على نفسه أو ينتقدها، فقط يزيد تعاطفه مع المصممين الشباب. «أرى أنه لا بأس من المرور من هذه التجربة شرط أن يصقل المصمم موهبته بالدراسة والمثابرة. فحتى الجراح لا يكتسب المهارة بين ليلة وضحاها. من هذا المنظور أنا جد متفائل أنه ستكون لدينا في السعودية، وفي القريب أسماء متألقة على المستوى العالمي». يضيف ضاحكاً: «خوفي أنهم سينافسونني».

وحتى عندما أشير إلى أن بعضهم ربما لا يزال يميل إلى التصاميم التراثية، يرد سريعاً وكأنه كان يتوقع هذه الملاحظة «هذا أيضاً طبيعي لأنهم يتكئون على ما يعرفونه جيداً ويمنحهم الشعور بالأمان. أنا أيضاً مررت بالتجربة نفسها، مع العلم أني درست في معاهد عالمية، وتخرجت منها وعشت في الغرب. عندما دخلت مجال الأزياء أول مرة، صمَمت قفاطين عربية لأنها كانت لا تزال تسكن خيالي ووجداني وتربطني بجذوري. مع الوقت تطورت نظرتي وأسلوبي. وأرى أن هذه بداية يمر منها كل من يأتي من بيئة تتمتع بإرث ثقافي وتاريخي قوي. أنا متأكد أن التطور آت بفضل الإمكانات المتوفرة لهم والمحاولات الجادة لتأسيس بنية تحتية».

بيد أنه بالرغم من احترامه للجذور والموروثات الثقافية، يرفض الاستكانة إليها كلياً. نعم قد تكون عكازاً مفيداً في أول المشوار، لكن لا يجب الاعتماد عليها في كل المراحل.

من عرضه لـ«ربيع وصيف 2023»

تشكيلته الأخيرة كانت تفوح منها رائحة نوستالجيا خفيفة للماضي، يشرحها قائلاً: «هي كذلك فعلاً من ناحية فكرتها فقط، كوني استلهمت شاعريتها من رواية عن الحب والحنين لفيرجينيا وولف، حوّرتها هنا لتحكي قصة عاشقين من عالمين متناقضين. واحد يعيش في باريس والثاني في المريخ. أما من ناحية الأزياء، فإن كل ما فيها يصرخ بروح العصر والعملية التي يتطلبها الانتقال من مكان إلى آخر بسهولة وأناقة، بدءاً من الخطوط إلى الأقمشة».

لأن تشكيلته رحلة من باريس إلى المريخ فقد أخذت الأقمشة شكلاً جديداً (محمد آشي)

أكثر ما يلفت الاهتمام في هذه التشكيلة أنه وبعد أن عوّدنا على الأحجام الهندسية والتفاصيل المبطنة بين الثنيات والطيات، يتبنى فيها أسلوباً تغلب عليه تصاميم قريبة من الجسم. تُحدده تارة وتعانقه تارة أخرى. يقول إنه كان تغييراً مفروضاً عليه بعد انتقاله إلى باريس منذ حوالي 6 سنوات تقريباً، حيث كان لا بد من مواكبة متطلبات السوق حتى يضمن استمراريته في عالم تعصف به رياح التغيير. فزبونات كريستوبال بالنسياجا في الخمسينات مختلفات تماماً عن زبونات اليوم «كما أن إعجابنا بإطلالات ماري أنطوانيت من القرن الثامن عشر أو تسريحاتها لا تعني أن المرأة تريد أن تتبناها في حياتها المعاصرة. نعم لم يخطر ببالي من قبل تصميم فستان محدد على الجسم. كنت دائماً أريد أن أرى المرأة ملفوفة بأمتار من الأقمشة المترفة تتمايل فيها الطيات والطبقات المتعددة، لكن زمننا لم يعد يتطلب كل هذه التفاصيل، وجيل (زي) يريد تصاميم أنيقة تحمل بصمات مميزة وفي الوقت ذاته عملية».

من يسمع محمد آشي يتأكد أنه لا يشبه باقي المصممين. ومن يرى أسلوبه يعرف أنه كما ترك عطره على الساحة العالمية لا بد وأنه سينشر عبقه في بلده الأم. تتأكد أيضاً أن هالته التي نسجها بخيوط الحب والتعاطف مع الغير لا يضاهيها سوى قدرته على قراءة تغيرات العصر ومواكبتها من دون تسرّع أو اندفاع.


مقالات ذات صلة

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

لمسات الموضة حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

مع اقتراب نهاية كل عام، تتسابق المتاجر والمحلات الكبيرة على التفنن في رسم وتزيين واجهاتها لجذب أكبر نسبة من المتسوقين إلى أحضانها.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق في عقدها الثامن اختار إريك جدّته «مانيكان» تعرض تصاميمه (حساب المُصمّم على إنستغرام)

إريك ماتيو ريتر وجدّته هدى زيادة... جيلان يلتقيان على أجنحة الموضة

معاً؛ زوّدا عالم الأزياء بلمسة سبّاقة لم يشهدها العالم العربي من قبل. التناغُم بينهما لوّن عالم الموضة في لبنان بنفحة الأصالة والشباب.

فيفيان حداد (بيروت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)
الاقتصاد صورة تُظهر واجهة متجر دار الأزياء الإيطالية «فالنتينو» في وسط روما (أ.ف.ب)

للمرة الأولى منذ الركود العظيم... توقعات بانخفاض مبيعات السلع الفاخرة عالمياً

من المتوقع أن تنخفض مبيعات السلع الفاخرة الشخصية عالمياً في عام 2025 لأول مرة منذ الركود العظيم، وفقاً لدراسة استشارية من شركة «بين».

«الشرق الأوسط» (روما)
لمسات الموضة في الدورة الأولى من رئاسة زوجها اعتمدت ميلانيا عدة إطلالات أنيقة كان لدار «دولتشي أند غابانا» نصيب كبير فيها (خاص)

هل حان الوقت ليصالح صناع الموضة ميلانيا ترمب؟

قامت ميلانيا بالخطوة الأولى بدبلوماسية ناعمة بإعلانها أنها امرأة مستقلة ولها آراء خاصة قد تتعارض مع سياسات زوجها مثل رأيها في حق المرأة في الإجهاض وغير ذلك

جميلة حلفيشي (لندن)

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)
حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)
TT

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)
حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)

مع اقتراب نهاية كل عام، تتسابق المتاجر والمحلات الكبيرة على التفنن في رسم وتزيين واجهاتها لجذب أكبر نسبة من المتسوقين إلى أحضانها. بيوت الأزياء الكبيرة هي الأخرى تتسابق على حجز مكان رئيسي لها على هذه الواجهات لتسليط الضوء عليها وعلى إبداعاتها. فما لا يختلف عليه اثنان أن هذه الواجهات والزينة، بما في ذلك الأنوار التي تُزين الشوارع والساحات، تعد نقطة جذب سياحي تعتمد عليه لندن كل سنة. عادةً ما تبدأ الحجوزات قبل فترة طويلة.

وبما أن محلات «هارودز» معلمة ووجهة سياحية، فإن فرصة العرض فيها لا تقدر بثمن، وبالتالي فهي لا تمنح الفرصة لأيٍّ كان لاحتلال واجهاتها. لكنَّ «لورو بيانا» ليست أياً كان؛ فهي من أهم بيوت الأزياء العالمية حالياً. تصاميمها المترفة تجذب النظر وتحفز حركة البيع في الوقت ذاته، بدليل أنها من بين بيوت أزياء تعد على أصابع اليد الواحدة لا تزال تحقق الأرباح رغم الأزمة التي ألمَت بكثير من الأسماء الشهيرة.

احتلت «لورو بيانا» كل واجهات محلات «هارودز» بمناسبة الأعياد والاحتفالات (لورو بيانا)

هذا العام، أُتيحت لها الفرصة لتجعل 36 نافذة عرض في «هارودز» ملكها الخاص. لم يكن الأمر سهلاً. بدأت العمل عليه منذ أكثر من عام تقريباً ليأتي بصورة تسلط الضوء على تاريخها وإرثها وأيضاً مهارات حرفييها بشكل جيد، وهو ما مثَّلته «ورشة العجائب» Workshop of Wonders. فكرتُها استعراضُ خبراتهم في غزْل الصوف وأساليبهن الخاصة في المزج بين الحرفية والفن. هنا سيستمتع الناظر بقصة تُسرد من زاوية مدهشة تتبع رحلتهم، من المراعي و طرق عيش الخرفان والغزلان الخرفان وكيفية الحصول على المواد الخام وصولاً إلى المنتج النهائي.

ورشة العجائب

تتميز بديكورات متحرّكة ميكانيكية تُجسّد فكرة مسرح الدمى من خلال الآليات التي تحركها وراء الكواليس. أغلبها من الخشب لتعزيز الطابع اليدوي التقليدي. فهذه الورشة تعكس فكرة مفادها أنّ الطبيعة نفسها ورشة من الجمال والتفرد والكمال.

الجنود المجهولون أو الحرفيون أخذوا نصيبهم من الاحتفال باستعراض مهاراتهم أمام الضيوف (لورو بيانا)

تأتي التصاميم هنا مستوحاة من روح عشرينات القرن الماضي، وهي الحقبة التي أبصرت فيها الدار النور، ممّا يعزز الشعور بالعراقة من خلال استخدام القوام الخشبي والألوان الدافئة الممزوجة بلمسات من الذهب المطفي. تملأ المشهد، دمى مرسومة ومحاطة بسحب من الصوف المنسوج يدوياً. هنا أيضاً يُكشف الستار عن مجتمعات الحرفيين الماهرين Masters of Fibers والأماكن الساحرة حول العالم، حيث يعيش الماعز، والألباكا، وحيوان الأيل، والغزال. هنا كل شيء يتأرجح بين الواقع والخيال،

وخلال هذه الفترة، ستفتتح الدار متجرَين جديدَين في «هارودز»؛ الأوّل مخصّص لأزياء الصغار، والآخر للديكور المنزلي، إلى جانب منتجات وتصاميم حصرية تحتفي بتاريخ الدار وبموسم الأعياد.

الواجهة والنوافذ

الجميل في تصميم الواجهات أن التركيز لم يقتصر على عرض تصاميمها بشكل يُغري المتسوقين، بقدر ما جرى التركيز على أخذهم في رحلة ممتعة إلى أماكن بعيدة، لتُعرفهم من أين تُستورد الألياف النادرة قبل أن تتحول إلى رزمٍ قطنية ثم إلى أقمشة فاخرة، يُزيِن بعضها شجرة عيد ميلاد بارتفاع 17 متراً .

... وطبعاً لا تكتمل الإطلالات من دون حقائب تعكس اهتمام الدار بالتفاصيل (لورو بيانا)

صُممت كل نافذة بدقة لتحاكي تحفة فنية تروي مرحلة من تاريخ «لورو بيانا» وقصةً نجمُها الرئيسي أليافٌ وأنسجة خفيفة على شكل رزم تتحرك على حزام ناقل، لتتحوّل إلى قماش من خلال آلية مذهلة، وفي النهاية تتّخذ شكل شجرة عيد ميلاد بطول 17 متراً مزينة بالأقمشة وحلة العيد الفريدة.

نوافذ أخرى، تسرد فصولاً تتناول مواقع ومجتمعات «الحرفيين الماهرين» Masters of Fibers من منغوليا وأستراليا وجبال الأنديز وما بعدها، وصولاً إلى إيطاليا حيث يتم تحويل الألياف والمواد الخام إلى قطع لا تقدر بثمن.

منها ما يحكي قصص صوف الفيكونيا، ونسيج بيبي كشمير، وصوف الملوك وقماش «بيكورا نيراPecora Nera® وغيرها. النوافذ المخصّصة لـصوف الملوك مثلا تركز على عملية البحث عن أفضل المراعي الخضراء لخراف المارينو، وهي عملية تعود بنا إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين وصل القبطان جيمز كوك إلى نيوزيلندا وأستراليا، حاملاً معه خراف المارينو لأول مرة. لدهشة الجميع، وجدت هذه الخراف مكانها المثالي، حيث حظيت بعناية مكثفة على يد المربّين المحليين ومنحتهم هذه الخراف بدورها أجود أنواع الصوف في العالم. أمّا نافذة Pecora Nera® فتروي رؤية وإبداع المزارعة النيوزيلندية فيونا غاردنر التي ركّزت على الخراف ذات اللون الداكن تحديداً. صوفها الثمين يتحوّل إلى ألياف طبيعية لا تحتاج إلى صبغات.

قطع حصرية لـ«هارودز»

احتفالاً بالذكرى المئوية للدار وأسلوبها المتميز بالفخامة الهادئة، تم طرح مجموعة جاهزة للرجال والنساء، حصرياً في «هارودز». كان من الطبيعي أن تستمد إيحاءاتها من الأناقة البريطانية الكلاسيكية مطعَّمة بلمسات مستوحاة من الفروسية وأنماط المربعات، إضافةً إلى اللون الأخضر الأيقوني الخاص بـ«هارودز» و ألوان أخرى مستوحاة من أجواء العيد، مثل الأحمر والأبيض.

لم تستسهل «لورو بيانا» عملية تزيين 36 نافذة وكانت النتيجة مرآة لتاريخها وإرثها (لورو بيانا)

الإطلالات المسائية للمرأة في المقابل تتميز بفساتين طويلة من الحرير المطرّز يدوياً وفساتين محبوكة بقصات عمودية، إلى جانب قمصان ناعمة مصنوعة هي الأخرى من الحرير تم تنسيقها مع سراويل واسعة بسيطة بعيدة عن التكلّف. تضيف أحذية الباليه المسطحة المصنوعة من المخمل الأسود، والصنادل ذات الكعب العالي المطرزة بزهور الشوك الذهبية، لمسة نهائية راقية.

من جهته يتألق رجل «لورو بيانا» في كل المناسبات الرسمية والاحتفالات الموسمية، بفضل التشكيلة الواسعة من البدلات الرسمية.

متجران مؤقتان

سيجد زائر «هارودز» كل ما يطمح إليه من أزياء أو إكسسوارات مصنوعة من أجود أنواع الألياف (لورو بيانا)

بهذه المناسبة خصصت الدار متجرَين مؤقّتَين من وحي الأعياد. الأول في الباب 6، ويشمل عناصر مستوحاة من ورش العمل والأقمشة المطرّزة. تتوسطه طاولة عمل من الجلد مضاءة بمصباح علوي، بالإضافة إلى عجلة صناعية كبيرة تعرض المنتجات الجلدية والإكسسوارات. يمكن للزوّار هنا العثور على تشكيلة حصرية من ربطات العنق والقبّعات المصنوعة من الكشمير الفاخر للأطفال، والصوف، وقماش التويل الحريري بألوان هادئة أو مزيّنة بزخارف تحمل رموز الدب وزهرة الشوك وغيرها. أما للمنزل، فتتوفر تماثيل خشبية للماعز والألباكا، بالإضافة إلى نسخ محشوة منها على قواعد خشبية. وقد جرى تخصيص زاوية خاصة لإدخال اللمسات الشخصية على وشاح Grande Unita الأيقوني، حيث يمكن للعملاء تطريز الأحرف الأولى من أسمائهم.

استلهمت الدار الإيطالية كثيراً من التصاميم من الأجواء البريطانية العريقة... من الأشكال والقطع إلى الألوان (لورو بيانا)

أما المتجر الثاني بباب 9، فخُصّص لفنّ تقديم الهدايا وتجربة حصرية يمكن حجزها لمزيد من المتعة. تبدأ بتعريف الضيوف بعالم الحرف اليدوية، من خلال أشجار الأعياد المغلّفة بالصوف والكشمير، وحيوانات محشوة على شكل الماعز، والألباكا، وحيوان الأيل، والغزال، بالإضافة إلى رؤوس أقلام على شكل حيوانات. وتتجلّى بهجة موسم الأعياد في كرة الثلج المصنوعة من الخشب والزجاج التي تضم ماعز الكشمير محاطاً بحبّات الثلج المتطايرة. يستضيف هذا المتجر أيضاً ورشة عمل تُتيح للضيوف اختبار مهاراتهم في الحرف اليدوية أو تعلّم كيفية صنع زينة العيد وتغليف نماذج خشبية بالصوف.

تستمر فعاليّات Workshop of Wonders حتّى الثاني من يناير (كانون الثاني) 2025، وتُشكّل جزءاً مهماً وأساسياً من احتفالات الدار بعيدها المئة حول العالم، وبذكرى تأسيسها عام 1924 على يد بييترو لورو بيانا.