مع استمرار العمليات العسكرية لقوات النظام، وقصف المناطق الخارجة عن سيطرته، ومن بينها مواقع أثرية مهمة، بشكل متكرر، ولجوء العائلات النازحة إلى بعضها في المناطق الآمنة نسبياً، في شمال غربي سوريا، باتت هذه المواقع مهددة بالاندثار والتشويه أكثر من أي وقت مضى. وتُشكل مناطق مجليا، وسرجيلا، وبعودا، ووادي مرتحون، وبترسا، والمذوقة، والصومعة، ودير سوباط، والبرج، والقهوة، ومواقع أثرية أخرى مهمة في منطقة البارة، على بُعد 35 كيلومتراً إلى الجنوب من محافظة إدلب، والتي تخضع حالياً لسيطرة المعارضة، جزءاً من قائمة مواقع «اليونيسكو» للتراث العالمي أو «القرى القديمة التاريخية في شمال سوريا»، وتواجه منذ عام 2018 قصفاً جوياً روسياً، وبرياً لقوات النظام، ما أدى إلى تشويه عدد من معالمها وتهدم عدد من الأبنية والصوامع التاريخية التي تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والعربية، وفقاً لأبناء المنطقة وناشطين.
ويتحدث محمد (48 عاماً)، وهو أحد السكان الحاليين في منطقة البارة، بحزن وأسى، عمّا شهدته هذه المنطقة والمواقع الأثرية التي تحيط بها، «من قصف نفذته قوات النظام، وسلاح الجو الروسي، على مدار أكثر من 10 أعوام، على عديد من المواقع والأبنية الحجرية، ومن بينها الصوامع والمطاحن ومعاصر الزيتون والعنب والأبنية التاريخية فيها، التي كانت وجهة للسياح الأجانب من كل بقاع الأرض قبل اندلاع الحرب، لتبدو الآن حزينة وشاحبة ومشوهة». ويضيف: «كنا سابقاً قبل اندلاع الحرب، نعتني بالأعمدة والأبنية التاريخية والأثرية التي تنتشر بين بساتين الزيتون والعنب التي نملكها أباً عن جد، كما نهتم بأشجارنا، وهذا ما شهدت به عشرات المجموعات السياحية من دول غربية عدة، كما كرّم عددٌ من المنظمات الدولية المتخصصة بحماية الآثار التاريخية على مدى سنوات عديدة، أهالي منطقة البارة، لما يبذلونه من جهد وعطاء للمحافظة على تلك الآثار».
ويقول أحمد الإدلبي، وهو ناشط ميداني في ريف إدلب، إن «من أكثر المواقع الأثرية التي تعرضت للقصف من قبل قوات النظام وميليشياته في بلدة البارة، هي دير سوباط أو دير الضباط البيزنطي، الذي يتميز بكثرة الأعمدة، والمدافن، والصومعة المتميزة بهندسة بناء جميلة، ونقوش متنوعة، وزخارف رائعة، كما واجهت آثار وادي مرتحون ومغارة الدرة، إضافة إلى مغارة البركة، التي تحيط بها مجموعة الأعمدة الأثرية، قصفاً جوياً روسياً رهيباً أدى إلى تشويه أجزاء كبيرة من معالمها، تحت ذرائع مختلفة». ويضيف: «منذ نهاية عام 2018 بدأت قوات النظام وميليشياته بالتقدم والسيطرة على أجزاء واسعة في ريف إدلب الجنوبي وعلى منطقة شنشراح الواقعة بمحيط مدينة كفرنبل من الجهة الشمالية، وهي تتعرض الآن لأبشع عمليات التخريب بسبب التنقيب عن اللقى الأثرية فيها من قبل الشبيحة وعناصر النظام... كما تعرضت مناطق مجليا، وبعودا، ووادي مرتحون، وبترسا، والمذوقة، والصومعة، ودير سوباط، والبرج، والقهوة، ومواقع أخرى بينها قصور ملكية تاريخية في منطقة البارة، لقصف شبه يومي، ما أدى إلى تشويه المعالم الأثرية بنحو 30 في المائة، غير أن منطقة سرجيلا الواقعة إلى الشرق من بلدة البارة، والتي تتميز بجمال آثارها ولوحاتها وتصاميمها المعمارية الضخمة، وكنائسها وقصورها الملكية، تنال القسط الأكبر من القصف والاستهداف بالرشاشات الثقيلة نظراً لوقوعها على خط التماس الفاصل بين قوات النظام وفصائل المعارضة، ولا توجد إحصائية دقيقة لنسبة الدمار الذي تعرضت له، بسبب رصدها من قبل قوات النظام واستهداف أي حركة فيها».
وفي السياق ذاته أيضاً، حذر ناشطون سوريون معارضون، من «تغيير ملامح المواقع والمدن الأثرية في شمال غربي سوريا، بعد أن باتت ملاذاً شبه آمن للنازحين من مناطق مختلفة في سوريا، للإقامة فيها».
وعلى الطريق التي تصل معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا بمدينة حارم شمال إدلب، تنتشر عديد من آثار المدن والأبنية والأوابد التاريخية ومنها «باقرحا ودارقيتا» التي تعود إلى العهد الروماني، في منطقة رأس الحصن، وتتميز بقناطرها الحجرية وكنائسها البديعة والرسوم والنقوش عليها... وتنتشر بين أبنيتها وأعمدتها عشرات الخيام للنازحين، رُبطت أحبالها بالأعمدة الأثرية، وجرى تحريك بعض الأحجار فيها لتلائم إقامة تلك العوائل النازحة. وكذلك في بعض الأبنية الأثرية في منطقتي البردقلي وسر جبلة الواقعتين إلى الشمال من محافظة إدلب بنحو 50 كيلومتراً، في الوقت الذي حوّل عدد من الأهالي أقساماً من الأبنية الأثرية ذات الجدران المتماسكة، إلى مستودعات وحظائر للمواشي، الأمر الذي أثار استياء ناشطين، وجهوا دعوات للجهات الإدارية لوقف هذه الظاهرة الكارثية.
وقال أحد الناشطين في إدلب، إنه «يجب وضع خطة عملية وسريعة لضبط ووقف لجوء الأهالي النازحين إلى الأبنية التاريخية والأثرية، وأيضاً وقف أعمال التجاوز عليها في العمران، وكذلك إحصاء العائلات التي لجأت إليها بشكل عشوائي خلال السنوات الماضية ونقلها إلى مساكن جاهزة، وبعدها إيجاد خطة يجري من خلالها إصلاح ما تم تخريبه أو تشويهه ضمن تلك المعالم الأثرية من قبل متخصصين في الآثار».