يصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، غداً، إلى بكين بصحبة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في زيارة دولة لثلاثة أيام ذات بعدين: ثنائي (فرنسي - صيني) من جهة وجماعي (أوروبي - صيني) من جهة أخرى. وفي الحالتين، سيكون التركيز، إلى جانب المسائل الاقتصادية والتجارية والبيئية، على توجهات السياسة الصينية إزاء الحرب الروسية على أوكرانيا وعلى تحفيز بكين لعدم الانخراط عسكرياً إلى جانب موسكو على الرغم من التقارب بينهما الذي برز بمناسبة زيارة الرئيس شي جينبينغ روسيا قبل أسبوعين.
ويبدو الاتحاد الأوروبي بالغ القلق إزاء احتمال اصطفافٍ صينيٍّ إلى جانب روسيا، حيث يرى الأوروبيون أن الصين تعد «الجهة الوحيدة في العالم القادرة على تغيير مسار الحرب الدائرة في أوكرانيا في هذا الاتجاه أو ذاك». ومن هذا المنطلق، تتكاثر الزيارات الأوروبية إلى بكين التي أخذت تتحول إلى محجة.
ويعد ماكرون ثالث زعيم أوروبي يزور بكين بعد المستشار الألماني في نوفمبر (تشرين الثاني)، ورئيس الوزراء الإسباني الأسبوع الفائت، وثمة خطط لزيارات أوروبية أخرى عالية المستوى، فيما يسعى الطرفان الأوروبي والصيني لتحديد موعد للقمة الأوروبية - الصينية خلال العام الجاري.
ويأمل ماكرون في التوصل مع الزعيم الصيني إلى توافقات توفر مساحة لعمل مشترك من أجل وضع حد للحرب الدائرة على الأراضي الأوروبية، الأمر الذي يدفع الدبلوماسية الفرنسية إلى تكثيف الاتصالات مع الأطراف المعنية، وعلى رأسها أوكرانيا والولايات المتحدة، بحثاً عن نقاط تلاقٍ، فيما يتأهب الطرفان المتقاتلان ميدانياً إلى إطلاق عملية عسكرية واسعة يراد منها تحقيق إنجازات ميدانية يكون لها وزنها على طاولة التفاوض، حين يحين أجلها.
وعلى الرغم من أن المواقف الأميركية والأوروبية تصب في غالبيتها في اتجاه واحد فيما خص الصين، فإن القارة القديمة تريد المحافظة على شيء من الاستقلالية وعدم التماهي مع المقاربة الأميركية التي ترى في بكين منافساً شاملاً منهجياً تتعين مواجهته.
من هنا، أهمية الغوص في محددات السياسة الصينية من الداخل ورؤية بكين للعالم كما تنظر إليه اليوم وكما تريده غداً. من هنا، تبرز أهمية كتاب الباحث والأكاديمي الفرنسي توماس غومارت الذي يشغل منصب مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس الذي يقدم قراءة أوروبية معمقة لمحركات السياسة والطموحات الصينية وللدور الذي يلعبه شي جينبينغ الشخصية الرئيسية التي ستمسك بمقود البلاد لسنوات طويلة.
2049: الصين القوة العظمى في العالم
يذكر المؤلف أن الزعيم الصيني ألقى في يوليو (تموز) من العام 2021 خطاباً بمناسبة الاحتفال بمئوية تأسيس الحزب الشيوعي أكد فيه أن الصين «ستكون أول قوة عالمية بحلول العام 2049»، أي بعد مرور مائة عام على قيام الصين الشعبية على يدي الزعيم ماو تسي تونغ. ويتوقف غومارت عند المحطات الرئيسية التي مر بها مسار جينبينغ المولود في عام 1953 من أب كان رفيق درب ماو تسي تونغ قبل أن تطيح به الثورة الثقافية ويعلَن «عدواً للشعب». وكانت النتيجة المباشرة أن أرسل جينبينغ إلى معسكر لإعادة تأهيله حيث بقي سبع سنوات. وفيما انتحرت أخته الكبرى، ثابر هو ونجح بعد تسع محاولات من الانضمام إلى الحزب الشيوعي بالتوازي مع دراسته التي مكّنته من أن يصبح مهندساً كيميائياً. وداخل الحزب، ترقى سريعاً حين اختاره جينغ بياو، الذي شغل منصب وزير الدفاع لاحقاً سكرتيره الشخصي. ونجح الزعيم الصيني في الدخول إلى المكتب السياسي للحزب في العام 2007 قبل أن يعيَّن نائباً لرئيس الجمهورية ونائباً لرئيس اللجنة العسكري في الحزب، وهو موقع استراتيجي من الطراز الأول. وفي العام 2012 جمع شي جينبينغ كل السلطات الرئيسية بين يديه؛ إذ اختير أميناً عاماً للحزب، ورئيساً للجنة العسكرية المركزية، ورئيساً لجمهورية الصين الشعبية. وفي العام 2018، نجح في إلغاء المادة الدستورية التي تحدد اقتصار الرئاسة على ولايتين، لا بل أصبحت كتاباته المرجع الأول في الصين. ومما يذكره المؤلف أن ما لا يقل عن مائة مليون يتابعون موقعه على الإنترنت، وأنه تمت زيارة التطبيق الخاص به أكثر من مليار مرة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020.
يرى الزعيم الصيني أن الحزب يجب أن يكون المقرر في كل شيء، هو الذي «يهيمن على البندقية» وفق خطاب له في العام 2021 وهو الذي يشدد على ضرورة أن ترتقي القوات المسلحة إلى «المصاف الأولى عالمياً»، وهو الذي جعل من استعادة تايوان إلى «الحضن الأم المهمة التاريخية الثابتة للحزب وللصينيين بشكل عام». في يونيو (حزيران) من العام الماضي، أعلن وزير الدفاع الجنرال واي فنغ، أن الصين «سوف تسحق أي محاولة لتمكين تايوان من أن تبقى مستقلة». وكانت الجزيرة المتمردة تحت الاحتلال الياباني حتى العام 1945.
وبالنظر إلى الانتقادات التي يوجهها إلى الديمقراطيات الغربية، فإنه يؤكد أن «التنظيم السياسي - الاقتصادي للصين هو المثال الذي ستسعى دول العالم خصوصاً الدول في طور النمو، إلى الاحتذاء به». ويرى المؤلف أن الحزب يروّج لتفوق نظامه على الأنظمة الأخرى، أي على الطريقة الليبرالية الغربية. من هنا، مسعى الصين لتقديم نفسها على أنها «الأكثر تقدماً» عبر العالم وبالتالي فإنها تطمح لزعامته.
زعامة العالم بين الصين وأميركا
تشكل الخصومة الصينية - الأميركية المحور الأول الذي ستدور حوله العلاقات الدولية للسنوات والعقود القادمة. ويذكّر المؤلف بأول لقاء أميركي - صيني حصل عقب انتخاب جو بايدن.
الوزير أنتوني بلينكن بدأ الحديث بقوله: «إن ما تقوم به الصين ضد الأويغور، وفي هونغ كونغ، وإزاء تايوان، والهجمات السيبرانية ضد الولايات المتحدة، والقيود الاقتصادية التي تفرضها على حلفائها، من شأنه أن يهدد النظام والاستقرار العالميين». وجاء الرد من نظيره الصيني يانغ جيشي، على الشكل التالي: «إن الولايات المتحدة لا تمثل الرأي العام الدولي، كما أن الغرب لا يمثل العالم، أما الهجمات السيبرانية فإن الولايات المتحدة هي الرائدة».
ويؤكد الكاتب أن واشنطن تتخوف من أن تشكل الصين تهديداً لهيمنتها العالمية وهي التي تطالب بقلب صفحة الأحادية القطبية والتوصل إلى عالم متعدد الأقطاب. وبرأيه، فإنه يصعب فهم طموحات الصين اليوم إلا على ضوء التقدم المبهر الذي حققته في العقود الأربعة المنصرمة على الصعد كافة.
وتُبيّن التوقعات الإحصائية أن الناتج الخام الصيني في العام 2025 سيصل إلى 36 ألف مليار دولار مقابل 28 ألف مليار دولار للولايات المتحدة. ويتعين مقارنة هذين الرقمين مع ما كانا عليه في العام 2005 حيث كان الناتج الأميركي 13 آلاف مليار والصيني 6500 مليار دولار. ولأن الطرف الأميركي ينظر بقلق إلى تقدم الصين، فإنه يركز على استمرار تفوقه العسكري، وهو ما تعكسه الموازنة الدفاعية الأميركية للعام 2021 التي بلغت 801 مليار دولار مقابل 291 مليار للصين. إلا أن نسبة ارتفاع الأخيرة من عام إلى عام تتفوق على منافستها الأميركية.
كذلك يشدد الكاتب على جهود الصين لتطوير قواتها البحرية وبناء أكبر عدد من حاملات الطائرات لتتمكن من تشكيل قوة بحرية - جوية تنافس نظيرتها الأميركية بل تتغلب عليها. ويعود الفضل في ذلك إلى الأميرال ليو هواكينغ الذي يعد «أب» البحرية الصينية الذي ركز على بناء قوة من الغواصات تتمكن من منع الأسطول الأميركي من الاقتراب من المياه الصينية أو ما يحاذيها.
يرى الكاتب أن إبعاد الحضور العسكري الأميركي من منطقة الهندي - الهادئ يشكل «المرحلة التي لا بد منها لقيام نظام جديد سيكون عنوانه خروج القوات الأميركية من شبه الجزيرة الكورية».
ويسرد الكاتب نقاط الارتكاز التي تستند إليها بكين لهذا الغرض من التحالف مع باكستان الذي مكّنته من الحصول على السلاح النووي من خلال شبكة العالِم عبد القادر خان. كذلك تشكل روسيا المحور الثاني في الخطة الصينية حيث تحولت روسيا خلال جيلين فقط من وضعية العدو إلى وضعية «أفضل صديق»، حيث يعزز الطرفان اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً «تدريبات مشتركة» والعمل معاً على الصعيد الدبلوماسي من خلال منظمة «بريكس» ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها من التجمعات الإقليمية، فضلاً عن التنسيق بينهما في الجمعية العامة ومجلس الأمن. كذلك ترفد الصين صعودها العسكري بدبلوماسية نشطة لتأليب الدول الحليفة والتأثير على المنظمات الدولية ولكن أيضاً بمبادرات أساسية لعل أبرزها مبادرة «الطريق والحزام». ففي المنتدى الثاني لـ«طرق الحرير»، نجحت بكين في جمع 37 رئيس دولة وحكومة. ووفق مقاربتها، فإن ذلك يُفترض أن يُفضي إلى مواقف مشتركة داعمة للصين في المؤسسات الدولية لتقويض نفوذ الولايات المتحدة والقوى الغربية معها. وفي السياق عينه، تركز الصين على دول الجنوب من خلال مبادرات اقتصادية وسياسية ومالية متنوعة كما في أفريقيا مثلاً.
خمس أولويات صينية رئيسية
يؤكد غومارت أن الزعيم الصيني لم يعد يتخوف من التعبير عن طموحات بلاده «النهائية» ولا يتردد في تأكيد الدور الطليعي للحزب على بقية مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. وأخيراً لم يعد يكتفي بالنهج الخطابي الآيديولوجي، بل يعمل على «تغيير النظام العالمي من خلال مبادرة الطريق والحزام». ويؤكد المؤلف أن للصين في الوقت الحاضر خمس أولويات رئيسية؛ أولاها داخلية وعنوانها تعزيز اللُّحمة الآيديولوجية للصين من خلال تعزيز موقع ودور الحزب الشيوعي. وثانية الأولويات ضم تايوان لأسباب تتعلق بـ«الشرعية التاريخية» ولأن تايوان تمثل «النموذج الديمقراطي المعاكس» للصين وعلى الطراز الغربي. وثالثة الأولويات تسريع تعزيز القوات المسلحة، وهو يدعو، في السنوات الأخيرة، إلى غرس «روح المقاومة والتأهب للحرب» في نفوس الصينيين. ورابعة الأولويات تتمثل في توفير وتأمين مصادر الطاقة التي تستوردها الصين من عدة مناطق في العالم (الخليج، وروسيا، وأفريقيا...). وآخر الأولويات تحقيق التقدم التكنولوجي في الميادين كافة والتفوق على الولايات المتحدة الأميركية. وعلى ضوء ما سبق، ووفق القراءة التي يقدمها المؤلف، فإن غرض الصين لم يعد خافياً، وبالتالي فإن ردة الفعل الأميركي تندرج في سياق ما تسمى «عقدة توسيديد»، الفيلسوف والمؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس ما قبل الميلاد، وقد رأى أن أحد أسباب الحرب شعور قوة مهيمنة بأن قوة أخرى تسعى للحلول مكانها. فهل هذا يعني أن الصين والولايات المتحدة متجهتان إلى المواجهة؟ الجواب في القادم من السنوات والعقود.