ما هي التحفة الفنية؟
هناك صنف من الثقة، سخية وإنما خاطئة، تلك التي نوليها الأعمال الفنية الكلاسيكية. لقد اجتازوا «اختبار الزمن»؛ لقد هزموا شكوك الموضة، وكشفوا عن بعض العظمة الداخلية التي لا يمكن لأحد الاختلاف عليها. ننظر إلى منحوتة «فينوس دي ميلو» ونرتجف، تماماً كما لو كنا نشاهدها للمرة الأولى منذ ألفي عام مضت؛ ونستمع إلى سيمفونية بيتهوفن التاسعة ونلتقط أنفاسنا، من النوتة الموسيقية نفسها التي عُزفت في فيينا عام 1824.
«ساكبة الحليب» من معرض «فيرمير» لمتحف رايكس في أمستردام (نيويورك تايمز)
على مدى نطاق الرسم الأوروبي، قد لا تكون هناك حالة أكثر إرباكاً من الفنان يوهانس فيرمير (1632 - 75). كان مقيماً في مدينة «ديلفت» خلال حياته، وكان فنه يُباع، لكن بعد قرنين من وفاته، لم تجذب صوره الصغيرة الصامتة لنساء يقرأن الرسائل أو يسكبن اللبن أي اهتمام على الإطلاق. عندما ظهرت «الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» في المزاد سنة 1881، لم تجلب سوى غيلدرين اثنين فقط (غيلدر: العملة الهولندية). الآن فيرمير يوقف حركة المرور، ويحول مسار الطائرات.
«الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» من معرض «فيرمير» لمتحف رايكس في أمستردام (نيويورك تايمز)
ولعلك تتساءل: ذلك السطوع، وذلك الهدوء الداخلي، كيف يمكن ألا يوقفوا قلوب كل الناس كما أوقفوا قلبي؟
افتتح أكبر معرض لفيرمير أمام الجمهور يوم الجمعة الماضي في متحف «رايكس ميوزيام» هنا في أمستردام. ومن المؤكد أن هذا المعرض سوف يدخل التاريخ بوصفه المعرض الحاسم لهذا الفنان، الذي لن يتكرر أبداً. وقد انضم إلى مقتنيات المتحف الخاصة، بما في ذلك لوحة «ميلك مايد» (ساكبة الحليب) الواضحة للغاية ولوحة «الشارع الصغير» الهادئة، ما يزيد على ثلاثة أرباع من أعماله الكاملة الباقية على قيد الحياة. بناءً على دليل مبيعات التذاكر المسبقة (أكثر من 200 ألف تذكرة بيعت)، لم يُسجل أي تراجع يُذكر في صعود فيرمير من النسيان إلى الشهرة العارمة. كنا دائماً ما نقع أسرى تعويذاته الصامتة — في التفوق البلوري لمشاهده الفنية الصغيرة ودراسات أساليبه في الرسم، تلك التعديلات والتفاصيل الحادة والضبابية التي تحول الألوان الزيتية ضوءاً.
لوحة «الجغرافي» من معرض «فيرمير» لمتحف رايكس في أمستردام (نيويورك تايمز)
المعرض باسم «فيرمير»، ومن العنوان يتسم هذا المعرض بالثقة المذهلة والتأني العميق. ولأن نُطلق عليه صفة الندرة يعني الإقلال كثيراً من شأنه. فقد استغرق تنظيمه سبع سنوات من الدبلوماسية. كان الحصول على القطع المُعارة بهذه القيمة الكبيرة مهمة مستحيلة بالفعل قبل عام 2020 — لم يكن هناك متحف يملك لوحات لفيرمير يستطيع التخلي عنها إلا إذا كان الطلب قانونياَ بحق — وأسفر الوباء والغزو الروسي لأوكرانيا عن زيادة التكاليف والمحن اللوجيستية.
في حقيقة الأمر، العرض مثالي تماماً، ومتقن من حيث النقاش، ونُظم بوتيرة بارعة، وواضح وغير ملوث مثل الضوء المتدفق من خلال نوافذ مدينة ديلفت.
وفي صالات العرض الإضافية شعرت بشيء من القرب لفهم الاستحواذ الشديد لهذه الصور الماسية على الجمهور المعاصر، إنها لا تزال أقوى تأثيراً حتى في وقت تكاثر صور الغيغابيكسل.
نفدت كل تذاكر معرض «فيرمير» لمتحف رايكس في أمستردام (نيويورك تايمز)
هنا في متحف رايكس، تتألق تلك الـ28 لوحة صغيرة إلى الأصغر حجماً متوزعة عبر 10 صالات للعرض. ويحيط بكل صورة حاجز بسيط شبه دائري، مما يسمح بالتفحص الدقيق، وتفريق الحشود أيضاً. ولما بعد ذلك، وبعض النصوص الصغيرة، لا شيء هنالك. لا توجد أعمال مقارنة، ولا توجد مقاطع فيديو تشتت الانتباه. حتى المقاعد تتواجد بعيداً على جوانب الجدران. يستمر العرض ببطء، ومن دون صوت؛ إذ يمتلئ فراغه بالتفاصيل، ويبدو الصغير اللامتناهي في الشعور بالاتساع اللامتناهي.
عُزلت العديد من الصور في غرفهم الخاصة — بما في ذلك لوحة «ساكبة الحليب»، التي يبلغ طولها 18 بوصة فقط. هنا، في هذه اللوحة الصغيرة لخادمة المطبخ التي تصب الحليب على ما هو على الأرجح عصيدة الخبز، يمكنك أن ترى كل قوة وإمكانات فيرمير. في نظرتها المركزة، في الصدرية الجلدية المتواضعة، تتماسك كلها من خلال ضربات الطلاء الصلبة غير الممزوجة. الدبابيس شبه المنقطة الأولية التي تُشكل لفائف الخبز، تبعد كل البعد عن «الطبيعة» التي لا نزال ننسبها إلى أسلوبه. في ذلك الفن الهولندي الدقيق والمثالي في الوصف، وصولاً إلى المسامير المطروقة على جدار المطبخ وبلاط ديلفت الأزرق الصغير الممتد على طول الأرضية. في الضوء، قبل كل شيء، الذي جعله فيرمير واضحاً من خلال الانحلال الناعم للتفاصيل، من الخلفية إلى المقدمة، والتي نسميها على نحو غير معتاد «التصوير الفوتوغرافي».
كما هو الحال في أهم القطع المُعارة هنا، فإن لوحة «الفتاة التي تقرأ رسالة في نافذة مفتوحة»، المستعارة من دريسدن، مُنحت أيضاً معرضها الخاص كي تُظهر عودة لافتة للنظر. تلك واحدة من أول المشاهد الفنية العظيمة لفيرمير، بعد بعض سنواته الأولى المهملة من الرسم الديني والأسطوري.
امرأة شابة تقف في الصورة، ورأسها منحنٍ قليلاً. نرى انعكاس صورتها في ألواح النافذة المفتوحة، تبدو مذهلة ومنشغلة. كما نرى أيضاً في اللوحة سجادة شرقية، ولمعان وعاء فاكهة صيني، وتجاعيد ستارة معلقة. على مدى 250 عاماً أو أكثر، بدا الجدار الخلفي فارغاً - لكن في عام 2021، أزالت أعمال الترميم طلاءً زائداً لتكشف عن صورة لإله الحب كيوبيد: واحدة من لوحات فيرمير المتعددة داخل اللوحة الأصلية. يبدو الآن أن الرسالة هي رسالة حب. كما أن هذه اللوحة هي رسالة حب أيضاً.
يظهر الكيوبيد نفسه في خلفية لوحتين أخريين هنا (إضافة إلى لوحة رابعة، غير مُعارة)، رغم أنه لم يُرسم بالطريقة نفسه قط. كان فيرمير دائماً مُختلقاً، ومُبدعاً؛ إذ أخفت قوته الحادة في الوصف البصري مدى تعمّده في بناء مشاهده الصامتة. من اللوحات المفتقدة في هذا المعرض لوحة «فن الرسم» 1668، التي يمتلكها متحف «كونستوريسز» في فيينا ورفض إعارتها للمعرض، رغم أن الكتالوج نفسه يعترف بأنها من أهم الأعمال الفنية لفيرمير. كما حجبت متاحف المتروبوليتان، واللوفر، والملك تشارلز بعضاً من اللوحات أيضاً. (فمن اللوحات الغائبة عن المعرض لوحة «الحفلة الموسيقية» التي تُصور ثلاثة موسيقيين مُصورين من مسافة بعيدة، رغم أنك إذا كنت تعرف مكانها يرجى الاتصال بمكتب التحقيقات الفيدرالية! فلم يشاهدها أحد منذ عام 1990، عندما انتزعت من على جدار متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في بوسطن).
عندما أعيد اكتشافه في منتصف القرن التاسع عشر، بدا فيرمير أكثر من مجرد فنان قديم تعرض للتجاهل. وبدا أن لديه ما يقوله بصفة خاصة لأوروبا الساعية نحو الحداثة، لا سيما في حيله البصرية الحادة إلى الضبابية، والاقتطاعات غير التقليدية التي تجعل لوحاته، بالنسبة للمشاهدين آنذاك وحتى الآن، تبدو «حقيقية» كمثل الصورة الفوتوغرافية.
سحرت تلك البراءة الكاذبة الكثيرين في القرن العشرين، والذي تحول إلى فيرمير من أجل الشفافية، والنظام، والانسجام. غير أن الجمال والهدوء وحدهما ليسا كافيين لتفسير شدة الهوس بلوحات فيرمير اليوم، وأعتقد أن جاذبيته تكمن الآن في موضع آخر. وتكمن، أكثر من ذلك بكثير، في قدرة اللوحات على التباطؤ، وكيف أن الفرق بين حقيقتها الملموسة وبنائها الواضح لا يمكن تمييزه إلا مع مرور الوقت.
التزم الهدوء وانظر إلى الفتاة ذات الشفتين المزمومتين، قارئة الرسالة بصوت عالٍ في الضوء الخافت. في المنظر الغائم الخالي من الحركة لمدينة ديلفت. تكرس الخادمة كل انتباهها إلى الحليب المصبوب من إبريق خزفي متواضع. لا شيء مهم يحدث، وأيضاً فإن «اللا شيء» صار هو كل شيء الآن.
أصبح فيرمير واحداً من آخر عناصر إزالة الارتباك لدينا من حيث الاستيعاب والوعي. وتزداد أهميته الآن تحديداً لتأكيده بأننا لم نتحول كلياً إلى كيانات مُستقبلة للبيانات، وأننا ما زلنا بشراً، وأننا إذا وجدنا الأستاذ المناسب يمكننا إبطاء الوقت.