كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بالضبط من بعد ظهر الخميس الماضي، عندما وصل ماريو فارغاس يوسا إلى قاعة الأكاديمية الفرنسية في باريس، ليلقي خطاب انضمامه إلى قافلة «الخالدين»، أمام قاعة مكتظة يتقدم فيها الحضور ملك إسبانيا الفخري خوان كارلوس الأول، سليل أسرة بوربون التي منها كان لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا، وابنته الأميرة كريستينا، إلى جانب باتريسيا يوسا، زوجة ماريو السابقة التي كان هجرها وراء حب جارف وهو على أبواب الثمانين من عمره، قبل أن يعود إليها منذ أسابيع قليلة على أبواب التسعين.
كثيرون حملوا على قرار الأكاديمية فتح أبوابها، للمرة الأولى، أمام كاتب مثل صاحب «أحاديث في الكاتدرائية»، لم ينشر سطراً واحداً باللغة الفرنسية، لكن مديرة الأكاديمية، المؤرخة هيلين كارّير، ردّت بأن فارغاس يوسا ساعد الثقافة الفرنسية أكثر من عدد كبير من الكتّاب الفرنسيين، وأنها لا تعرف أحداً يتحدّث أفضل منه عن فلوبير.
ألقى فارغاس يوسا خطابه بفرنسية أنيقة، لكن بلكنة شديدة يصعب جداً على الناطقين بالإسبانية التحرُّر منها، معلناً حبه المطلق لفرنسا التي يعتبرها موطنه الأدبي، رافعاً الرواية فوق كل الفنون السردية، ليؤكد أن «الرواية إما أن تنقذ الديمقراطية، أو تُوارى معها إلى الأبد... لأن العالم لم يخترع شيئاً بعد أفضل من الرواية لصون جذوة الحلم بمجتمع أفضل مِن الذي نعيش فيه، حيث ننعم جميعاً بالسعادة التي تبدو اليوم ضرباً من الجنون المستحيل».
وعندما بدأ يستذكر طفولته وسنوات شبابه الأولى، قال إنه كان يطمح سراً في أن يصبح كاتباً فرنسياً «لكن عندما وصلتُ إلى باريس للمرة الأولى في عام 1959، أدركت أن الفرنسيين قد اكتشفوا الأدب الأميركي اللاتيني قبلي».
ورغم الرهبة التي كانت تخيّم على الاحتفال، لم يستطع فارغاس يوسا إخفاء النشوة العارمة التي كانت تحمله؛ هو الوحيد بين أترابه الأميركيين اللاتينيين الذي جمع كل الأمجاد الأدبية الممكنة، من جائزة «نوبل»، إلى «أكاديمية اللغة الإسبانية»، إلى عضوية «أكاديمية الخالدين»، ومجموعة «لا بلياد» التي لا يوجد فيها من الأحياء غيره، إلى جانب ميلان كونديرا، علماً بأن الأدباء الفرنسيين الثلاثة الأحياء الفائزين بجائزة «نوبل»، باتريك موديانو، ولو كليزيو، وآني إرنو، ليسوا أعضاء في الأكاديمية.
وكان لا بد أن يتحدث عن فلوبير، أحد الأركان الأساسية في مسيرته الأدبية، وفي تشكيل مفهومه للرواية، وعن فيكتور هوغو ورامبو، وعن الأدب الفرنسي الذي قال إنه «كان الأفضل، ولا يزال». ثم تساءل: «ماذا يعني الأفضل؟»، ليجيب: «الأكثر جرأة، والأكثر حرية الذي يبني عوالم شاهقة من النفايات البشرية، ويمدّ حياة الكلمات بالنظام والوضوح، ويتجرأ على الخروج عن القيم السائدة، ويرفض الإذعان للواقع، ويضبط إيقاع أحلام الكائنات الحيّة»، ليضيف: «لم يذهب أحد أبعد من الكتّاب الفرنسيين في السعي وراء هذا الكيان السري الذي يجري في عروق الحياة، أي الأدب الذي هو الحياة الوهمية التي هي الحياة الحقيقية بالنسبة لكثيرين».
الأدب والحرية، الرواية والديمقراطية، كانت محاور أساسية في خطابه الذي أكد فيه أن أفضل الأدب هو الذي يضرم شعلة الحلم بعالم أفضل بين جميع البشر، ويجدد الديمقراطية وما تحمله من طموحات للمجموعات المهمّشة والجائعة.
ولم يكن الاجتياح الروسي لأوكرانيا ليغيب عن خطابه، فتحدث عن مقاومة الأوكرانيين في وجه فلاديمير بوتين، وقال: «كما في الروايات، الضعفاء هنا أيضاً يهزمون الأقوياء، لأن عدالة قضيتهم أقوى بكثير من عدالة أولئك الذين يزعمون القوة». وختم «الخالد» الزائل بنظرة إلى ما وراء الموت، حيث يحلّ الأدب مكان الحياة، ويقوم عالم آخر من القصص المستحيلة التي استوطنت مشاعرنا وأحلامنا على مرّ العصور: «... لا شك في أن تلك ستكون أفضل النهايات؛ فبعد أن تجاوزنا كل التضحيات والعذابات التي تزخر بها الحياة الحقيقية، ليس أفضل من حياة شبيهة بحياة الأبطال والرجال والنساء الذين يعيشون فقط في ذاكرتنا محمولين على الحروف والكلمات».
في اليوم التالي، وبعد نشوة الاحتفال التي كانت ترفرف على «معهد فرنسا» الذي احتضن واضع «المدينة والكلاب»، كان فارغاس يوسا ضيفاً خاصاً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مصحوباً بالملك خوان كارلوس الأول، في قصر الإليزيه الذي كان مقرّ إقامة مدام بومبادور، محظية لويس الخامس عشر، قبل أن يصبح مقر الرئاسة الفرنسية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
ورغم الطابع الخاص للعشاء الذي حرص ماكرون فيه على وجود ملك إسبانيا الفخري الذي يقيم منذ سنوات في أبوظبي بعد تنحيه عن العرش، كانت وسائل الإعلام الفرنسية والإسبانية بالمرصاد، تغمز من قناة صاحب المبادرة، وتتساءل عن هذا التضارب بين مدريد وباريس في التعامل مع العاهل الذي قاد إسبانيا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية من غير أن تُهرق نقطة دم واحدة، قبل أن يقع في بعض الهفوات السلوكية.
وردّت مصادر الإليزيه بتسريبات، مفادها أن للملك خوان كارلوس مكانة عالية جداً لدى ماكرون، وأن الرئيس الفرنسي الشغوف بالتاريخ الأوروبي حريص على التحدث إلى أحد الذين صنعوا هذا التاريخ، فضلاً عن أن ماكرون الشاب كان مولعاً بالأدب وشديد الإعجاب بالأدباء الذين كان يحلم بأن يكون واحداً منهم.
لكن ما لم تقله تسريبات الإليزيه أن الجمهورية الفرنسية التي تفاخر بأنها قامت على قطع رأس النظام الملكي، تعشق الشخصيات والرموز الملكية وتتقمّص سلوكياتها، وتعيش حالة حنين دائم إليها.
«الشرق الأوسط» في حفل دخول فارغاس يوسا «الأكاديمية الفرنسية»
ألقى خطابه بفرنسية أنيقة أعلن فيها حبه لـ«موطني الأدبي»
«الشرق الأوسط» في حفل دخول فارغاس يوسا «الأكاديمية الفرنسية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة