غيّرت الحرب في أوكرانيا معادلات كثيرة قائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، منها ما كان متوقعاً أن يتغير بعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها في العقد الأخير من القرن العشرين، ومنها ما كان يُعتقد أنه سيبقى ثابتاً وبعيداً عن التحولات الاستراتيجية.
إذا كان الزلزال الأوكراني قد حرّك «الصفائح التكتونية» في أوروبا فهذا أمر مفهوم، لأن القارة القديمة هي مسرح هذه الحرب ولا مفرّ من أن تطالها التداعيات بشكل مباشر، فإن المفاجئ هو وصول الآثار العميقة إلى أماكن بعيدة يُفترض أن تكون بمنأى عن التبدلات العميقة.
لكن ها هي اليابان المهزومة في الحرب العالمية الثانية والتي اعتمدت على مدى عقود طويلة سياسة سلمية بعدما سلّمت أمرها للأميركيين، تبدّل عقيدتها الدفاعية وتقرر مضاعفة الإنفاق العسكري ليصل إلى ما نسبته 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة نفسها المعتمدة في دول حلف شمال الأطلسي (ناتو).
يعني هذا القرار في ما يعنيه، تبني طوكيو سياسة الحذر الشديد تجاه جارتها روسيا من جهة، وتعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة وتايوان على «الجبهة الصينية» ومع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على «الجبهة الكورية الشمالية»، من جهة ثانية.
بمعنى آخر، سيكون عام 2023 العام الذي تعود فيه اليابان إلى «العالم الواقعي» للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية...
جنود يابانيون خلال تدريب عسكري (رويترز)
*القرار الياباني
يوم الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) 2022، أعلنت حكومة فوميو كيشيدا أكبر قرار عسكري في اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، باعتماد خطة قيمتها 320 مليار دولار لشراء صواريخ قادرة على ضرب الصين وتهيئة الجيش الياباني لاحتمالات خوض مواجهات عسكرية طويلة وقت الحاجة.
ستمتد الخطة العسكرية اليابانية الشاملة خمس سنوات، وتشكل ثالث أكبر إنفاق عسكري في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. وقال كيشيدا للشعب الياباني الذي اعتاد على فكرة «المسالَمة»، إن قرار الحكومة يعود إلى ضرورة جبه «التحديات الأمنية المختلفة التي نواجهها»، معتبراً أن تقف بلاده عند مفترق طرق و«نقطة تحول في التاريخ».
هو تاريخ اتّسم بفترة طويلة من الحروب الإقطاعية، التي كان فيها الشوغن والساموراي «زبدة» الطبقات الاجتماعية لا يعلوهم مرتبةً إلا النبلاء. وبعد إرساء الاستقرار الداخلي، توسعت اليابان واستعمرت وقويت شوكتها في آسيا، إلى أن هُزمت في الحرب العالمية الثانية التي تلقت فيها ضربتين ذريتين أميركيتين استهدفتا هيروشيما وناغازاكي، فاستسلمت الأمبراطورية، وأدرجت في دستورها مواد تحظر استخدام القوة العسكرية لشن حرب ضد الدول الأخرى.
بالعودة إلى الحاضر، اعتبر كيشيدا أن الغزو الروسي لأوكرانيا يلقي الضوء على التهديد الذي تواجهه اليابان ودول شرق آسيا الأخرى من الصين التي تعزز قوتها العسكرية ولا تخفي طموحها إلى مدّ نفوذها في كل الاتجاهات.
في المدى القريب، وتحديداً في العام 2023، تنوي اليابان شراء 16 طائرة مقاتلة أميركية من طرازَي «إف – 35 أ» و«إف – 35 ب»، مع التخطيط لشراء مقاتلات أخرى من المصانع الأميركية لاحقاً. وستواصل اليابان أيضاً تطوير مقاتلة من الجيل السادس بالتعاون مع بريطانيا والمملكة المتحدة، وستشتري 500 صاروخ «توماهوك كروز» من الولايات المتحدة، وتكثّف الإنتاج المحلي للصواريخ بما في ذلك صاروخ تفوق سرعته سرعة الصوت.
حالياً، يبلغ عديد « قوة الدفاع الذاتي البرية اليابانية» (الاسم الرسمي للجيش)، 150 ألف عسكري، وهو رقم ضئيل لبلاد تضم أكثر من 125 مليون نسمة. ويملك الجيش نحو ألف دبابة وآلية مدرّعة، ونحو 700 قطعة مدفعية، و740 طائرة عسكرية من بينها 330 مقاتلة نفّاثة، وأكثر من 150 قطعة مختلفة في سلاح البحرية.
ولا يبدو من ملامح الخطة العسكرية الجديدة أن ثمة نية لرفع عديد الجيش كثيراً، فيما ينصب التركيز على تحديث المعدّات والأسلحة والحصول على أفضل النوعيات.
مدمّرتان يابانيتان (رويترز)
*ترحيب أميركي
تلقت الإدارة الأميركية القرار الياباني بترحاب وأكد أكثر من مسؤول في إدارة الرئيس جو بايدن التزام واشنطن حيال التعاون مع اليابان وضمان أمنها في وجه التهديدات الصينية.
وقال بايدن بعد لقائه كيشيدا في يناير (كانون الثاني) الماضي: « نعمل على تحديث تحالفنا العسكري انطلاقاً من الزيادة التاريخية لليابان في الإنفاق الدفاعي واستراتيجية الأمن القومي الجديدة». وأكد أن الولايات المتحدة «ملتزمة تماماً بالتحالف» مع اليابان.
أما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن فقال بعد لقاء مع نظيره الياباني يوشيماسا هاياشي إن الخطة العسكرية ستسمح لليابان بـ«تولي أدوار جديدة» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وبتحقيق «تعاون دفاعي أوثق مع الولايات المتحدة وشركائنا المشتركين»، مع الإشارة إلى أنه لم يحدد ما هي الأدوار الجديدة التي ستضطلع بها اليابان حيث يتمركز حوالى 50 ألف جندي أميركي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن «استراتيجية الأمن القومي» الأميركية تؤكد أن الصين هي مصدر التهديد الأول لليابان. وبالنظر إلى التصعيد المتواصل بين بكين وواشنطن في ما يخص تايوان وتحركات الصين في بحر الصين الجنوبي والصراع الصامت للسيطرة على الطرق التجارية البحرية في المحيط الهادئ، يغدو طبيعياً أن تسعد واشنطن بقرار طوكيو وتشجعها على تعزيز قوتها العسكرية الردعية، خصوصاً أن اليابان هي أيضاً جارة لروسيا وبينهما خلاف لم يُحلّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على ملكية جزر كوريل. وليس مضراً ابداً، بالمنظار الأميركي، أن تملك اليابان قوة عسكرية أكبر تعطيها وزناً أكبر في علاقاتها مع روسيا.
طائرة نقل عسكرية أميركية في قاعدة يوكوتا الجوية اليابانية (رويترز)
*لاعب «طبيعي»
يقول توباياس هاريس، المتخصص في الشؤون اليابانية والمسؤول في مركز «جيرمان مارشال» الأميركي للأبحاث السياسية: « من خلال تحقيق الرؤية الموضحة في الخطة، قد تصبح اليابان أخيراً دولة طبيعية من حيث قدرتها على الدفاع عن نفسها»...
والمقصود بذلك أن اليابان بدأت عملياً فكّ القيود الدستورية التي تفرضها على نفسها والتي جعلت قوتها العسكرية لا ترقى إلى مستوى قوتها الاقتصادية. ففي حين أن اليابان لديها ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، فإنها كانت تحتل المرتبة التاسعة فقط من حيث الإنفاق الدفاعي قبل إقرار الخطة الجديدة.
ولعل التبدّل الأكبر في العقيدة الدفاعية الذي يجعل من اليابان «دولة طبيعية» هو السماح بامتلاك ما تسميه الحكومة «قدرة الهجوم المضاد»، أي القدرة على ضرب القواعد في أراضي العدو في حال التعرض لاعتداء عسكري، مع الإشارة إلى أن توجيه ضربات استباقية أو وقائية لا يزال محظوراً.
في هذا الجو المستجدّ، يقول يقول تيتسو كوتاني، من المعهد الياباني للشؤون الدولية، إن «اليابان صارت أكثر استعداداً للانضمام إلى الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى ذات التفكير المماثل في مواجهة الأنظمة الاستبدادية والقوى النووية المعادية».
في المعسكر المقابل، اتهمت موسكو اليابان بتبني «عسكرة جامحة». ونددت بيونغ يانغ بالخطة ووصفتها بأنها «تحدٍ خطير» للسلام. وفي بكين، قال مسؤولون إن اليابان «تضخّم» تهديد الصين «لإيجاد ذريعة تبرّر بناء القدرات العسكرية».
المهمّ وسط كل هذا المشهد، أن «انضمام» اليابان صراحة إلى أجواء المواجهة، يُسقط أحد آخر العناصر التي كانت تشكّل لوحة سلمية - إلى حد ما - بعد الحربين الثانية والباردة، وتعيد اليابان «دولة طبيعية» في عالم «غير طبيعي».
ما معنى عودة اليابان المسالمة «دولة طبيعية»؟
بعد إقرار خطة خمسية للتحديث العسكري
ما معنى عودة اليابان المسالمة «دولة طبيعية»؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة