ربما لو قُدر للمواطن التونسي محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه قبل 13 عاماً، أن ينظر إلى المستقبل، لتردد كثيراً قبل اتخاذ قراره الذي أطلق شرارة ما بات يُعرف بـ«الربيع العربي»، فالأوضاع الاقتصادية التي كان يعانيها «البوعزيزي» آنذاك، تبدو اليوم بالنسبة لقطاعات واسعة من التونسيين «حلماً يحن كثيرون لاستعادته».
الأمر لا يقتصر على تونس وحدها، بل يمتد إلى دول عدة دهمتها الموجة الأولى لـ«الربيع العربي»، فإلى جانب تونس، هناك مصر وسوريا وليبيا واليمن، ورغم تفاوت مآلات الانتفاضات الشعبية بين تلك الدول، فإنها لا تزال تتشارك استمرار التداعيات منذ 2011.
ويعتقد مراقبون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أن مصر وتونس «حققتا النجاة» عبر قدر من الاستقرارين السياسي والأمني، رغم الأزمات الاقتصادية التي لا تزال «مؤرقة»، إلا أنهما «أحسن حالاً» من بقية «دول الربيع» التي لا تزال «تراوح مكانها»، فيما يتعلق بتردي الوضعين الأمني والسياسي، والتدخلات الخارجية في صناعة مصائرها، فضلاً عن «انشغال دولي» عنها بأزمات أكثر سخونة.
وأظهر استطلاع أجرته «شبكة الباروميتر العربي» للأبحاث (تتخذ من جامعة برينستون الأميركية مقراً لها)، لصالح قناة «بي بي سي نيوز عربي»، أعلن في يوليو (تموز) الماضي، وتضمن آراء ومواقف 23 ألف شخص من الأردن ولبنان ومصر وتونس وموريتانيا والمغرب والسودان والعراق وليبيا والأراضي الفلسطينية، أن «60 في المائة من المستطلعين عبر الدول التسع لا يعترضون عن شكل الحكم طالما اتسمت السياسات الحكومية بالفاعلية».
وذهب القائمون على الاستطلاع نفسه إلى نتائج أخرى - بناءً على الاستطلاع - من بينها أن «ثمة إدراكاً على نحو متزايد في المنطقة بأن الديمقراطية ليست النظام الأمثل للحكم وأنها عاجزة عن إصلاح كل شيء».
وتشير النتائج السابقة وغيرها التي تأتي في ظل تداعيات واضحة للأزمات الاقتصادية العالمية على دول المنطقة، إلى تعزيز فكرة استمرار «نزيف الخسائر» الذي ارتبط باندلاع انتفاضات «الربيع العربي، التي كبدت المنطقة خسائر بلغت 614 مليار دولار منذ عام 2011 وحتى 2015»، بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إيسكوا) التابعة للأمم المتحدة، وهو أول تقدير للخسائر الاقتصادية الناجمة عن «الربيع العربي» تقدمه مؤسسة دولية كبرى.
وفيما تبدو تقديرات الخسائر الاقتصادية في دول «الربيع العربي» فادحة، فإن الخسائر البشرية والإنسانية ليست أحسن حالاً، وتبرز هنا الحالة السورية، إذ يقول فريق «منسقو استجابة سورية» التابع للأمم المتحدة في تقرير، نُشر في 14 مارس (آذار) 2022، إن عدد السوريين الذين نزحوا داخلياً بلغ 6.9 مليون نسمة، وإن 6.6 مليون سوري لجأوا إلى الخارج، سواء إلى «دول الجوار» أو الدول الأوروبية، وإن عدد النازحين في المخيمات والملاجئ بلغ 1.9 مليون، وعدد الأطفال المنقطعين من التعليم بلغ 2.65 مليون طفل.
وأكد التقرير أن «نسبة السوريين المعرضين لخطر الفقر تبلغ 91 في المائة، وعدد السوريين الذين وصلوا إلى مرحلة المجاعة بلغ 3.3 مليون، وتسببت العمليات العسكرية بإصابة أكثر من 1.8 مليون مدني، وخلفت أكثر من 232 ألفاً من ذوي الاحتياجات الخاصة. هذا عدا عن عشرات آلاف المدنيين المفقودين والمختفين قسراً».
فيما ترصد تقارير دولية أخرى وجهاً آخر لاستمرار تردي الأوضاع ببعض دول «الربيع العربي»، إذ تحتل بعض تلك الدول مثل سوريا، واليمن، وليبيا، مراكز متأخرة وفق «مؤشر مدركات الفساد» لعام 2021 الذي تصدره «منظمة الشفافية الدولية»، فتأتي تلك الدول الثلاث بالترتيب (178، 174، 172) من 180 دولة، وجميع هذه الدول «لا تتمتع بوضع أمني وسياسي مستقر، كما اختفت فيها أغلب معالم الدولة وسادت الفوضى الأمنية والسياسية»، بحسب التقرير.
ويرى الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الدول التي امتلكت ما يُعرف بـ«مؤسسات القوة» في الدولة مثل مصر وتونس، استطاعت أن تنجو من «المصير المظلم» الذي كان يتهددها بعد اندلاع ما بات يُعرف بـ«الربيع العربي»، رغم استمرار معاناتها الاقتصادية، وبخاصة جراء تداعيات الأزمات الدولية.
ويضيف فهمي لـ«الشرق الأوسط»، أن مجموعة أخرى من دول «الربيع العربي» مثل اليمن وسوريا وليبيا تحولت إلى «بقايا دول» بعدما رسمت قوة السلاح مصائر الأطراف المتصارعة فيها، وعجزت المبادرات المختلفة عن إيجاد حلول قادرة على انتشال تلك الدول من أزماتها، لافتاً إلى أن هذه الدول «مرشحة وبقوة لاستمرار الأزمات بها».
وتابع أستاذ العلوم السياسية القول إن وجود «فواعل إقليمية ودولية»، كان لها تأثير سلبي على كثير من دول المنطقة في مرحلة «الربيع العربي» وما تلاها، لافتاً في هذا الصدد إلى الأدوار التي لعبتها دول إقليمية مثل إيران وتركيا، فضلاً عن إسرائيل، ودول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما فاقم من أزمات عدة دول مثل سوريا وليبيا واليمن، فضلاً عن دول لم تكن ضمن الموجة الأولى لـ«الربيع العربي» كالعراق ولبنان، لكنها تتضرر بشدة جراء التدخلات الخارجية.
في المقابل، يقول خليل الرقيق، الكاتب والمحلل السياسي التونسي، إن الحديث عن «الربيع العربي لا يمكن فصله عن تلك الوصفة الدولية التي مررت بديلاً سياسياً مخادعاً تحت عناوين لا تخلو من البريق الديمقراطي، لكن سرعان ما انكشف في تونس ومصر أن الأمر يتعلق بتمكين تنظيم الإخوان».
ويضيف لـ«الشرق الأوسط»، أن «الانهيار الاقتصادي غير المسبوق كان الثمن الحتمي لما حمله هؤلاء من ثقافة التدمير الممنهج لموارد الدولة، وما أبدوه من نهم شديد لتحويل المكاسب العامة إلى الحساب الخاص».
وتابع الرقيق أنه لا غرابة أن تطلب الأمر في النهاية «مسارات تصحيحية كبرى بمصر في 2013 وبتونس في 2021»، مع استمرار معاناة تلك الدول اقتصادياً نتيجة هيمنة التنظيمات المتأسلمة وتحالفها ما يصفه بـ«الرأسمالية الطفيلية»، التي تقتات من الاستيراد العشوائي والصفقات الفاسدة، هذا إضافة إلى ما جنته مناخات انعدام الأمن والإرهاب على القطاعات الحيوية الاستراتيجية بتوقف الإنتاج الطاقي والصناعي وتقلص نوايا الاستثمار الخارجي وانهيار القطاع السياحي.
ويضيف المحلل السياسي التونسي أنه «رغم توفر الإرادة والتصميم في تونس ومصر على تجاوز هذا الإرث الثقيل، فإن انضمام الوضع الدولي الضاغط على وقع الحرب الروسية - الأوكرانية إلى جملة التحديات جعل الدولتين تكابدان صعوبات كبيرة في تأمين الاقتصاد والاستجابة للمتطلبات الاجتماعية المتزايدة».
ويستطرد: «لكن ذلك الوضع لا يُقارن مع ما تعانيه دول مثل ليبيا واليمن، إذ يبدو الأمر هناك (أصعب وأعقد)، لأن الربيع العربي مر من هناك عبر قوة السلاح والحروب الأهلية، إضافة إلى أن كلا البلدين بمثابة (مختبر ميداني للصراعات الإقليمية والدولية)».
بلدان «الربيع العربي»... آمال «التعافي» و«التسوية» تصطدم بجائحة وحرب
انشغال دولي عن ليبيا واليمن... ومصر وتونس تكابدان عقبات اقتصادية
بلدان «الربيع العربي»... آمال «التعافي» و«التسوية» تصطدم بجائحة وحرب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة