نقاد غيّروا الذائقة الأدبية في القرن العشرين

إيغلتون يتتبع مسار ما يدعوه مدرسة كمبردج في نقد الأدب الإنجليزي

تيري إيغلتون
تيري إيغلتون
TT

نقاد غيّروا الذائقة الأدبية في القرن العشرين

تيري إيغلتون
تيري إيغلتون

الناقد الأدبي الكبير هو من يحدث ثورة في عالم الأدب، وذلك حين يتمكن من تغيير الذائقة النقدية وتوجيهها إلى مسار جديد. هكذا فعل درايدن والدكتور جونسون وكولردج وماثيو أرنولد في الأدب الإنجليزي، وبوالو وسانت بوف في الأدب الفرنسي، وبلنسكي في الأدب الروسي، وعباس العقاد في الأدب العربي، وغيرهم من مختلف الآداب في شتى العصور.
و«ثوار في النقد» Critical Revolutionaries كتاب صدر حديثاً، عنوانه الفرعي «خمسة نقاد غيّروا الطريقة التي نقرأ بها» من تأليف الناقد البريطاني المعاصر تيري إيغلتون Terry Eagleton وصدر عن «مطبعة جامعة ييل» الأميركية في 332 صفحة.
يتتبع الكتاب مسار ما يدعوه إيغلتون مدرسة كمبردج في نقد الأدب الإنجليزي باعتبارها «موروثاً حيوياً في النقد الأدبي يواجه خطر الإهمال». وهذا الموروث يبدأ بـ ت. س. إليوت مروراً بـ ا. ا. رتشاردز ووليم إمبسون وصولاً إلى ف. ر. ليفيس وريموند وليمز. ويدرج إيغلتون ذاته تحت رايتهم بينما يرسم صورة لحياة هؤلاء الخمسة وأعمالهم.
أول هؤلاء النقاد هو ت. س. إليوت الذي يصفه إيغلتون بأنه «مركب غير ثابت من بورجوازي عتيق ومخرب أدبي». بورجوازي لأنه محافظ يحنّ إلى الماضي ولا يكاد يرى خيراً في المجتمع المعاصر، ومخرب لأنه مبتكر أساليب شعرية غير مألوفة تهدم القديم هدماً لتقيم على أنقاضه حساسية جديدة، وغير ثابت لأنه يتأرجح في فترات مختلفة من مسيرته بين هذين القطبين المتقابلين. لكن إليوت (وهنا تكمن أهميته) أفلح في أن يعيد النظر في موروث الشعر الإنجليزي فيغير من النظرة التقليدية إليه في الجامعات والمدارس. لقد حمل على ميلتون الذي كان أيقونة مقدسة في نظر الأكاديميين، وخسف بالرومانتيكيين الأرض، ودعا إلى كلاسيكية جديدة ترفض الإسراف العاطفي، وكتب شعراً صعباً مجاوزاً للغات وحافلاً بالإلماعات التاريخية والأسطورية والشخصية، مؤسساً بذلك مدرسة شعرية حداثية تابعه فيها عشرات الشعراء في مختلف اللغات (انظر إلى تأثيره في بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور مثلاً).
وفي الفصل الثاني من كتابه يتناول إيغلتون الناقد وعالم النفس وعالم السميولوجيا (دراسة العلامات) وعالم الجمال ا. ا. رتشاردز صاحب كتابي «أصول النقد الأدبي» و«النقد العملي» الصادرين في عشرينات القرن الماضي. ويقول إيغلتون، إن اهتمام رتشاردز الأساسي كان منصباً على قضية التوصيل أو تلقي القارئ أو السامع للعمل الفني، وكان بهذه المثابة من رواد النقد المعروف باسم استجابة القارئ أو التلقي. لقد كان رتشاردز يجمع بين الاهتمام بمحاورات أفلاطون ونظريات العلم الحديث، وكان مُنظّراً مهتماً بالمبادئ الأولى. ولكنه لم يكن في رأي إيجلتون ناقداً أدبياً جيداً ولم تكن كتاباته التحليلية عن الشعر بالغة النفاذ.
ووليم إمبسون – في رأي إيغلتون - يمثل الوجه المقابل لرتشاردز. فإمبسون ناقد جيد، ومنظر سيئ. لقد «أعاد التاريخ الاجتماعي إلى الكلام» وذلك بإفادته من المادية الجدلية ومن التحليل النفسي الفرويدي.
أما ف. ر. ليفيس فكان ناقداً أخلاقياً صارماً تتلمذ لإليوت في مطلع حياته النقدية ثم تحول عن إليوت إلى د. هـ. لورنس. وليفيس في رأي إيغلتون «نخبوي، ضيق، طائفي» لا يمتد بناظريه إلى أبعد من «إنجلترا الصغيرة»، وليبرالي هيوماني من طراز ماثيو أرنولد في القرن التاسع عشر. على أن إيجلتون يقر لليفيس بـ«شجاعة مؤثرة» و«نزاهة استثنائية» ويعده «محللاً رائعاً للأعمال الأدبية» لا يغفل عن مسؤولياته تجاه موضوعه وتجاه المجتمع. ويتفق إيغلتون مع ليفيس في إيمانه بأن الأدب «تقويم للخبرة المعيشة» و«تقديم لمواقف بشرية».
وآخر هؤلاء النقاد (وأقربهم إلى قلب إيغلتون) هو ريموند وليمز الذي بدأ حياته متأثراً بليفيس وإليوت ثم انشق عليهما ليسلك دربه المستقل.
يصف إيجلتون وليمز بأنه «معلمه وصديقه ورفيقه على درب السياسة». إن وليمز ينظر إلى الأدب من منظور تاريخي يعلي من قيمة العوامل الاقتصادية والقوى الاجتماعية، وكان مهتماً بوجه خاص بفن الرواية لأنها الجنس الأدبي الذي تتجلى فيه على أوضح الأنحاء قضايا الطبقة والعرق والجنوسة. لقد بنى وليمز – على حد قول المؤلف - «جسراً بين النقد وعلم الاجتماع». على أن إيجلتون لا يخلي إنجاز وليمز من مآخذ فهو يشكو من أن نثره ثقيل الوطأة ملتف التعبير، وأنه لا يؤمن بأهمية الدرس الأدبي إيماناً كافياً.
وقد كتب روبرت إيغلستون عرضاً لهذا الكتاب تحت عنوان «ناقد فائق للنقاد» في «ملحق التايمز الأدبي» (19 أغسطس (آب) 2022) فكان مما قاله في هذا العرض؛ إن إيجلتون مدين للموروث الفكري اليساري. وكتابه هذا – مثل سائر كتبه - ترتمي عليه ظلال فظائع القرن العشرين: معسكرات الموت، النازية، شنق الأطفال.
والكتاب يكشف عن جانبين من إيغلتون؛ فهو من ناحية معلم موهوب يمتاز بالوضوح والتدبر والقدرة على الوصول إلى لب الموضوع. وهو من ناحية أخرى مجادل لا يخشى أحداً. وحين يجتمع الجانبان ينتجان نقداً قوياً آسراً، أما حين يتصادمان فإن بناءه كله يغدو مهدداً بالانهيار. ومن المآخذ الأخرى عليه، أنه لا يكاد يقول شيئاً هنا عن نقاد مهمين مثل فرانك كيرمود ومالكوم براد برى وستيوارت هول.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».