باريس على موعد الأحد المقبل مع «المسيرة الكبرى» التي ستغزو شوارعها وساحاتها بدعوة من جميع أحزاب اليسار المنضوية تحت راية «التحالف الجديد السياسي والاقتصادي والاجتماعي» المتشكل من أحزاب «فرنسا المتمردة» والشيوعيين والاشتراكيين والخضر ومن 700 نقابي وبدعم من مروحة واسعة من الشخصيات الفاعلة في القطاعات السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية، فضلاً عن العديد من جمعيات المجتمع المدني.
ويتوقع المنظمون تدفق حشود واسعة من جميع المناطق الفرنسية (ما لا يقل عن مائة مدينة)، ما يعني عملياً أن المسيرة ستكون جرارة على الرغم من أن النقابات اليسارية لم تشارك في الدعوة إليها.
بيد أن ذلك لا يعني أن أعضاءها لن ينضموا إلى «المسيرة» بالنظر إلى أن المطالب الاجتماعية التي ترفعها هي تحديداً المطالب النقابية.
وفيما تحل هذه «المسيرة الكبرى»، زمنياً، على خلفية إضرابات تصيب منذ أكثر من أسبوعين قطاع الطاقة وتتسبب بأزمة في توفير المحروقات للسائقين وبتشكل طوابير من السيارات أمام المحطات العاملة وبتعطل أعمال مئات الشركات، فإنها تؤشر إلى «خريف حار» على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن مظاهره، الارتفاع غير المسبوق لأسعار الطاقة بكل أشكالها (المشتقات النفطية والغاز والكهرباء) والمواد الغذائية والخدمات، ما ينعكس ارتفاعاً للتضخم الذي يضرب نسباً لم تعرفها فرنسا منذ أربعين عاماً.
وارتفاع التضخم يعني حكماً تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وتهميش الشرائح الأكثر هشاشة وجذب الطبقة الوسطى إلى أسفل واتساع دائرة الفقر.
من هنا، فإن منظمي «المسيرة» وضعوا لها شعارين متلازمين. من جهة، التنديد بشلل العمل الحكومي لاحتواء غلاء المعيشة، ومن جهة ثانية لغياب سياسة فاعلة لمواجهة التغيرات المناخية التي برزت نتائجها الصيف الماضي في فرنسا، كما في العديد من البلدان، من خلال تزايد الحرائق وارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة وجفاف الينابيع والأنهار.
ويعد موضوع القدرة الشرائية هو الغالب. وجاء في بيان الدعوة للتظاهر أن «الأسعار تحلق ونهايات الشهر أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة لكثيرين فيما كوكبنا يحترق وموارد المياه تتناقص، لكن الحكومة مستمرة في اتباع سياسات غير صديقة للبيئة وتهدد توازن النظام البيئوي».
وفي مؤتمر صحافي عقدته قبل يومين، هاجمت أورلي تروفيه، النائبة عن حزب «فرنسا المتمردة»، السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، معتبرة أن تحالف اليسار والبيئويين يتحمل «مسؤولية كبرى في مواجهة السياسة النيوليبرالية التي يتبعها (الرئيس) ماكرون». وأضافت أنه يتعين مواجهة سياسة الإفقار ورفض الحكومة رفع المرتبات وتجميد الأسعار.
عملياً، يريد المتظاهرون زيادة المرتبات، ورفع الحد الأدنى للتقديمات الاجتماعية، وتجميد أسعار الطاقة ومواد الاحتياجات الرئيسية، وتجميد الإيجارات، وفرض ضرائب على الشركات التي حققت أرباحاً غير مسبوقة، وتخصيص استثمارات أساسية للنقلة البيئوية ومنها تعزيز إنتاج الطاقة المتجددة والنقل العام.
وكتب جان لوك ميلونشون، زعيم «فرنسا المتمردة» والمرشح الرئاسي السابق، تغريدة ندد فيها بـ«السياسة الإجمالية» التي يتبعها ماكرون، داعياً «الشعب بكل فئاته» إلى المشاركة في «المسيرة» ليس فقط فئة الموظفين بل جميع الفئات الشعبية من متقاعدين وطلاب وتلامذة وعاطلين عن العمل.
وحظيت الدعوة للمشاركة في «المسيرة» بدعم 60 شخصية معروفة من خلال بيان نشرته أسبوعية «جي دي دي»، هاجمت فيه رئيس الجمهورية الذي «يستخدم التضخم لتعميق الهوة بين الطبقات الاجتماعية وتعزيز عائدات رأس المال على حساب الآخرين».
وفي الأسابيع الأخيرة، حمي وطيس الجدل حول ضرورة فرض ضرائب إضافية على الشركات التي حققت أرباحاً خيالية، وأهمها الشركات النفطية والكهربائية بسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار الطاقة، ما يعيدنا إلى إضراب العاملين في المصافي الذين يريدون حصتهم من الأرباح ورفع معاشاتهم والتعويض عن التضخم.
حتى اليوم، لم تجد الحكومة الحل الناجع، فيما المفاوضات القائمة بين شركة «توتال إنرجي» العملاقة التي حققت في النصف الأول من العام أرباحاً وصلت إلى 18 مليار يورو وزادت راتب رئيسها 52 في المائة، والنقابات العمالية، ما زالت في طريق مسدود.
وفي المقابل، فإن المفاوضات مع شركة «أسوــ أكسون ــ موبيل» الأميركية والعمال حققت بعض التقدم.
وشلّ الإضراب ستاً من المصافي السبع التي تمتلكها فرنسا، ما أدى إلى نقص حاد في ثلث محطات وقود السيارات.
وتعاني منطقة إيل دو فرانس (باريس وجوارها الواسع) وشمال البلاد أكثر من غيرها من إقفال المحطات.
وقال الناطق باسم الحكومة، الوزير أوليفيه فيران، إن «تداعيات الإضرابات أصبحت لا تطاق بالنسبة للكثيرين من أفراد الشعب الفرنسي»، مؤكداً أن المواطنين يواجهون صعوبة في الذهاب للعمل والقيام بالتسوق أو اصطحاب أطفالهم للمدرسة.
وتطالب النقابات العمالية بزيادة 10 في المائة على الرواتب بمفعول رجعي من بدء العام الحالي.
إزاء هذا الوضع، أصدرت الحكومة، أمس، أمراً للعاملين في إحدى المصافي الواقعة في منطقة النورماندي (شمال غرب فرنسا) بالعودة إلى أعمالهم. وبحسب فيران، فقد ينطبق الأمر على مصفاة أخرى في مدينة دنكيرك (شمال).
إلا أن عمال المصافي صوّتوا، أمس، لصالح مواصلة الإضراب، ما يعني أن الأزمة متواصلة، والمرجح أن تستفحل في حال لم يحصل المضربون على مطالبهم أو على الأقل على الأساسي منها.
ويشكّل التصويت تحدياً واضحاً للحكومة التي بدأت بهز العصا واللجوء التدريجي إلى التدابير الخاصة بحالة الطوارئ التي تمكنها من إرغام العمال الأساسيين في قطاع ما على العودة لممارسة أنشطتهم على الرغم من الإضراب.
وينصّ القانون على تغريم الرافضين للأوامر الحكومية وحتى إرسالهم إلى السجن. لكن النقابات قادرة على اللجوء إلى المحاكم الإدارية للاحتجاج على قرارات الحكومة.
وتشكّل هذه الإضرابات أكبر تحدٍّ لرئيسة الحكومة إليزابيت بورن منذ تعيينها في منصبها في الربيع الماضي.
وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة لا تتمتع بالأكثرية المطلقة في البرلمان وهي واقعة بين نارين: من جهة، اليسار بكل تشكيلاته الذي يهاجم سياستها بلا هوادة، ومن جهة ثانية اليمين الكلاسيكي الذي يرى أنها «غير حازمة» في مواجهة الأزمة الراهنة ويأخذ عليها عدم استباقها والتحضر للتعامل معها بفاعلية.
الحكومة الفرنسية في مواجهة «الخريف المعيشي الحار»
بعد إضراب قطاع الطاقة... «المسيرة الكبرى» في شوارع باريس الأحد
الحكومة الفرنسية في مواجهة «الخريف المعيشي الحار»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة