«الجريئة»: غوص روائي في التاريخ لانتزاع الحقيقة

رواية الشيخ سلطان القاسمي تتناول أحداثاً موثقة

«الجريئة»: غوص روائي في التاريخ لانتزاع الحقيقة
TT

«الجريئة»: غوص روائي في التاريخ لانتزاع الحقيقة

«الجريئة»: غوص روائي في التاريخ لانتزاع الحقيقة

عن «منشورات القاسمي» بالشارقة، صدرت أخيراً رواية «الجريئة»، للباحث والمؤرخ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وهي من الأعمال ذات الطابع التاريخي، التي تغوص عميقاً في أحداث الماضي لتستجلي الحقائق والعِبَر والدروس في مواجهة التزييف، حيث تتناول أحداثاً حقيقية موثقة رافقت البعثة الدبلوماسية الفرنسية إلى فارس عام 1702م.
الرواية تقع في 86 صفحة من القطع المتوسط، وتتوزع على 5 فصول، وهي: البعثة الدبلوماسية الفرنسية في فارس، ووفاة السفير فابر، والفتاة ماري بتي سيدة الموقف، والصراع على السلطة بين ميشيل وبتي، واستمرار بيتي في ملاحقة دَينها.
تدور أحداث الرواية حول بطلتها ماري بتي الملقبة بالجريئة، وعلاقتها بالبعثة الدبلوماسية الفرنسية إلى بلاد فارس. ولعل الملاحظة المهمة في هذا السرد هي تلك الكلمة التي وصف بها حاكم الشارقة أحداث الرواية بقوله: «هي رواية حقيقيّة موثقة توثيقاً محكماً». وتكمن أهمية الملاحظة في الإشارة إلى أحداث خاصة، كمساعدة فرنسا لبلاد فارس في احتلال مسقط، بالتالي فإن الرواية تضعنا أمام سرد يتعمق في التاريخ ويبحث عن حقائقه التي ربما تكون قد تعرَّضَت للتشويه؛ فهي تستند إلى عدد كبير من المصادر والمراجع المتنوعة والمخطوطات، الأمر الذي يضع أمام القارئ كثيراً من المعلومات، إضافة إلى ما تتمتع به الرواية من أسلوب يميل إلى البساطة، من أجل جَعْل المتلقي يتابع الأحداث، وكذلك قوة الوصف والتقاط التفاصيل الصغيرة وغيرها من تقنيات السرد، الأمر الذي صنع تفاصيل عمل روائي شيق وممتع. تكمن أهمية هذه الإشارة للمؤلف بكل ما ورد فيها من أحداث خاصة في مساعدة فرنسا لبلاد فارس في احتلال مسقط، بالتالي فإن الرواية تضعنا أمام سرد يتعمق في التاريخ ويبحث عن حقائقه التي ربما تكون قد تعرضت للتشويه.
‎وتبدأ تفاصيل ووقائع وأحداث الرواية، عندما رغب ملك فارس في إقامة حلف مع فرنسا، لاحتلال مسقط من قِبَل الفرس ومساعدة الفرنسيين لهم، حيث سيطر العمانيون على جميع البحار المحيطة بفارس، كما رغب ملك فرنسا في أن تكون للفرنسيين تجارة مع فارس، مثل الهولنديين والبريطانيين. ويتابع السرد في الرواية بدء الترتيبات لإرسال فرنسا بعثة دبلوماسية إلى أصفهان، عاصمة الدولة الفارسية، انتهت بالفشل. أما ماري بِتي، فقد كانت نهايتها بين السجن والمحاكمة، بعد قصة كفاح كبير من جانبها تتضمن دفاعها عن نفسها عبر توضيحها للحقائق؛ فكان أن أرسلت إلى ملك فرنسا خطاباً بتلك المعاني.
وتحتشد الرواية بكثير من المعلومات التي تجعل القارئ في قلب أحداث ذلك الزمان. فنتابع من خلال السرد قصة السيد جين بابتيست فابر، الذي حضر إلى باريس قادماً من إسطنبول من أجل أعمال في بلاط الملك لويس الرابع عشر، الذي يتعرف على الفتاة ماري كلود بتي التي كانت تبلغ حينها 28 عاماً. وفي تلك الأثناء، كانت الحكومة الفرنسية تبحث عن شخص بصفات دبلوماسية، ويتكلم اللغات الشرقية، من أجل قيادة البعثية الدبلوماسية إلى فرنسا، وعندما علم فابر بالأمر أخذ يتحدث عن معرفته ببلدان الشرق ولغاتها، وهو الأمر الذي وصل إلى الحكومة الفرنسية، ليتم اختياره في عام 1703م، وتكليفه بالمهمة، ليكون سفيراً لدى الملك الفارسي شاه سلطان حسين.
‎وتتوالى أحداث الرواية، حيث تم الإعداد للبعثة الدبلوماسية، ودراسة كل احتياجاتها، وتم وضع خدم وحاشية للسفير، وهو الأمر الذي صار معه السيد فابر غير قادر على دفع ثمن طعامه وحاشيته وخدمه، ما اضطره للجوء إلى ماري بتي، حيث رجاها أن تقدم له يد العون، فقامت الفتاة بتقديم المال اللازم له، الذي بلغ 8000 ليرة فرنسية. ووقَّع فابر تعهُّداً بأن يدفع لبتي ذلك المبلغ من راتبه، وعندما تسلَّم فابر راتبه لم يتم دفع القرض الذي عليه لبتي، وعندما غادرت البعثة إلى ليون لحقته إلى هناك، ثم إلى مارسيليا، من دون طائل.
‎ويستمر السرد ليحكي قصة ملاحقة بتي لدَينها من أجل استرداده، حيث تنكرت في زي شاب ذكر، واعتلت ظهر السفينة «ترايدنت»، المتجهة إلى بلاد فارس، وهي تشق عباب البحر الأبيض المتوسط. لكن البحارة يكتشفون أمر الفتاة، وتجري بعدها العديد من الأحداث، حيث يتوفى السيد فابر، ويحدث نوع من الصراع على إدارة السفينة والبعثة. ويشير السرد إلى موقف السيد دي فيريول سفير فرنسا في إسطنبول، الذي كان معترضاً على تولي فابر مهمة البعثة في فارس، نسبة لتواضعه.
‎وتتابع السفينة رحلتها، حتى وصولها إلى إسطنبول، ثم يرفان، وما جرى هنالك من أحداث، بطلتها بتي التي ظلَّت تدافع عن البعثة في وجه المصاعب التي ظلَّت تتعرض لها، كما ظلت تطالب بدَينها دون كلل أو ملل قرابة 11 عاماً، رغم ما لقيت من اتهامات طالت شرفها وتعرضها للمحاكمة.
ومن خلال سير السرد والأحداث يتعرف القارئ على العديد من المواقف التاريخية التي كان الشرق مسرحها في ذلك الزمان، ولعل القارئ يلاحظ مساراً تاريخياً ابتدره صاحب السمو حاكم الشارقة عبر مؤلفه المهم: «العلاقات العمانية الفرنسية 1715 - 1905»، الذي نتابع عبره مساعدة الفرنسيين للفرس في احتلال عمان، ولعل المتابع لمؤلفاته السردية يلاحظ أنها تطرح موضوعات تتضمن كثيراً من الأفكار والمعاني، وبالتالي تُعتبر هذه الرواية إضافة جديدة في مجال السرد التاريخي لعدد من مؤلفاته، مثل: «الشيخ الأبيض»، الصادرة عام 1996، و«الأمير الثائر» (1998)، و«الحقد الدفين» (2004)، و«بيبي فاطمة وأبناء الملك» (2018)، و«رأس الأمير مقرن» (2019)، و«الشيخ المتصوف راشد بن مطر القاسمي» (2022)، و«سيرة سلاطين كلوة» (2022)، وعدد من المؤلفات السردية والتاريخية الأخرى التي أثرت المكتبة العربية.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.