عن خصوصية الحداثة وكونيتها!

نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
TT

عن خصوصية الحداثة وكونيتها!

نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)

واقعياً تعكس الحداثة، كفلسفة وتجربة، الذائقة الثقافية الأوروبية في المرحلة الأخيرة من تطورها، حيث نضجت المفاهيم الأكثر أساسية، كالعقلنة والأنسنة والعلمنة، وحملت مسمياتها داخل التاريخ الأوروبي، الذي منحها الدلالة والمعنى، وأنتج البنى المؤسسية والأنساق الرمزية المنسوبة إليها: العقلنة باعتبارها تلك الصيرورة التاريخية التي أنتجت فهماً للعالم يقوم على منطق العقل، المتجذر في العلم التجريبي الحديث استقلالاً، وربما انفصالاً، عن منطق الروح الذي هيمن على الحقبة التقليدية، متخللاً أنساقاً كالدين والميتافيزيقا والأسطورة. إنها الصيرورة التي توجت العقل الإنساني متناً أساسياً وقطباً موجباً للتجربة البشرية، وأحالت الدين إلى موضع السلب، بعد أن كان هو المتن الواسع والقطب الموجب. والأنسنة باعتبارها الصيرورة التي جسدت حركة الإنسان الواثقة إلى مركز العالم، باعتباره فاعلاً وجودياً، مشرعاً أساسياً لذاته، متحرراً من سطوة علاقات القهر الخارجية، والتي انطلقت من عصر النهضة، وتصاعدت في ظل المذهب الإنساني، حتى نضجت مع عمل المتنورين الفرنسيين من الموسوعيين، خصوصاً فولتير وديدرو وهولباخ في قلب القرن الثامن عشر، ثم انتصرت بشيوع التنوير ورسوخ النزعة النقدية مع إيمانويل كانط. والعلمنة باعتبارها ثمرة النقد العملي للدين والذي لم ينشغل، كالنقد النظري، بأصول فكرة الألوهية، ولا بجذور الاعتقاد الديني، بل صبّ تركيزه على دور الدين في الحياة اليومية، ودور المؤسسات الدينية في المجال العام، رافضاً تغوِّلها على نظيرتها الدنيوية/ الزمنية، على ذلك النحو الذي كشفت عنه وقائع الهيمنة الكاثوليكية علي العالم القروسطوي.
أما تاريخياً، فلا تعدو الحداثة أن تكون انعكاساً لمسيرة التقدم البشري المطرد، رغم انحناءاتها القصيرة، وتجسيداً للخبرة الإنسانية المشتركة رغم ثقوبها السوداء، وهو ما يمكن ملاحظته إذا ما حررنا المفاهيم المؤسسة للحداثة من القوالب النهائية التي التصقت بها، كشفاً عن تاريخيتها كحوامل راهنة لقيم جوهرية، حملت أسماء بعينها في حقبة تاريخية ما، وأسماء أخرى في حقبة تالية... إلخ؛ ذلك أن المفاهيم الكبرى/ التأسيسية لا يمكن أن تظل ساكنة وهي تخوض في غمار التاريخ، ولا تفقد هويتها تماماً أثناء الارتحال الشاق داخل ثنايا التاريخ؛ إذ تحتفظ بجوهرها المؤسس ثم تضيف إليه ما أمكن لحامليها الجدد أن يضيفوا، أو ما تيسر لمستقبليها من تعديلات فيها. تلك الإضافات والتعديلات تخضع لمنطق التاريخ نفسه وحركة تطوره، ففي مسيرته الصاعدة يمكن لبعض المفاهيم أن تتبلور لتسمى جواهر غير مسماه، ولمفاهيم أخرى أن تُعدَّل لتعبر عن جواهر تم تطويرها، على نحو يجعلها أكثر حضوراً وقدرة على تمثيل زمانها، ولمفاهيم ثالثة أن تندثر، لأن جوهر ما كانت تعبر عنه قد تحلل وتجاوزه الزمن. نقول ذلك رغم استمرارية مضمون تلك المفاهيم كقيم كونية لازمة، وسنن مجتمعية مصاحبة لأي نهضة بشرية، من قبيل تأكيد فاعلية العقل الإنساني أو حرية الإرادة الإنسانية أو الانشغال الإيجابي بالعالم، إذ لا يمكن تصور نهضة حضارية لدى جماعة بشرية تجمد عقلها، أو اُعتقلت إرادتها، أو فقدت اهتمامها بالواقع الدنيوي، وانشغلت فقط بملكوت أخروي أو عالم مفارق.
في هذا السياق، نجد للعقلانية جذوراً ضاربة في الحضارة العربية الكلاسيكية! ولكنها بالتأكيد ليست العقلانية المادية القائمة على النزعتين: الحسية والتجريبية، بل العقلانية الكونية، التي تنظر إلى الطبيعة في سياق مهمتها الاستخلافية، حيث يستدل المسلم من نظامها الشامل الدقيق وقوانينها الكلية المتسقة على وحدانية صانعها، فيكتسب أفقاً عقلانياً تدبرياً. صحيح أنه لم يبلغ أفق العقلانية الوضعية، لكنه كان الأرقى في زمانه، وإلا فعلام استندت النهضة العربية الأولى؟ فالخرافة لا تنتج حضارة.
ونجد أيضاً نزعة إنسانية عربية، لكنها قطعاً لا تماثل نظيرتها الغربية، خصوصاً الكامنة في التنوير اليعقوبي الذي تبنى المركزية الإنسانية، بل انطوت على صيغ أولية كانت فعالة في تحرير الإرادة من الموروث التقليدي الجاهلي القائم على الروح القبيلة والنزعة الجبرية، وهي صيغة تتجلى في النص القرآني الذي يُعلي من حرية الضمير الشخصي في اكتساب العقيدة، ومن قيمة النزعة الفردية في ممارسة العبادة. بل إنه، أي النص القرآني، يؤسس لنمط من الحرية الأنطولوجية، حيث يتموضع الإنسان، كقطب ثانٍ للوجود، في مواجهة الإله، قطب الوجود الأول، حسب النزعة القدرية التي تؤكد قدرته على الاختيار، والتي يمكن استشفافها من بعض آياته المحكمة، أو من تأويلاتها السامقة في علم الكلام المعتزلي والفلسفة الرشدية.
وكذلك نجد نمطاً من العلمانية في التجربة التاريخية الإسلامية، يتجاوب مع النص القرآني في رفض الوصاية الروحية على الضمير الفردي، لكنه نمط مستبد صاغته صراعات السلطة وطموحات العائلات الحاكمة، لم يبلغ يقيناً أفق الديمقراطية الليبرالية. ومن ثم ظلت حرية الفرد في مواجهة السلطة أمراً غير قائم في التاريخ العربي لدوافع عدة، على رأسها عدم نضج مفهوم الحرية بالمعنى السياسي آنذاك، حينما كانت النهضة العربية لا تزال متوثبة قبل عشرة قرون. وهنا يتعين علينا ألا ننسي - ما دمنا نمارس النقد التاريخي - أن الدول الإسلامية الكبرى كافة، عدا العثمانية، كانت سابقة على الدولة التي تصورها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، والتي جسدت مثالاً بارزاً للشمولية الحديثة. بل إن تلك الدول المتتابعة، التي أعلت ولو ظاهرياً، من شأن القيم الأخلاقية المبثوثة في الشريعة، كانت أرقى من تلك الصورة التي رسمها فيلسوف السياسة الواقعية للممالك الأوروبية الصاعدة ولحال السياسة الدنيوية المفعمة كلياً بالروح النفعية والسلوكيات الانتهازية، وإن ظل لدولة هوبز العلمانية والمستبدة امتيازها الذي لا يمكن تقديره إلا بالقياس إلى الدولة الثيوقراطية التي هيمنت على العصور الوسطى المسيحية.
هكذا، وعبر نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكن إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة، والذي جعل العلاقة مع الغرب معقدة وإشكالية، حيث استمرت مجتمعاتنا، بفعل اندراجها الواقعي في سياق الحضارة الكونية، تواقة إلى الغرف من الهوامش التكنولوجية للحداثة، من دون مقاربة متونها الأساسية ومفاهيمها التأسيسية. والنتيجة النهائية، أن مجتمعاتنا التي امتلكت من التكنولوجيا أرقاها، ظلت زراعية غالباً، ورعوية أحياناً، مغتربة عن قيم الحداثة الاجتماعية وفي قلبها الحرية الفردية، مثلما ظلت دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، ممتنعة على مثل الحداثة السياسية وفي قلبها الديمقراطية. وهكذا تم وضع البنزين بجوار النار: عقل مغلق يواجه عالماً مفتوحاً، وعي تقليدي يمتلك منتجاً ما بعد حداثي، مزاج متطرف يحوز أسلحة فتاكة؛ الأمر الذي أنتج كل عمليات القتل وحفلات التدمير المحيطة بنا. بل يمكننا، بقدر من التأويل الخلاق، أن نرفد الحداثة بقيم إيجابية، روحية وأخلاقية، تحتاج إليها للحد من جموحها المادي وتطرفها الحسي، بما يجعل الإسلام مصدر إلهام يسهم في تصويب مسيرتها، بشرط أن يقدم هذا الإسهام بطريقة تتجاوز الاستعلاء والجذرية، وتبدي تواضعاً حقيقياً أمام تعقيدات الوضع الإنساني، فلا ندعي القدرة على تقديم بديل كامل للوضع القائم وإلا صرنا كالأصوليين، بل فقط على سد بعض الثغرات في البناء الشاهق للحداثة، ومن ثم نتجاوز موقفين متناقضين:
الأول هو الاستسلام لدونية حضارية ترى الحداثة الغربية نموذجاً مثالياً على نحو مطلق، لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار العلموي العربي الذي سطع في النصف الأول من القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب وقيمه ومعاييره كمرجعية نهائية لنا. والآخر هو الادعاء بخصوصية حضارية مطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر، وهو موقف يكشف جوهرياً عن شعور بالهزيمة الحضارية، وإن اختفى خلف قشرة من التعالي الظاهري على الآخر، حيث تصبح الحضارة الغربية (رغم تقدمها) نموذجاً للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية، التي تعد (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، حسب أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية وتصوراتها الاختزالية الساذجة عن الذات والعالم.
* كاتب وباحث مصري



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.