لا حداثة شعرية من دون اغتصابات لغوية!

أدونيس
أدونيس
TT

لا حداثة شعرية من دون اغتصابات لغوية!

أدونيس
أدونيس

كم كنت أكره الشعر الحديث في البداية، وبالأخص قصيدة النثر. كم كنت أنفر منها وأحقد عليها. والسبب هو أني منذ نعومة أظفاري كنت متشبعاً بالقصيدة العمودية التي تملأ العين وتشبع الأذن بصوتها الجهوري وإيقاعها الفخم. ما أمتع القوافي والأوزان العربية! ما أمتع التغني بها! إنها تسكرك تماماً. لا أستطيع أن أنام وأصحو إلا بعد الترنم بصوت عالٍ بمقاطع من الشعر العربي قديمه والحديث. وأحياناً أزعج الجيران! ينبغي أن أشبع أذني وروحي كل يوم بهذا المقطع أو ذاك، بهذه القصيدة أو تلك... وهي عادتي منذ نعومة أظفاري وحتى الساعة. وأعتقد أن كل من تربى على قراءة المعلقات ومختارات الشعر العربي الأموي والعباسي والأندلسي، وحتى بدوي الجبل وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري... إلخ، يفهم ما أقول. ينبغي أن نعترف: الأذن العربية كانت متعودة على إيقاع الأوزان والقوافي العربية الضخمة أو الفخمة التي تشبعك إشباعاً ولا ترضى عنها بديلاً. من هنا سر امتعاضنا من الشعر الحديث عندما ظهر لأول مرة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. من هنا سبب سخطنا الشديد عليه. فالنقلة أو القطيعة كانت فجة، مفاجئة. كانت صعبة علينا وقاسية جداً جداً. أقول ذلك وأنا أتذكر حجم المعارك الضارية التي دارت حول الشعر الحر في كل الأوساط الثقافية، بل وحتى في كل العائلات والبيوت عندما ظهر لأول مرة. فقد انقسم الناس إلى قسمين: قسم معه وهي الأقلية وقسم ضده وهي الأكثرية. وقد كرّست أطروحتي الجامعية لهذه المسألة وناقشتها في السوربون ونلت عليها شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عام 1981. وكان مما قلت فيها، أن القصيدة العمودية الموروثة منذ آلاف السنين كانت قد تحولت إلى شكل شبه مقدس، معصوم، لا يناقش ولا يمس... لقد تحولت إلى صنم من الأصنام. ولهذا السبب انتفض الجمهور العربي بقوة ضد الشعر الحديث واعتبره زندقة أو هرطقة أو حتى كفراً!
لكن قصيدة النثر قبل أن تظهر في العالم العربي كانت قد ظهرت في فرنسا أولاً. ينبغي العلم بأن قصيدة النثر كانت قد ظهرت في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر في حين أنها لم تظهر في العالم العربي إلا منذ منتصف القرن العشرين. وبالتالي، فبين الحداثة الشعرية الفرنسية والحداثة الشعرية العربية يفصل قرن من الزمان. ثم شاعت في أواخر ذلك القرن وتكرست على يد شعراء كبار ليس أقلهم رامبو ولوتريامون ومالارميه. ثم سادت وهيمنت في القرن العشرين على يد رينيه شار وهنري ميشو وآخرين عديدين. ويبدو أنها ظاهرة مرادفة للحداثة.


نزار قباني

فإيقاع الحداثة لم يعد هو إيقاع المجتمعات الزراعية الريفية التقليدية وإنما المجتمعات الصناعية التكنولوجية. وبالتالي، فأصبحت الحداثة في حاجة إلى شكل شعري جديد لمواكبتها. وعلى هذا النحو ولدت قصيدة النثر، وكذلك قصيدة التفعيلة قبلها. يضاف إلى ذلك أن قيود الأوزان والقوافي ترهق الشاعر مهما كان كبيراً وفحلاً ولا تجعله قادراً على التعبير عن جوّانيته العميقة بكل حرية. ولهذا السبب كسر الشاعر الحديث تلك الأوزان وراح ينفجر قائلاً: أعطني حريتي أطلق يديا! على هذا النحو ينبغي أن نفهم سبب ظهور الشعر الحديث.
كان بودلير أول شاعر كبير يدشن قصيدة النثر فعلاً ويكرّسها ويخلع عليها المشروعية من خلال مجموعته التي تحمل العنوان التالي «كآبة باريس: قصائد نثر صغيرة». ويبدو أنه تردد كثيراً قبل أن يتبنى قصيدة النثر. يحصل ذلك كما لو أنه كان يخجل من هذه التسمية، أو يخشى من رفض الجمهور لها. وذلك لأن الجمهور الفرنسي، كما العربي، كان متعوداً على الإيقاعات الضخمة للشعر الموزون المقفى. فهو وحده كان قادراً على إشباعه شعرياً مثلنا تماماً. ولكننا نعلم أن الأوزان والقوافي تدفعان أحياناً حتى بأكبر الشعراء إلى استخدام الحشو أو الافتعال غصباً عنهم. هذا في حين أن قصيدة النثر لا تتقيد إلا بحركة الروح الداخلية وتموجاتها الإيقاعية. هذا لا يعني أنها خالية من أي وزن أو إيقاع. هذا لا يعني أنها سهلة! فالواقع أن لها إيقاعها الداخلي الخاص ولكن الخافت وأكاد أقول الخفي الذي لا تسمعه إلا الأذن المتعودة على تذوق الشعر حقاً. ولكن ينبغي العلم بأن قصيدة النثر أصعب بكثير مما نظن. فلها قيودها الداخلية التي لا يعرفها إلا الشعراء المحترفون الحقيقيون.


بودلير

هناك تقنيات معينة خاصة بقصيدة النثر، وأهمها انتهاك قانون اللغة المعتاد أو اغتصابه كأن نقول مثلاً «ليل أبيض» أو «نهار أسود»، أو «عطر أخضر»، إلخ. هذه الانتهاكات أو الاغتصابات اللغوية هي التي تحدث الشحنة الشعرية وتعوض عن الأوزان والقوافي. ولكن ليس كل الانتهاكات ناجحة أو موفقة. الأسلوب غلطة كما قال أحد النقاد الكبار، ولكن ليس كل غلطة أسلوباً! وعلى هذا المنوال نقول: الشعر اغتصاب لغوي ولكن ليس كل اغتصاب شعراً! للأسف كثيراً ما يستسهلون قصيدة النثر فيكتبها كل من هب ودب. والأخطر من ذلك هو أنهم يستسهلون الاغتصابات اللغوية فتبدو مجانية غير مقنعة على الإطلاق. إنها مجازات باهتة، عبثية، بلا جدوى. إنها مجازات فاشلة لا تحدث الشحنة الشعرية على الإطلاق. وبالتالي، فهناك اغتصاب واغتصاب! انظروا بعض مجموعات الشعر الحديث التي تتكاثر كالفطر، والتي تتشابه في مجازاتها أو انتهاكاتها اللغوية إلى درجة أنك لا تعود تعرف التفريق بينها ما عدا عند الشعراء الموهوبين حقاً. وهذا هو أحد أسباب نفور الناس من الشعر الحديث. مهما يكن من أمر فإن قصيدة النثر فرضت نفسها على فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ لأن ثلاثة من الكبار كتبوا بها وهم: بودلير، ورامبو، ومالارميه. ولكن هؤلاء يعرفون كيف يغتصبون اللغة الفرنسية ويفجّرون اللغة الشعرية. ولا ينبغي أن ننسى ذلك الوحش الرهيب لوتريامون! فعنده وصل الاغتصاب الشعري إلى حدود مفزعة لا يكاد يصدقها العقل.

أمثلة على الاغتصابات الشعرية الناجحة

يقول رامبو في فصل في الجحيم:
«ولكن لماذا نتأسف على شمس أبدية، إذا كنا منخرطين في البحث عن الضوء الإلهي - بعيداً عن البشر الذين يموتون على الفصول»...
كيف يمكن أن يموت البشر على الفصول؟ الفصول ليست خشبة لكي يموت الناس عليها. الفصول ليست شيئاً مادياً. ومع ذلك، فالعبارة أحدثت الشحنة الشعرية كأقوى وأعظم ما يكون. هذا مثال ناجح جداً على الاغتصاب المقنع للغة الفرنسية.
ويقول في الإشراقات: قبلت فجر الصيف... الماء كان ميتاً... مشيت موقظاً الأنفاس القوية الفاترة... والجواهر تنظر والأجنحة تحلق دون ضجيج... الفجر والطفل سقطاً في أسفل الغابة، إلخ... (كلها مجازات متفرقة مقتطعة من قصيدة بعنوان: فجر. وقد تبدو عبثية للوهلة الأولى. ولكنها ليست عبثية على الإطلاق.
إن غموضها يخلق جواً محبباً من أروع ما يكون. إن غموضها أرقى من كل وضوح. على أي حال ينبغي أن تُقرأ القصيدة كلها من أولها إلى آخرها وأعتذر عن اقتطاع أشلاء منها. ما أجمل هذه العبارة التي تستهلها: قبلتُ فجر الصيف! إنها تذكرني بأصياف عشتها... إنها تذكرني ببداية العطلة الصيفية وكل الفرحة المرافقة لها كل عام).
ويقول رينيه شار في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
حسناً فعلت إذ رحلت آرثر رامبو!
«سنواتك الثماني عشرة المستعصية على الصداقة، على اللؤم، على تفاهة شعراء باريس، وكذلك على طنين النحل العقيم لعائلتك المجنونة، حسناً فعلت إذ بددتهم؛ إذ نثرتهم على أرجاء المحيطات في الريح، حسناً فعلت إذ رميتهم تحت سكين مقصلتهم المبكرة»... إلخ
كلها مجازات خارقة، كلها اغتصابات رائعة لشاعر كبير يمجد شاعرا كبيرا آخر ويتغنى بعظمته، بجنونه التحريري الهائل. أنها قصيدة متفجرة من الأعماق تليق برامبو وبرينيه شار في آن معاً. إنها قصيدة تمجّد الفوضى الخلاقة المدمرة المتمردة التي من دونها لا شعر ولا من يحزنون.
ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج أن الشعر الحديث كله اغتصابات في اغتصابات، كله انتهاكات في انتهاكات. من دون اغتصاب أو انتهاك للمعاني الشرعية للغة لا شعر ولا من يحزنون.
أخيراً، لتوضيح الفكرة أكثر اسمحوا لنا أن نختتم بأمثلة من الشعر العربي. يقول نزار قباني واصفاً القطار السريع الذي ينهب الأرض نهباً:
يمضي قطاري مسرعاً مسرعاً
يمضغ في طريقه لحم المسافات
يفترس الحقول في طريقه
يلتهم الأشجار في طريقه
يلحس أقدام البحيرات
القطار يمضغ لحم المسافات، القطار يفترس الحقول، القطار يلتهم الأشجار، القطار يلحس أقدام البحيرات. كلها مجازات خارقة تغتصب قانون اللغة المعتاد. كلها تفترس اللغة العربية إذا جاز التعبير لكي تنعش اللغة العربية وتضيف إليها مساحة جديدة من الحرية. هذا هو الإبداع. هذا هو الشعر. لا إبداع من دون اغتصاب للمعاني الامتثالية الشرعية المملة للغة العربية...
ويقول أدونيس:
كانت الليلة كوخاً بدوياً
والمصابيح قبيلة
وأنا شمسٌ نحيلة
تحتها غيّرت الأرض رباها
والتقى التائه بالدرب الطويلة
ما يهمني هنا في هذا المقطع الرائع هو: شمس نحيلة. كيف يمكن أن تكون الشمس نحيلة؟ هذا انتهاك لقانون اللغة. فالمرأة قد تكون نحيلة وليس الشمس. ومع ذلك فالمجاز شاعري وناجح جداً جداً.
ثم يقول في قصيدة أخرى:
ليس وجهاً خاشعاً للقمر
هو ذا يأتي كرمح وثني
غازياً أرض الحروف
نازفاً يرفع للشمس نزيفه
هو ذا يلبس عري الحجر
ويصلي للكهوف
هو ذا يحتضن الأرض الخفيفة
الأرض ثقيلة وليست خفيفة. ومع ذلك فالمجاز ناجح جداً ومقنع تماماً. وعموماً، فالأمثلة على ذلك كثيرة في الديوان الرائد والمؤسس للحداثة الشعرية العربية: عنيت «أغاني مهيار الدمشقي». لقد فجّر اللغة الشعرية العربية شكلاً ومضموناً. والأخطر من كل ذلك هو أنه فجّر التراث اللاهوتي القمعي ذاته، أي قدس الأقداس، واستبق على كل ما يحصل حالياً من انفجارات واشتعالات.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اكتشاف نوع جديد من النمل الأبيض يُشبه حوت موبي ديك

يتميز هذا النوع من النمل الأبيض برأسه الطويل وفكوك سفلية مخفية (رودولف شيفران - زوكيز)
يتميز هذا النوع من النمل الأبيض برأسه الطويل وفكوك سفلية مخفية (رودولف شيفران - زوكيز)
TT

اكتشاف نوع جديد من النمل الأبيض يُشبه حوت موبي ديك

يتميز هذا النوع من النمل الأبيض برأسه الطويل وفكوك سفلية مخفية (رودولف شيفران - زوكيز)
يتميز هذا النوع من النمل الأبيض برأسه الطويل وفكوك سفلية مخفية (رودولف شيفران - زوكيز)

في أعالي إحدى الغابات المطيرة في أميركا الجنوبية، أذهل نوع جديد من النمل الأبيض صغير الحجم فريقاً من العلماء الدوليين بملامحه التي تُشبه ملامح الحيتان.

ووفق الفريق البحثي الذي قاده عالم من جامعة فلوريدا الأميركية، يشبه هذا النوع الجديد من النمل الأبيض حوت العنبر الشهير في رواية هيرمان ملفيل الكلاسيكية «موبي ديك»، ومن هنا جاء اسمه: «كريبتوترمس موبيديكي».

وحسب الدراسة المنشورة في مجلة «زوكيز» (ZooKeys)، يتميّز هذا النوع برأس طويل وفكوك سفليّة مخفيّة.

وقال رودولف شيفران، أستاذ علم الحشرات في معهد جامعة فلوريدا لعلوم الأغذية والزراعة المتخصص في تصنيف الكائنات الحية: «هذا النمل الأبيض لا يشبه أي شيء رأيناه من قبل». وأضاف في بيان نُشر الجمعة: «كانت العيّنة مميزة إلى حدٍّ دفع فريق علماء الحشرات الدوليين إلى الاعتقاد بأنهم أمام جنس جديد تماماً».

كيف حصل هذا النوع على اسمه؟

قال شيفران: «يشبه المنظر الجانبي للبروز الأمامي ورأسه الممدود رأسَ حوت العنبر، وفي كلا الكائنين يحجب الرأس الفك السفلي».

وأوضح: «تقع عين الحوت وقرون استشعار النمل الأبيض في موقع متقارب وفق تكوين كل منهما. وبعد أن لاحظتُ هذا التشابه، رأى زملائي أن الاسم مناسب بشكل لافت».

يُضيف هذا الاكتشاف نوعاً جديداً إلى قائمة نمل «كريبتوترمس» في أميركا الجنوبية، ليصل عدد أنواع هذا النمل إلى 16 نوعاً. ويُظهر تحليل شجرة العائلة الجينية أن «كريبتوترمس موبيديكي» وثيق الصلة بأنواع أخرى في المناطق الاستوائية الجديدة، موجودة في كولومبيا، وترينيداد، وجمهورية الدومينيكان، مما يمنح العلماء دليلاً جديداً على القصة التطورية لهذا الجنس المنتشر عالمياً على مساحة واسعة من الأرض.

ووجد الباحثون المستعمرة المكتشفة داخل شجرة شبه ميتة، على ارتفاع نحو 8 أمتار من أرضية الغابة.

ووفق نتائج الدراسة، يُبرز تشريح هذا النوع الجديد وغير المعتاد مدى تنوّع تطوّر النمل الأبيض، والمفاجآت التي لا تزال تخبئها النظم البيئية الاستوائية.

وقال شيفران: «يُبرز اكتشاف هذا النوع الجديد والمميّز، العدد الهائل من الكائنات الحية التي لم تُكتشف بعد على كوكبنا».

ويُعدّ هذا الاكتشاف، بالنسبة للعلماء، انتصاراً للتنوّع البيولوجي؛ إذ يضيف كل نوع جديد إلى الفهم العلمي للحياة على الأرض، خصوصاً في مجموعة صغيرة نسبياً مثل النمل الأبيض، التي لا يتجاوز عدد أنواعها 3 آلاف نوع حول العالم.


محمد عبده يفتح خزائن الذاكرة على مسرح الرياض

محمد عبده يقدّم اختيارات لم يسمعها الجمهور منذ سنوات (روتانا)
محمد عبده يقدّم اختيارات لم يسمعها الجمهور منذ سنوات (روتانا)
TT

محمد عبده يفتح خزائن الذاكرة على مسرح الرياض

محمد عبده يقدّم اختيارات لم يسمعها الجمهور منذ سنوات (روتانا)
محمد عبده يقدّم اختيارات لم يسمعها الجمهور منذ سنوات (روتانا)

منح فنان العرب محمد عبده، الجمعة، شتاء العاصمة السعودية الرياض الدفء، في ليلة طربية ساحرة امتدَّت حتى ساعات الصباح الأولى من يوم السبت، وسط حضور جماهيري كبير من محبيه وعشّاقه من السعودية والعالم العربي.

واكتظَّ المسرح الذي يحمل اسمه في المجمع الترفيهي «بوليفارد سيتي» في حيّ حطين بالرياض بالحضور، في حين تابع آلاف المشاهدين الحفل عبر نقله المباشر على قنوات فضائية ومنصات رقمية.

وفي ثاني حفلاته بـ«موسم الرياض» 2025، وبجلسة شعبية طال انتظارها بعد أيام من التمارين والتحضيرات وساعات من الإبداع، التي تقدّمها الهيئة العامة للترفيه» في السعودية، وبإشراف مباشر من ‏رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه المستشار تركي آل الشيخ، وبتنظيم من «روتانا»، قدَّم محمد عبده لعشّاق الفن الأصيل أمسية استثنائية بعنوان «جلسة شعبيات فنان العرب»، استعرض فيها على العود عدداً من الاختيارات التي نالت إعجاب الحضور، وسط إشادات متواصلة بنوعية الأغنيات المُختارة نظير ندرة طرح عدد منها مسرحيّاً، أو استحضار بعضها بعد سنوات من المرة الأخيرة التي قدّمها.

محمد عبده يطلّ بسهرة مختلفة تُعيد جمهور الرياض إلى بداياته (روتانا)

وأضيفت هذه الأمسية إلى مسيرة محمد عبده العريقة الممتدة لأكثر من 5 عقود، مزج فيها بين الإحساس العالي وروعة الألحان والأداء المميّز الذي أسر قلوب الملايين، وسط حضور متناغم مع الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو هاني فرحات.

«أهلاً هلا بك يا دَوى كل علّه» مروراً بـ«يا حبيب الروح» التي يؤديها الفنان السعودي الكبير للمرة الأولى على المسرح، و«أوحشتنا يا حبيب» قبل «لي 3 أيام ما جاني خبر»، ثم «أنا وخلي كل دار وطنّا»، إلى «كنت مانيب ناوي أقرب الحب لله»، وغيرها من الخيارات النادرة والاستثنائية، عاش جمهور «فنان العرب» ليلة لا تُنسى في الرياض، وخلف الشاشات.

وامتدَّت الأمسية نحو 4 ساعات، استمرَّ خلالها الفنان في نثر إبداعاته وسط استمتاع الحضور، ثم تخلّلته استراحة امتدت نحو نصف ساعة، قبل أن يعاود عبده الوصلة الثانية من الخيارات الفنية الشعبية التي انتظرها الحضور الكبير، ويختمها بأداء الأغنية الوطنية الخالدة «فوق هام السحب» من كلمات الراحل الأمير بدر بن عبد المحسن وألحان «فنان العرب».

الفنان محمد عبده والمايسترو هاني فرحات في ختام الأمسية (روتانا)

وجاءت هذه الأمسية إثر الإقبال الكبير الذي شهده حفل «فنان العرب» ضمن «موسم الرياض» في 28 من الشهر الماضي، بعد نفاد التذاكر في وقت مبكر جداً من موعد الحفل، ليعلن رئيس «الهيئة العامة للترفيه» في السعودية، المستشار تركي آل الشيخ، عن تنظيم حفل جديد للفنان محمد عبده، الجمعة 5 ديسمبر (كانون الأول)، وذلك عبر حسابه الشخصي على منصة «إكس»، حيث نشر بوستر الحفل وعلّق: «عشانكم».

ويواصل الموسم الترفيهي الأضخم إقليمياً وعالمياً «موسم الرياض 2025»، الذي بات إحدى أهم المنصّات الفنية في العالم، تنظيم الحفلات الغنائية ضمن سلسلة من الفعاليات الموسيقية الكبرى.

ومن المقرّر أن يطلّ عبده مجدّداً على جمهوره، في 18 ديسمبر، على خشبة مسرح «صدى الوادي» في موسم الدرعية.


«البحر الأحمر السينمائي» يحتفي بأم كلثوم في الذكرى الـ50 لرحيلها

أم كلثوم في مشهد من فيلم «عايدة» (مهرجان البحر الأحمر)
أم كلثوم في مشهد من فيلم «عايدة» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يحتفي بأم كلثوم في الذكرى الـ50 لرحيلها

أم كلثوم في مشهد من فيلم «عايدة» (مهرجان البحر الأحمر)
أم كلثوم في مشهد من فيلم «عايدة» (مهرجان البحر الأحمر)

يواصل مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» في دورته الـ5 ترميم أفلام مصرية قديمة وإعادتها إلى الحياة بنسخ جديدة صالحة للعرض وفق أحدث التقنيات. وفي إطار الاحتفال بمرور 50 عاماً على رحيل سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، اختار المهرجان ترميم فيلمَين من بطولتها، هما «نشيد الأمل» (1937) و«عايدة» (1942)، وكلاهما من إخراج أحمد بدرخان.

وعرض المهرجان، الجمعة، فيلم «نشيد الأمل» في «متحف طارق عبد الحكيم» بالحديقة الثقافية في منطقة جدة التاريخية، في حين قُدّم فيلم «عايدة» في مدينة الثقافة، بعد ترميمهما ضمن اتفاقية بين المهرجان ومدينة الإنتاج الإعلامي في مصر، وبمشاركة قناة «إيه آر تي» المالكة لحقوق الفيلمَين.

وقدّمت مريم عبد الله، عضو لجنة اختيار الأفلام العربية في المهرجان، فيلم «عايدة»، مشيرة إلى أن «مهرجان البحر الأحمر دأب في كل دورة على ترميم أفلام مصرية عدّة لتُعرَض للمرة الأولى بنسخ مُرمَّمة بتقنية (4 k) عالية الجودة عبر الشاشة الكبيرة، وتزامناً مع الذكرى الـ50 لوفاة أم كلثوم التي شاركت في بطولة 6 أفلام، فإن اللجنة الفنية اختارت هذين الفيلمين تحديداً لهذه المناسبة».

من جهتها، رحّبت أسماء السراج، المديرة التجارية لقنوات «إيه آر تي»، بالحضور، موجّهة شكرها للمهرجان على اهتمامه بترميم الأفلام المصرية. في حين قالت المهندسة ندى حسام الدين، مسؤولة الترميم بمدينة الإنتاج الإعلامي، إن فيلم «عايدة» شكَّل «حالة خاصة»، موضحة أن عملية ترميمه كانت «ملحمة حقيقية»، إذ «لم يُرمَّم الفيلم فحسب، بل كان علينا أيضاً إنقاذ (النيغاتيف) من التحلل. هناك أجزاء ستبدو مختلفةً لأنها استُنقذت قبل أن تتحلَّل تماماً، كما بُذل جهد كبير في ترميم الصوت، كونه فيلماً غنائياً، وخضع لعملية ترميم رقمية دقيقة للحفاظ على قيمته التاريخية». وأشادت بدور المهرجان في حماية التراث السينمائي.

ملصق عرض الفيلمين المُرمَّمين لأم كلثوم بالمهرجان (مهرجان البحر الأحمر)

وجاء عرض «عايدة» العام الحالي متزامناً أيضاً مع مرور 83 عاماً على عرضه الأول في 28 ديسمبر (كانون الأول) عام 1942 في سينما «استوديو مصر» بالقاهرة، وهو من إنتاج الاستوديو نفسه. ويشارك في بطولته، إلى جانب أم كلثوم، كل من المطرب إبراهيم حمودة، وسليمان نجيب، وعباس فارس، وماري منيب، وعبد الوارث عسر الذي كتب السيناريو بمشاركة فتحي نشاطي وعباس يونس.

يقدّم الفيلم مزيجاً آسراً من الرومانسية والقضايا الاجتماعية والتألق الموسيقي، وتتمحور قصته حول «عايدة» الطالبة في مرحلة «البكالوريا» (أم كلثوم) التي تتمتع بموهبة غنائية منذ طفولتها. وبعد وفاة والدها المزارع البسيط، تدعوها أسرة الباشا الذي كان والدها يعمل لديه للإقامة في القصر كي لا تبقى وحيدة. تلتحق عايدة بمعهد الموسيقى الداخلي للبنات، فيتعلق بها سامي نجل الباشا الذي يهوى الموسيقى أيضاً رغم رفض والده، كما يرفض زواجه منها؛ بسبب الفوارق الطبقية. لكن موقفه يتغيَّر بعد حضوره عرضاً موسيقياً تقدمه عايدة، لينتصر الحب في النهاية على تلك الفوارق.

وكعادة الأفلام التي تعكس روح زمنها، يُظهِر الفيلم شوارع القاهرة الهادئة في أربعينات القرن الماضي، وموديلات السيارات، والتقاليد الاجتماعية، والأزياء الكلاسيكية، إضافة إلى أغنيات الحب التي جمعت أم كلثوم بإبراهيم حمودة، مع إبراز تطور شخصية أم كلثوم وأدائها الغنائي.

وشهد الفيلم حضوراً لافتاً من جمهور المهرجان والجمهور السعودي، رغم ازدحام جدول العروض بأفلام عالمية وعربية حديثة الإنتاج. ويُفسر أنطوان خليفة، مدير البرامج العربية وكلاسيكيات الأفلام في المهرجان، هذا الإقبال بقوله: «هذه أفلام لم تُعرَض سابقاً في صالات كبيرة، ولم يشاهدها أغلب الجمهور السعودي من قبل، كما أنها تُقدَّم بتقنيات حديثة». وأضاف في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن عرض الفيلمين «لن يقتصر على المهرجان، بل سيستمر خلال احتفاليات عدّة تقام على مدار العام في مدن سعودية مختلفة»، موضحاً أن «المهرجان لا يشتري حقوق عرض هذه الأفلام، بل يحصل من الجهات المالكة على موافقتها لعرضها في المهرجان والاحتفاليات».

ويؤكد خليفة أن المهرجان، منذ دورته الأولى، يولي اهتماماً خاصاً بترميم الأفلام المصرية، حيث بلغ عدد ما رُمِّم حتى اليوم 22 فيلماً على مدى 5 سنوات.

ملصق فيلم «نشيد الأمل» (مهرجان البحر الأحمر)

ويشير إلى أن اختيار الأفلام المُرمَّمة يرتبط غالباً بمناسبات محددة، موضحاً: «أفلام يوسف شاهين رُمِّمت جميعها في فرنسا، لكننا اكتشفنا أن فيلم (الاختيار) لم يُرمَّم، فقمنا بذلك. كما ارتبط الترميم بتكريم شخصيات مصرية مثل الفنانة منى زكي في الدورة الماضية، حيث طلبت عرض فيلم (شفيقة ومتولي)، فرمَّمناه، وكذلك فيلم (اضحك الصورة تطلع حلوة) في إطار تكريمها. أما فيلم (خلي بالك من زوزو)، فجرى ترميمه بمناسبة مرور 50 عاماً على إنتاجه. واخترنا العام الحالي فيلمَي (نشيد الأمل) و(عايدة) في ذكرى مرور نصف قرن على رحيل أم كلثوم».

ويقدم برنامج «كنوز البحر الأحمر» في دورته الـ5 عروضاً مميزة لعدد من كلاسيكيات السينما العالمية، بينها 3 أفلام قصيرة صامتة: «المهاجر» لشارلي شابلن، و«ليبرتي» للوريل وهاردي، و«أسبوع واحد» لباستر كيتون، مع عزف موسيقي حي يقدمه المؤلف البريطاني نيل براند المتخصص في الموسيقى التصويرية. كما يتضمَّن البرنامج عرض فيلم الإثارة «مسحور» لألفريد هيتشكوك، وفيلم «الأزرق الكبير» الملحمي للمخرج لوك بيسون.