لا يكاد يمر يوم دون أن نطالع عنواناً في صحيفة، أو على مواقع الإنترنت، يتحدث عن جريمة بشعة هنا أو هناك، لتبدأ المحاكمات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر سلسلة لا نهائية من التغريدات والمنشورات والتقارير الإعلامية، المصحوبة بتعليقات وحملات للتعاطف مع الجاني وتبرير جريمته، وإلقاء اللوم على الضحية، وسط حالة مثيرة للدهشة من «تمجيد العنف»، والاعتياد عليه بصفته جزءاً طبيعياً من الحياة اليومية، فلم تعد مشاهد الدماء والقتل مستهجنة أو غريبة للكل، بل العكس بات البعض يحاول توثيقها بعدسة هاتفه المحمول، ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ما يثير التساؤلات حول أسباب اعتياد بعض الناس على العنف، وتمجيدهم للجناة.
وتتشابه مشاهد العنف في الشارع العربي من حيث درجة التفاعل والاستهجان والتعاطف، وإن اختلفت تفاصيل الجرائم، فخلال شهر يوليو (تموز) 2022 استيقظ الفلسطينيون على خبر استخراج جثة رجل من تحت الإسمنت في منزله، ببلدة عجة في جنوب جنين، قتله ابنه، ودفنه وصب فوقه الإسمنت.
https://twitter.com/ShehabAgency/status/1546626903775363074?s=20&t=T1dNj8R7yJrv6T9qW8kXQw
تأتي هذه الحادثة بعد أسابيع من جريمة هزت الشارع المصري، راح ضحيتها الطالبة الجامعية نيرة أشرف، التي قتلها زميلها محمد عادل على أبواب جامعة المنصورة؛ لأنها «رفضت الزواج» منه.
لم يمر يومان حتى شهدت الأردن جريمة مماثلة راحت ضحيتها إيمان إرشيد التي قُتلت بالرصاص داخل الحرم الجامعي في جامعة العلوم التطبيقية الخاصة شمال العاصمة عمان، وتمكنت قوات الأمن من تحديد مكان القاتل، ولدى محاصرته من قِبل رجال الأمن العام، أقدم على إطلاق النار على نفسه.
يبدو أن الجاني الأردني اتخذ من القاتل المصري قدوة، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي رسلة تهديد قيل إن الجاني أرسلها لإيمان، تقول «بكرا رح اجي احكي معك وإذا ما قبلتي رح اقتلك مثل ما المصري قتل البنت اليوم».
https://twitter.com/WwwDootnoor/status/1539966943540588546?s=20&t=vbStiQoPdhvAkMrNUoEX7Q
وعلى غرار نيرة أشرف المصرية، وإيمان إرشيد الأردنية، شهد أحد الشواطئ التونسية جريمة قتل وصفت بـ«البشعة» أوائل يوليو 2022، حيث طعن شاب من مواليد 1992 صديقته بسكين أمام الناس في وضح النهار، ثم حاول الانتحار بعدها.
الدكتورة ديما دبوس، المدير الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط شمال أفريقيا في مؤسسة «إكواليتي ناو»، ترجع تزايد العنف إلى «الإجراءات الاحترازية خلال جائحة كورونا»، تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإغلاق، والبطالة والضائقة الاقتصادية، كلها أسباب أدت إلى تزايد العنف في المجتمع، دون توفير وسيلة للشكوى».
بينما يرجع الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، حالة «تمجيد العنف» في الشارع العربي إلى 4 أسباب، وهي كما يقول في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط»، أن «وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت الناس تعتاد مشاهد العنف والجدال، إلى جانب غياب الأمن والقانون في الشارع لتقاعس القائمين على تنفيذه عن القيام بدورهم، وبطء الإجراءات القضائية التي تجعل المواطن يتراجع عن اللجوء للقانون، ويقرر الاعتماد على نفسه في الحصول على حقه، وأخيراً حالة الانتقائية في المحاسبة؛ فالغني وصاحب النفوذ يستطيع الهروب من يد العدالة»، مشيراً إلى أن «هناك تشابهاً في العادات والتقاليد في العالم العربي؛ وهو ما يدفع إلى تشابه الجرائم، أو محاولة محاكاتها في بعض الأحيان».
ويضيف صادق «هناك حالة من التعايش في الشارع مع العنف، وخاصة العنف الانتقائي ضد النساء والأقليات، فمن الطبيعي أن يضرب الرجل زوجته أو ابنته أو أخته أمام الناس دون أن يتدخل أحد، ومن يحاول أن يلجأ للقانون لا يجد آذاناً صاغية في هذه الوقائع، وينتهي الأمر بالصلح، وحتى إن تمت معاقبة الجاني، فهناك خوف من الانتقام فيما بعد»، ضارباً المثل بقصة فتاة المول في مصر، «التي تم تشويه وجهها من قِبل متحرش أبلغت عنه».
وتعود قصة فتاة المول إلى عام 2017 عندما تعرضت فتاة لمحاولة قتل أسفرت عن تشويه وجهها، من قِبل شاب سبق أن تحرش بها، وعوقب بالحبس أسبوعين وغرامة 100 جنيه، فعاد لينتقم منها.
لكن خالد القضاة، الصحافي الأردني والمدرب على قضايا السلامة المهنية وأخلاقيات المهنة، يرى أنه «لا يمكن الحديث عن انتشار الجريمة من عدمه لعدم وجود إحصائيات فعلية تقيس ذلك»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «ما يحدث هو زيادة في معدل نشر أخبار الجريمة بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي، والسباق المحموم بينها وبين وسائل الإعلام التقليدية على الجمهور»، مشيراً إلى أن «الناس تعودت على أخبار الجريمة، وأصبحت تتعمق في نشر تفاصيلها وصورها، فأصبحت الجريمة هي الأصل وغير ذلك استثناء».
وأضاف القضاة «نشر تفاصيل الجرائم، يعطي فرصة للشباب الصغير لتعلم كيفية ارتكابها، وبالتالي محاكاتها وتقليدها».
زهور وعمارة، أستاذة في القانون العام وحقوقية تونسية، تشير إلى أن «الجميع أصبح ينظر للعنف من منظور مواقع التواصل الاجتماعي»، تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «الواقع التونسي شهد مؤخراً تمجيداً لحالات العنف ضد النساء، تحت تأثير مواقع التواصل الاجتماعي»، ضاربة المثل بقضية المشعوذ بلقاسم الذي عُرضت قصته في شهر مايو (أيار) الماضي، ضمن برنامج «الحقائق الأربع»، وهو شخص استدرج أكثر من 900 سيدة واغتصبهن بدعوى علاجهن من الجن العاشق.
حوادث العنف لا تنتهي؛ ففي نهاية مايو الماضي، كشفت وزارة الداخلية المصرية عن تفاصيل واقعة مفجعة حدثت في إحدى محافظات دلتا مصر، بعد أن قتلت أم أطفالها الثلاثة، تاركة رسالة وداع لزوجها الذي يعمل خارج البلاد، قالت فيها «أنا يا محمد وديت ولادك للجنة، أنت أيضاً ستلحقهم للجنة، أنا قصّرت مع أطفالي خصوصاً أحمد، اصبر واحتسبهم عند الله، ويا بختك بالجنة، أما أنا، فادعيلي لأني كنت بتعذب في الدنيا ومش قادرة أعيش».
وشهدت الأردن بداية شهر يوليو 2022 جريمة مشابهة قتل فيها رجل طفلتيه 9 و12 عاماً، ودفنهما بمحيط المنزل.
https://twitter.com/ajelnews24/status/1544318143467819008?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
وفي فبراير (شباط) الماضي اعتقلت السلطات المغربية في الدار البيضاء شاباً (36 سنة)، بتهمة قتل والده وزوجة أبيه، طعناً بالسكين، وفي المغرب أيضاً في عيد الأضحى قتل شاب عشريني صديقه إثر نشوب مشادة كلامية بينهما انتهت بطعنه بسكين الأضحية.
وشهدت الجزائر نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي وقائع جريمة قتل قام خلالها شاب يحمل سلاحاً أبيض بشن هجوم على ممرضتين بالقرب من المستشفى، ليقتل الأولى ويصيب الثانية.
وفي الكويت، هزت جريمة الطفل صقر المطيري القلوب خلال شهر يوليو 2022 بعدما ترددت أنباء عن قتل والدته له.
https://twitter.com/goldendose/status/1546169052409827330?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
https://twitter.com/moi_kuw/status/1546112468270911490?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
وبدأت الناس تطالب بعدم نشر تفاصيل أكثر عن القصة، وهو ما ذكرته دكتورة مريم المنصوري، في تغريدة على حسابها الشخصي على «تويتر»، قالت فيها «أتمنى ما ينشرن تفاصيل أكثر عن قصة الولد المقتول من أمه».
https://twitter.com/dr_m_almansouri/status/1546581033516240899?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
وفي واقعة أخرى في الشهر نفسه، تداول رواد مواصل الاجتماعي مقطع فيديو لشخص يعتدي على زوجين بالسكين في شوارع الكويت.
https://twitter.com/sa_almjd/status/1546662603287662592?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
وأثارت هذه الجرائم ردود فعل واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها انتقد عدم تفاعل المارة، وإصرارهم على تصوير الجريمة بدلاً من محاولة منعها، كما تقول مهجة السقا في تغريدة لها على «تويتر» تعليقاً على واقعة نيرة أشرف «إنك تموت بشرف أحسن ما تموت وأنت ماسك موبايلك بتصور جريمة بشعة كأنك مخرج فيلم إدرامي».
https://twitter.com/mouhga22/status/1547054559251648513?s=21&t=z4_8KgYM6AlnNJYrUaZ4-Q
والبعض الآخر عمد إلى لوم الضحية نيرة أشرف، باعتبارها السبب في الجريمة، ومحاولة تبرير سلوك القاتل، لدرجة التعاطف معه، وإنشاء مجموعات لدعمه على مواقع التواصل الاجتماعي، وجمع تبرعات في محاولة لدفع الدية، لتخليصه من عقوبة الإعدام، من بينها مجموعة على «فيسبوك» حملت عنوان «ظلم محمد عادل قاتل نيرة أشرف تخفيف الحكم»، طالب روادها بمحاكمة عادلة لمحمد عادل، واصفين ما يحدث له بالظلم.
https://www.facebook.com/groups/441969830795322
وحول أسباب التعاطف مع المجرمين، يقول الدكتور صادق «السبب يرجع لتدهور أخلاق المجتمع، إضافة إلى أن بعض المتعاطفين يمارسون نفس الجرائم بشكل أو بآخر؛ مما يدفعهم تلقائياً للتعاطف مع أقرانهم»، مؤكداً أهمية دور الإعلام في «فرملة المجتمع، وعدم تشجيع العنف، أو التعاطف مع المجرمين، كما يحدث الآن».
بينما يرى خالد القضاة، أن «الجمهور يستغل هذه الجرائم وسيلة لتوجيه انتقادات سياسية للحكومة، والتعبير عن احتقانه من إجراءاتها، وهو ما يفسر تعاطفه أحيانا مع الجناة انتقادا لتقصير الدولة في أداء دورها، كما حدث مؤخراً في قضية السطو على البنوك في الأردن، حيث تعاطف الجمهور مع اللصوص، وكانوا يتابعون نجاحهم وفشلهم، وخططهم، بتشجيع من الإعلام؛ لأن المؤسسات البنكية رمز لسيطرة الدولة على الناس وتكبيلهم بالقروض».
وهنا تقول وعمارة، إن «قضية بلقاسم على سبيل المثال أثارت بلبلة على وسائل التواصل الاجتماعي وانقسم الرأي العام التونسي بين رافض لما أقدم عليه بلقاسم وبين من يلوم النساء لأنهن خضعن لأكاذيب المشعوذ، ووصل الأمر إلى الحديث عن هشاشة المرأة، وابتعادها عن الدين، مستنكرين قبول النساء بمثل هذه الحلول الجنسية، ومجّد البعض هذا العنف الجنسي الذي سلط على الضحايا كنوع من التشفي والعقاب لما أقدمن عليه».
وتتهم دبوس المجتمع العربي بـ«الذكوري»، وتقول، إن «المجتمع دائماً ما يتعاطف مع الرجل ويلوم المرأة”، ضاربة المثل «بجريمة قتل شهدتها لبنان مؤخرا، قتل فيها رجل زوجته مع سبق الإصرار والترصد، لكن المجتمع تعاطف معه، بما في ذلك القضاء، وتم تخفيف الحكم عليه، تحت دعوى اتهامها بالخيانة».
الاحتفاء بالقتلة والتعاطف معهم ليس ظاهرة جديدة على العالم، وإن بدا أكثر وضوحاً اليوم بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، ففي عام 1925 اعتقل غيرالد شابمان في ولاية إنديانا الأميركية، والذي كان يعدّ واحداً من أخطر عشرة مجرمين في أميركا، وخلال 6 أيام من المحاكمة تجمع الناس خارج المحكمة، وفور صدور حكم الإعدام شنقاً «لعن الرجال وبكت النساء»، وقالت صحيفة «ذا هارفارد كريمسون» في تقرير بتاريخ 6 أبريل (نيسان) 1925، إن «الصحف لعبت دوراً في زيادة شعبيته عند الناس، وعندما يعدم سيغطى قبره بالورود»، وهو ما حدث بالفعل، حيث نفذ الحكم عام 1926، ولسنوات بعد دفنه ظلت النساء تزور قبره وتضع حوله الزهور.
ويعد تيد باندي واحداً من أشهر المجرمين في التاريخ الأميركي، حيث قتل واغتصب نحو 100 امرأة، وتم القبض عليه وإعدامه في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وكان يتلقى رسائل إعجاب أثناء وجوده في السجن، وعندما عرضت نتفليكس حلقات وثائقية تروي قصته، وتتضمن تسجيلات صوتية له، عام 2019 حاز باندي تعاطف المشاهدين؛ وهو ما دفع البعض للمقارنة بين حالته وبين حالة التعاطف مع محمد عادل.
https://www.facebook.com/samar.alzohairy11/posts/pfbid02n9cregwtgawK4fdqhZb9ufCfuAY45Uvnvg7zaCNDuoRLHv7ommAkXwxqetfUpgwml
ويشير صادق إلى أنه «مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وغياب الأمن، يزداد العنف، خاصة مع غياب الوازع الأخلاقي»، محملاً الدولة مسؤولية سياسية عن «إعادة ضبط بوصلة المجتمع الأخلاقية»، ويقول «في أحداث العنف الكبرى في العالم عادة ما يكون هناك تحرك من الجهات العليا في الدولة لإدانة العنف، ومواساة الضحايا، كما يحدث في أحداث إطلاق النار المتكررة في الولايات المتحدة، وهو ما يؤكد عدم تسامح الدولة مع العنف، ويساهم في توجيه المجتمع أخلاقياً، لكن للأسف رغم كثرة الحوادث في المنطقة العربية، لم نرَ تحركات مماثلة».
«تمجيد العنف» يصدم الشارع العربي
حملات تعاطف تحركها السوشيال ميديا... وخبراء يعوّلون على «دور الدولة»
«تمجيد العنف» يصدم الشارع العربي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة