الحكومة الفرنسية الجديدة لم تحمل مفاجآت

ماكرون فشل في توسيع دائرة الداعمين للتوصل إلى الأكثرية المطلقة

الرئيس الفرنسي ورئيسة وزرائه لدى وصولهما إلى قصر الإليزيه لحضور أول اجتماع للحكومة الجديدة أمس (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي ورئيسة وزرائه لدى وصولهما إلى قصر الإليزيه لحضور أول اجتماع للحكومة الجديدة أمس (أ.ف.ب)
TT

الحكومة الفرنسية الجديدة لم تحمل مفاجآت

الرئيس الفرنسي ورئيسة وزرائه لدى وصولهما إلى قصر الإليزيه لحضور أول اجتماع للحكومة الجديدة أمس (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي ورئيسة وزرائه لدى وصولهما إلى قصر الإليزيه لحضور أول اجتماع للحكومة الجديدة أمس (أ.ف.ب)

بعد سبعين يوماً على إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية لولاية ثانية، وبعد 15 يوماً على الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي منيت بها الكتلة الرئاسية المسماة «معاً» بفشل كبير، إذ لم تحصل على الأكثرية المطلقة، أعلن قصر الإليزيه أمس، تشكيلة الحكومة الجديدة من غير مفاجآت تذكر. فالحقائب السيادية الرئيسية، في الحكومة الثانية لرئيستها إليزابيث بورن، بقيت من غير تغيير، إذ احتفظ الوزراء الرئيسيون الذين يشغلون وزارات الدفاع والخارجية والاقتصاد والعدل والداخلية بحقائبهم.
وطالت التغييرات أربع وزيرات، أولاهن وزيرة شؤون البحار يائيل براون - بيفيه التي انتخبت رئيسة للبرلمان، والثلاث الأخريات بسبب خسارتهن الانتخابات التشريعية، وهن: وزيرات العدل والنقلة البيئوية والمناطق الفرنسية لما وراء البحار. وأبرز الخارجين من الحكومة وزير شؤون المعاقين داميان آباد المتهم بمحاولات اغتصاب والذي فتح تحقيق قضائي بحقه.
وتكمن أهمية آباد في أنه كان أبرز «غنائم» ماكرون في الحكومة السابقة، إذ إنه كان يرأس في البرلمان السابق مجموعة نواب اليمين التقليدي لحزب «الجمهوريون» الذي تركه ليدخل حكومة بورن الأولى، ثم ليترشح على لوائح حزب ماكرون في الانتخابات النيابية.
وبالمقابل، فإن الوزيرة المفوضة لشؤون التنمية والفرنكوفونية والشراكات الدولية، الطبيبة النسائية كريزولا زاكاروبولو، المتهمة بدورها بعمليات اغتصاب بحق نساء في عيادتها، فإنها بقيت في منصبها. والفرق بينها وبين آباد أنه حتى اليوم لم يتم فتح أي تحقيق قضائي بحقها. وكان وضع الوزير آباد غير مريح منذ أن ظهرت في الصحافة أولى الاتهامات المساقة بحقه. وعلم أن رئيسة الحكومة إليزابيث بورن سعت إلى استقالته أو إقالته منذ البداية، إلا أن قصر الإليزيه كان له رأي مختلف انطلاقاً من مبدأ أن كل متهم بريء حتى تتم إدانته. بيد أن الضغوط الإعلامية والسياسية دفعت ماكرون، في النهاية، إلى التخلي عن الوزير المقال الذي يعود لاحتلال مقعده النيابي.
- حكومة «أفضل الممكن»
تبدو الحكومة الجديدة أنها حكومة «أفضل الممكن». ماكرون وبورن كانا يأملان في تشكيل ائتلاف حكومي يوفر لهما الأكثرية المطلقة في البرلمان من أجل السير بالبرنامج الإصلاحي الذي يريدان وضعه موضع التنفيذ إبان ولاية رئيس الجمهورية الثانية. بيد أن جهودهما فشلت في إقناع أي من «الأحزاب الحكومية» بقبول صيغة التحالف أو الائتلاف الحكومي. وكانت آمالهما تنصب بالدرجة الأولى على حزب «الجمهوريون» الذي يتمتع بـ64 مقعداً في البرلمان الجديد.
ورغم وجود شخصيات من الحزب المذكور كانت تدفع باتجاه قبول العرض، فإن الغلبة كانت في المحصلة للأكثرية الرافضة للالتحاق بالركب الحكومي. وكانت الكلمة الأخيرة لرئيس مجموعة الحزب البرلمانية، أوليفيه مارليكس، الذي وجه رسالة رسمية لرئيسة الحكومة يعلمها فيها رفض حزبه اقتراح الائتلاف المطروح مع الاستعداد للتصويت لصالح مشاريع القرارات الحكومية في حال توافقها مع توجهات الحزب.
كذلك، فإن بورن كانت تأمل في اجتذاب أحد أبرز شخصيات الخضر والمرشح الرئاسي السابق، يانيك جادو. لكن الأخير رفض العرض قائلاً في مقابلة إذاعية، إن الدخول إلى الحكومة «ليس خياراً» بالنسبة إليهم، معتبراً أن اجتذاب شخصيات من خارج أحزاب السلطة إلى الحكومة «أسلوب غير مفيد». وفي نظره، المطلوب من ماكرون أن يدفع باتجاه ديناميكية تشدد على مواجهة التغيرات المناخية وتعمد إلى إدخال الإصلاحات المؤسساتية الضرورية للبلاد.
وكان واضحاً أن صعوبة التوصل إلى ائتلاف حكومي والعجز عن اجتذاب شخصيات من المعارضة من الصف الأول قد دفعت ماكرون وبورن إلى تعزيز وضع الحزبين الرئيسيين المتحالفين معه في إطار تكتل «معاً»، وهما الحركة الديمقراطية «مودم» التي تنتمي إلى الوسط، وحزب رئيس الوزراء الأسبق إدوارد فيليب «أورايزون»، وذلك من خلال تعيين وزيرين رئيسيين ينتميان إلى حركتيهما.
- أبرز الوجوه الجديدة
هكذا، لم تأتِ حكومة بورن بجديد يعتد به، رغم دخول وجوه جديدة إليها وإجراء حركة تنقلات بين الوزراء. وأبرز الوجوه الجديدة وزيرة الشؤون الأوروبية، لورانس بون، التي تحل محل الوزير السابق كليمان بون، المقرب من ماكرون. وعهدت لبون وزارة المواصلات الرئيسية في المرحلة المقبلة باعتبار المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع والاستحقاقات الرياضية التي ستشهدها فرنسا في الأشهر والسنوات المقبلة.
وزيرة الشؤون الأوروبية الجديدة التي عينت برتبة وزيرة دولة، كانت تشغل وظيفة رئيسة الفريق الاقتصادي في منظمة التعاون والتنمية الأوروبية. وفي الحكومة الجديدة، تم تغيير أوليفيا غريغوار، الوزيرة الناطقة السابقة باسمها وعين مكانها وزير الصحة السابق أوليفيه فيران الذي يعرفه الفرنسيون لأنه كان يطل عليهم بشكل شبه يومي زمن اشتداد وباء كوفيد. وفي وزارة بورن السابقة كان فيران يشغل حقيبة وزير شؤون البرلمان التي عهد بها إلى وزير التجارة السابق فرنك ريستير.
ومن الوجوه الجديدة الطبيب فرنسوا براون، الذي أعطي حقيبة الصحة بعد أن برز اسمه مؤخراً بفضل المقترحات الـ41 التي قدمها للحكومة للنهوض بالقطاع الصحي. ومن الوجوه الجديدة أيضاً ساره الحائري، الفائزة حديثاً بمقعد نيابي، والتي تم تعيينها وزيرة دولة لشؤون الشباب وخدمة العلم، وهي تنتمي إلى حركة «موديم» التي يرأسها الوزير السابق فرنسوا بايرو الذي يعد أبرز السياسيين الداعمين لماكرون. كذلك يبرز اسم كارولين كايو، رئيسة بلدية مجدينة بوفيه (شمال باريس) المنتمية إلى حزب «الجمهوريون»، والتي عينت وزيرة مفوضة لشؤون المجموعات المحلية. وأيضاً برز اسم أوليفيه كلاين رئيس بلدية مدينة كليشي سو بوا، والاشتراكي السابق الذي عين وزير دولة لشؤون المدينة والإسكان.
- انتقادات من اليسار واليمين
لم تكن ردود الفعل على ولادة الحكومة الجديدة مفاجئة. فالانتقادات انصبت عليها من اليسار المتشدد واليمين المتطرف اللذين أخرجهما ماكرون وبورن من حقل «الأحزاب الحكومية»، أي تلك التي يمكن التعاون معها، مستهدفين بذلك حزب «التجمع الوطني» الذي يتمتع بـ89 نائباً، وحزب «فرنسا المتمردة» الذي حصل على 75 نائباً ويعد عصب «الاتحاد الشعبي الاقتصادي والبيئوي الجديد» الذي يرأسه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون.
ولدى «الاتحاد الشعبي» 150 نائباً في البرلمان. وانتقدت ماتيلد بانو، رئيسة مجموعة نواب «فرنسا المتمردة» حركة «الكراسي الموسيقية»، أي تبادل الحقائب والاستشارات المطولة التي انتهت بإعادة سكرتيرة الدولة السابقة مارلين شيابا، إلى الحكومة. وبدورها وجهت النائبة ساندرين روسو، عن حزب «الخضر»، سهامها على تعيين كريستوف بيشو وزيراً للانتقال البيئوي الذي كان دائم الغياب عن الحركة البيئوية.
من جانبها، انتقدت المرشحة الرئاسية السابقة وزعيمة «التجمع الوطني» مارين لوبن التوليفة الحكومية الجديدة، معتبرة أن من فشلوا «أعيد تكليفهم»، في إشارة إلى بقاء وزير الداخلية جيرالد درامانان في منصبه، بل في تكليفه حقيبة وزارية إضافية هي شؤون المناطق الفرنسية لما وراء البحار. وقال الناطق باسم الحزب، لوران جاكوبيللي، إن درامان «تمت ترقيته رغم فشله وأكاذيبه المتكررة وعجزه عن مواجهة تدفق الهجرات»، مضيفاً أن «الماكرونية لا تلتفت أبداً لنتائج الانتخابات».


مقالات ذات صلة

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي»  بالألعاب النارية

طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي» بالألعاب النارية

يستخدم فريق أساليب جديدة بينها الألعاب النارية ومجموعة أصوات لطرد الطيور من مطار أورلي الفرنسي لمنعها من التسبب بمشاكل وأعطال في الطائرات، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتطلق كولين بليسي وهي تضع خوذة مانعة للضجيج ونظارات واقية وتحمل مسدساً، النار في الهواء، فيصدر صوت صفير ثم فرقعة، مما يؤدي إلى فرار الطيور الجارحة بعيداً عن المدرج. وتوضح "إنها ألعاب نارية. لم تُصنّع بهدف قتل الطيور بل لإحداث ضجيج" وإخافتها. وتعمل بليسي كطاردة للطيور، وهي مهنة غير معروفة كثيراً لكنّها ضرورية في المطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

تتجه الأنظار اليوم إلى فرنسا لمعرفة مصير طلب الموافقة على «الاستفتاء بمبادرة مشتركة» الذي تقدمت به مجموعة من نواب اليسار والخضر إلى المجلس الدستوري الذي سيصدر فتواه عصر اليوم. وثمة مخاوف من أن رفضه سيفضي إلى تجمعات ومظاهرات كما حصل لدى رفض طلب مماثل أواسط الشهر الماضي. وتداعت النقابات للتجمع أمام مقر المجلس الواقع وسط العاصمة وقريباً من مبنى الأوبرا نحو الخامسة بعد الظهر «مسلحين» بقرع الطناجر لإسماع رفضهم السير بقانون تعديل نظام التقاعد الجديد. ويتيح تعديل دستوري أُقرّ في العام 2008، في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، طلب إجراء استفتاء صادر عن خمسة أعضاء مجلس النواب والشيوخ.

ميشال أبونجم (باريس)
«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

عناصر أمن أمام محطة للدراجات في باريس اشتعلت فيها النيران خلال تجدد المظاهرات أمس. وأعادت مناسبة «يوم العمال» الزخم للاحتجاجات الرافضة إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)


2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟