أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس، سلسلة لقاءات مع قادة الأحزاب السياسية بعد يوم واحد على ظهور النتائج الكارثية التي حصدها حزبه في الانتخابات التشريعية التي حرمته من التمتع بأكثرية مطلقة في البرلمان كانت ستمكّنه من وضع مشاريع القوانين والإصلاحات والوعود التي التزم بها موضع التنفيذ.
وبعكس ذلك، لم يحصل تكتله السياسي المسمى «معاً» إلا على أكثرية نسبية، ما عُدّ بمثابة هزيمة سياسية له وبداية متعثرة لعهده. علماً بأنه أُعيد انتخابه لولاية ثانية من خمس سنوات في 24 أبريل (نيسان) الماضي. ونادراً ما حُرم رئيس للجمهورية، انتُخب حديثاً، من التمتع بأكثرية مطلقة في البرلمان. والمثال الوحيد المعروف يعود لعام 1988 عندما حصل الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران في عهده الثاني على أكثرية نسبية. بيد أن الفارق بين الحالتين أن ميتران كان بحاجة لبضعة أصوات لا تزيد على العشرة بينما ماكرون يحتاج إلى 45 صوتاً ليصل إلى عتبة الـ289 صوتاً التي تشكل الأكثرية المطلقة.
ثمة إشكالية يتعين على إيمانويل ماكرون حلها تكمن في السؤال التالي: ما الوسيلة المثلى لتعويض الخسارة السياسية التي مني بها وإنقاذ عهده الجديد والعثور على العدد الضروري من النواب حتى تكون حكومته قادرة على إدارة شؤون البلاد والتمكن من تقديم مشاريع القوانين إلى المجلس النيابي والحصول على تصويت إيجابي عليها؟ أما السؤال الرديف فيتناول مصير رئيسة الحكومة أليزابيت بورن التي قدمت استقالتها صباح أمس إلى ماكرون جرياً على العادة المعمول بها في فرنسا بعد حصول الانتخابات التشريعية. بيد أن ماكرون رفض قبولها وطلب منها البقاء في منصبها «لتتمكن الحكومة من متابعة مهامها والتحرك هذه الأيام» لمواجهة المسائل الملحّة. علماً بأنه سيكون مأخوذاً في الأيام القادمة بالملفات الدولية وأبرزها ثلاث قمم (الاتحاد الأوروبي، ومجموعة السبع، والحلف الأطلسي). لكن الرأي السائد أن بقاءها مؤقت وأن مسألة رحيلها ستُطرح بقوة في الأيام القليلة القادمة.
لا توفر الخريطة السياسية الجديدة الكثير من الحلول للرئيس الفرنسي الذي يجد في مواجهته كتلتين نيابيتين غير راغبتين في مساعدته: فعلى يسار الخريطة السياسية يتمترس الاتحاد الشعبي اليساري الذي حصل على 150 مقعداً في البرلمان الجديد. وعلى الجهة المقابلة ترابط كتلة اليمين المتطرف التي حققت اختراقاً غير متوقع بحصولها على 98 مقعداً فيما حصتها من البرلمان السابق لم تتعد المقاعد الثمانية. وما بين الكتلتين ولكن على يمين كتلة ماكرون، ترتع كتلة اليمين الكلاسيكي (حزب الجمهوريون واتحاد الديمقراطيين والمستقلين) التي تتشكل من 64 نائباً.
احتمالان لا ثالث لهما
وأمام ماكرون احتمالان لا ثالث لهما: إما أن ينجح في إقناع المجموعة الأخيرة بالدخول مع تكتله في ائتلاف حكومي يتم التفاوض على شروطه بين الطرفين على غرار ما هو حاصل في ألمانيا مثلاً بحيث يكون الرابط بين المجموعتين الالتزام بمضمون الاتفاق، أي السياسات التي ستنفّذها الحكومة للسنوات الخمس القادمة -والتوصل إلى اتفاق كهذا له ثمن يتعين على ماكرون دفعه إن عن طريق توزير شخصيات من «الجمهورويون»- أو عن طريق قبول التعديلات التي يطرحها شريكه على السياسات الحكومية. أما الحل الآخر فيقوم على السعي لإيجاد أكثرية متحركة أو متغيرة، إن لدى اليمين أو اليسار وحسب مشاريع القوانين المعروضة.
وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون الذي جاء إلى السلطة في عام 2017 رافعاً راية تجاوز الأحزاب والآيديولوجيات، استعار لرئاسة حكومات عهده الأول شخصيتين يمينيتين هما إدوار فيليب وجان كاستيكس. كذلك، فإن أبرز وزيرين في حكومته الراهنة يأتيان من صفوف اليمين وهما برونو لومير، وزير الاقتصاد، وجيرالد درامانان، وزير الداخلية. يضاف إليهما داميان أباد، وزير المعاقين ورئيس مجموعة نواب «الجمهوريون» في البرلمان السابق. وإذا نجح رئيس الجمهورية في اجتذاب «الجمهوريون» ككل، يكون قد وجد حلاً لمعضلته لأن عددهم يفوق الستين.
إلا أن مشكلته تكمن في وجود انقسامات عميقة داخل صفوف الحزب لجهة كيفية التعاطي مع عهده. وأمس، قال رئيسه كريستيان جاكوب الذي كان أول من التقاهم ماكرون، إن حزبه «يرفض الدخول في منطق (السير) بائتلاف» وإنه لن يلعب دور سترة النجاة لماكرون. إلا أنه، في المقابل أردف مؤكدا ًأنه «لن يكون أبداً سبباً في شلل المؤسسات»، داعياً رئيس الجمهورية إلى «كشف مقترحاته». لكنّ موقف جاكوب لا يلاقي إجماعاً داخل الحزب. والدليل على ذلك أن شخصية بارزة فيه هو النائب والوزير السابق جان فرنسوا كوبيه، دعا إلى الانخراط في ائتلاف حكومي مع ماكرون.
ويدفع الرئيس اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي في هذا الاتجاه أيضاً وسبق له أن دعا مرشحين للانتخابات للانضواء تحت راية الحزب الرئاسي «النهضة» أو تحت راية تكتله «معاً».
وما يشجع ماكرون على العمل في هذا الاتجاه وجود تقارب سياسي وآيديولوجي وبرنامجي بين الطرفين بعكس ما هي الحال مع المجموعات السياسية الأخرى.
الحزب الاشتراكي
أمس، كان أوليفيه فور، أمين عام الحزب الاشتراكي ثاني الشخصيات التي التقت ماكرون. والحزب المذكور الذي هو جزء من «الاتحاد الشعبي الجديد» يتمتع بـ22 مقعداً في البرلمان الجديد وهم يجاورون 20 نائباً اشتراكياً ويسارياً من المنشقين.
وكان لافتاً قول المسؤول الاشتراكي إن حزبه «مستعد للتقدم» أي للتعاون مع الحكومة إذا عمدت إلى اتخاذ تدابير لدعم القوة الشرائية للشرائح الأكثر هشاشة أو لرفع قيمة الحد الأدنى للأجور وغيرها من التدابير التي يطالب بها الحزب أساساً والتي هي جزء من البرنامج الجماعي لتكتل «الاتحاد الشعبي الجديد». وكما هو الحال مع اليمين الكلاسيكي، فإن ماكرون نجح في السنوات الماضية في اجتذاب شخصيات من اليسار الاشتراكي لا بل إن رئيسة حكومته شخصياً وفي الأساس، ذات توجهات اشتراكية إضافةً إلى أن ماكرون كان وزيراً في عهد الرئيس الاشتراكي السابق فرنسوا هولاند.
تبدو هاتان المجموعتان اليوم الأكثر استعداداً ربما للتصويت لصالح مشاريع قوانين تراعي طروحاتهما مع الرفض المسبق للدخول في منطق أحلاف من شأنها أن تُفقدهما هويتهما السياسية.
لوبن وميلونشون
أما الأطراف الأخرى الفاعلة وعلى رأسها مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف وحزب «فرنسا المتمردة» الذي يرأسه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون، فإنهما أكثر جذرية في التعاطي مع مقترحات ماكرون. والدليل على ذلك أنهما، منذ أن عُرفت نتائج الانتخابات، يطالبان باستقالة رئيسة الحكومة. وأكد نواب من حزب الأخير أن «فرنسا المتمردة» سوف يقدم اقتراحاً للتصويت من أجل سحب الثقة من إليزابيت بورن في اجتماع البرلمان يوم الخامس من يوليو (تموز) القادم.
ومن جانبهما، أعلن فور ونظيره أمين عام الحزب الشيوعي فابيان روسيل، أنهما «لا يستبعدان» العمل من أجل إسقاط الحكومة، وهو ما لمحت إليه مارين لوبن أو مسؤولون من حزبها والتي رأت أن بورن أصبحت ضعيفة لا بل إنها فقدت شرعية ترؤس الحكومة.
وتفيد مصادر واسعة الاطلاع بأن مسألة بقاء بورن أو رحيلها مطروحة داخل الدائرة الرئاسية. لكن حسمها مؤجل لما بعد اتضاح صورة التحالفات القادمة. ولأن بورن تريد إثبات أنها ما زالت في موقعها، فقد دعت أمس إلى اجتماع حكومي حضره الوزراء كافة، بمن فيهم ثلاث وزيرات منين بالهزيمة انتخابياً ويفترض خروجهن من الحكومة وفق التقليد المعمول به. كذلك، ستبدأ منذ اليوم استقبال رؤساء المجموعات النيابية المتشكلة في البرلمان الجديد، بالتوازي مع ما يقوم به الرئيس الفرنسي الذي يُنهي اليوم لقاءاته معهم.
ليس سراً لأحد أن مرحلة من انعدام الاستقرار السياسي قد بدأت في فرنسا وربما ستدوم حتى نهاية عهد ماكرون الثاني، إلا إذا تبين لرئيس الجمهورية صعوبة التغلب على شلل المؤسسات وأن المَخرج يكون في حل المجلس النيابي والدعوة إلى انتخابات جديدة.
لكنّ الجهود الرئاسية وأيضاً تحرك بورن يصبّ في خانة إيجاد توافقات تمنع الشلل وتمكّن الأحزاب السياسية من العمل معاً في إطار صيغة سياسية مرنة تسعى إلى توفير توافق حول ملفات أساسية واستبعاد المسائل الخلافية الكثيرة التي أبرزها خطة ماكرون لرفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، وهو ما يلقَى رفضاً واسعاً باستثناء حزب «الجمهوريون».