لم يكن بالإمكان أكثر مما كان، هذا هو عنوان حصيلة القمة الأوروبية الاستثنائية التي أنهت أعمالها أمس الثلاثاء في بروكسل باتفاق جزئي على حظر صادرات النفط الروسي التي تشكل المورد الرئيسي لخزانة الكرملين، على أن يبدأ تنفيذ الخطوة خلال هذه السنة فتتوقف بلدان الاتحاد الأوروبي عن تلقي 90 في المائة من النفط الذي تستورده حالياً من موسكو حسب تقديرات المفوضية، أي ما تعادل قيمته 90 مليار دولار سنوياً.
وسارعت أوكرانيا إلى الترحيب بالحظر الجزئي الأوروبي لواردات النفط الروسي. وقالت وزارة الخارجية الأوكرانية في بيان: «نتوقع أن تخسر روسيا بحلول نهاية 2022 ما يصل إلى 90 في المائة من صادراتها النفطية لأوروبا». وأضافت: «هذا يعني أن الآلة الحربية الروسية لن تحصل على عشرات المليارات من الدولارات في حربها ضد أوكرانيا».
وكان القادة الأوروبيون قد توصلوا إلى «الاتفاق الوحيد الممكن»، كما قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، عند انتصاف ليلة اليوم الأول من القمة التي كانت تخيم عليها أجواء الفشل التام بعد شهر من المفاوضات المتعثرة حول الحزمة السادسة من العقوبات التي كشفت مواطن التردد والتباين بين الدول الأعضاء حول قدرة الاتحاد على الذهاب بعيداً في المواجهة الاقتصادية مع موسكو وحول الموقف العام المشترك من حرب أوكرانيا التي بدأت ترخي بظلال ثقيلة على المشهدين الاقتصادي والاجتماعي في معظم البلدان الأوروبية.
وينص الاتفاق على التخلي فوراً عن استيراد ثلثي صادرات النفط الروسي الحالية إلى بلدان الاتحاد، على أن ترتفع هذه النسبة تدريجياً حتى تصل إلى 92 في المائة مطلع العام المقبل بعد وقف جميع الإمدادات عن طريق البحر، وموافقة ألمانيا وبولندا على وقف استيراد النفط الذي يصلها عبر أنبوب «دروزبا» البري والسماح للمجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك بمواصلة وارداتها التي لا تزيد على 10 في المائة من إجمالي الواردات الأوروبية. وتجدر الإشارة إلى أن النفط يشكل حالياً 37 في المائة من إجمالي الصادرات الروسية، ما يعني أن موسكو ستكون مضطرة للبحث عن أسواق جديدة لها بأسعار مخفضة، خصوصاً أنها ستكون مرغمة على تصديرها بحراً.
لكن تداعيات «خنق» صادرات النفط الروسية لا تقتصر فحسب على خزينة الكرملين، حيث إن الاتحاد الأوروبي هو ثاني مستورد للنفط في العالم. ويقر خبراء في المفوضية بأنه سيكون من الصعب جداً على البلدان الأوروبية إيجاد مصادر بديلة قبل نهاية هذا العام لتعويض كامل الصادرات الروسية. يضاف إلى ذلك أن ارتفاع أسعار الطاقة بدأ ينعكس ارتفاعاً حاداً في نسبة التضخم التي تجاوزت 8 في المائة في بلدان الاتحاد منذ بداية الحرب. ولاحتواء هذه التداعيات على المدى الطويل، كلفت القمة المفوضية الأوروبية بوضع خطة لخفض الطلب على النفط ومشتقاته، وتنويع مصادر إنتاج الطاقة المتجددة، واعتماد أسلوب الشراء المشترك لخفض الأسعار ومنع المضاربات بين الدول الأعضاء في سعيها إلى تغطية احتياجاتها من السوق الدولية. وفيما يدعو بعض الخبراء إلى عدم الذهاب بعيداً في العقوبات الأوروبية على روسيا لما يمكن أن ينجم عنها من تدهور خطير لاقتصاد دولة كبرى لا بديل للأوروبيين عن التعايش معها عاجلاً أو آجلاً، تدرس المفوضية حزمة إضافية من العقوبات تشمل وقف استيراد الغاز الروسي الذي يشكل حالياً 40 في المائة من إجمالي الاحتياجات الأوروبية. لكن المسؤولين في المفوضية يقولون إن هذا الملف ليس مطروحاً على جدول الأعمال في القريب المنظور «إلا في حال دخول الحرب مرحلة أشد عنفاً بكثير». وتجدر الإشارة إلى أن ألمانيا، المحرك الرئيسي للاقتصاد الأوروبي، تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 55 في المائة، وأن وقف استيراده فجأة من شأنه أن يؤدي إلى انكماش خطير للاقتصاد الألماني تكون عواقبه وخيمة على منطقة اليورو بكاملها.
ومن التدابير التي تضمنتها الحزمة الجديدة عقوبات على 80 من الأثرياء المقربين من الكرملين، ومنع ثلاث محطات تلفزيونية من البث إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وفصل أكبر مصرف روسي عن نظام «سويفت» للتحويلات النقدية.
إلى جانب ذلك تناولت القمة الأوروبية أزمة الغذاء العالمية الناجمة عن وقف صادرات الحبوب من أوكرانيا، والتي تثير قلقاً عميقاً في عواصم الاتحاد الكبرى خشية تداعياتها على تدفقات الهجرة من البلدان المتضررة باتجاه دول الاتحاد. وأقرت القمة خطة لمساعدة الدول الأفريقية على زيادة إنتاجها من المواد الزراعية الغذائية وتحسين البنى التحتية التي تسمح لها بمواجهة أزمات مماثلة في المستقبل. كما أقرت خطة، بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي، لتأمين احتياجات بعض البلدان الأفريقية من الحبوب في الأشهر المقبلة، ولضبط المخزونات الدولية منعاً لارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق الدولية.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ألغى مؤتمره الصحافي الذي كان مقرراً بعد القمة واكتفى بدردشة سريعة مع وسائل الإعلام عند المغادرة، قال إن الاتصالات الأخيرة التي أجراها «تبعث على التفاؤل بالنسبة للتوصل إلى اتفاق قريباً يسمح بإخراج الحبوب المخزنة في الموانئ الأوكرانية عن طريق البحر الأسود»، وقال إن تركيا أبدت استعداداً للتجاوب من أجل تسهيل عبور السفن مضائق هذا البحر الذي يعود لها حق السماح بعبوره لسفن البلدان التي ليست مطلة عليه. من جهته، أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال أنه سيتوجه في الأيام القليلة المقبلة إلى نيويورك ليبحث مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تفاصيل خطة إخراج الحبوب الأوكرانية بإشراف المنظمة الدولية وضماناتها.
من جهته، قال المستشار الألماني أولاف شولتس إن بلاده متمسكة بهدفها لأن تصبح مستقلة عن واردات النفط الروسي بحلول نهاية العام، مضيفاً أنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن خيارات التعامل مع مصفاة شفيت النفطية. وسئل شولتس عما إذا كان تأميم المصفاة هو أحد الخيارات، فقال: «سنقرر في نهاية (مناقشاتنا) الطريق الذي سنسلكه... الطريق الذي نعتقد أنه الصحيح»، حسب ما ذكرت وكالة «رويترز». وكان شولتس يتحدث إلى الصحافيين في بروكسل بعد القمة مع زعماء الاتحاد الأوروبي.