يغوص كثير من الفنانين في دهاليز النفس الإنسانية ويبحثون بشكل مضنٍ تجاه اكتشاف أسرارها ومَواطن اختلافها وتنقلها ما بين الاضطراب والاستقرار والشقاء والسعادة، وفي أعمال التشكيلي المصري د.وائل درويش، يخوض المتلقي رحلة تأملية لصراعات الإنسان المعاصر مع ذاته في عالمه اليومي بنمطه المتسارع وانحناءاته الحادة وصولاً إلى الراحة والطمأنينة المنشودتين.
وفي معرضه الجديد المقام تحت عنوان «أنا... أنت» في غاليري «ديمي»، يتناول درويش في لوحاته فكرة فلسفية تقوم على تعدد الشخصيات داخل النفس، ربما كمحاولة لمواجهة الحياة التي تعجّ بالضجيج والتقلبات الدائمة، فعلى مسطح لوحاته نكتشف أن للشخص الواحد ظلالاً من شخوص آخرين بعضهم يقتربون منه للغاية كما لو أنهم يرغبون في الالتصاق به، وبعضهم يبتعدون عنه كما لو أنهم يتبرأون منه، لكنهم في كل الأحوال «تحت الطلب» أو في وضع الاستعداد بالنسبة له ليستعين بأحدهم وفقما شاء ووقتما أراد حين يتطلب الأمر ذلك.
يقول درويش لـ«الشرق الأوسط»: «لا أجسّد في أعمالي تعدد الشخصيات كمرض نفسي مثل الاضطرابات الانفصامية، أو الشيزوفرينيا، فتلك قضية أخرى، لكنني أضع الإنسان المعاصر أمام نفسه حين يتحول ويعيد تشكيل نفسه كنوع من التصدي لمشكلاته ومواقفه الحياتية المختلفة».
ويرى أن «داخل الكثير من الأفراد شخصيات وهويات عدة لسبب ما هم فقط الذين يعرفونه كالغربة والتشتت والصدمات المتتالية، وكل فرد يستدعي الشخصية التي يريدها بشكل طبيعي وسلس وفق الحاجة أو الموقف الذي يواجهه، أي أنه نوع من تبادل الأدوار داخله، والغريب أن لكل شخصية أسلوبها ونمط تفكيرها ومستوى حديث خاصاً بها وحدها، فنحن لدينا الكثير من الشخصيات الخفية التي قد لا نتعرف عليها إلا حين نواجه ظروفاً معينة»، على حد تعبيره.
إلى هذا تدحض أعمال المعرض الفكرة التي كانت شائعة في الماضي من أن شخصية الإنسان ثابتة إلى حد بعيد، وتتلاقى مع ما تؤكده الأبحاث الحديثة وهو أن الشخصية تتغير في كل مراحل العمر، وترافق هذا التغير غالباً أحداثاً رئيسية في الحياة، تخلق شخصاً جديداً، ولكن هل تمحو الشخوص السابقة؟ المتأمل للوحات درويش في معرضه المقام حتى 14 أبريل (نيسان) المقبل، يكتشف كم يخوض شخوصه التي تشبه الكتل الصماء صراعات مع ذاتها، ومع ما يحيط بها ومع المجهول أيضاً في الماضي والحاضر والمستقبل، فقد ترك الزمن خربشات واضحة على جدران الوجدان والشخصية عبّر عنها من خلال حشد دلالات الألوان الفلسفية، وكثرة تنقلاته بين درجاتها المتوهجة، وجعل لكل الشخوص حضوراً خاصاً بنسب متفاوتة «بعض الشخصيات داخل الإنسان لا تختفي إنما تتوارى أو تذبل إلى حين، في حين يتم تبادل أماكنها ودورها وفق الظروف».
تعظّم الأعمال -وعددها نحو 28 لوحة من الإكريلك والباستيل الزيتي- إدراك قيمة النفس الإنسانية وصراعاتها اللامتناهية في الحياة، متمسكاً بحرية الحركة بين الخطوط، لتتشكل المعاني النفسية في لوحاته قبل المعاني النسبية أو الجمالية في الألوان في أسلوب فني يجمع بين السريالية والرمزية والتعبيرية بعيداً عن التعقيد، فالتوازن الفني في لوحاته ينبع من عمق التجارب النفسية التي يقدمها للمتلقي كضبط فلسفي يتجه إلى خلق فكرة الانتقال من شخص إلى آخر ومن حياة إلى حياة أخرى... يقول: «أكثر ما يعنيني هو الإنسان، إنه محور بناء العمل الفني».
ومثلما تتغير الشخوص وحواراتها وانفعالاتها المتبادلة في الأعمال فإن الخطوط ومساراتها أيضاً تتطور وتتغير بها وسيلة للتخلص من الشحنات النفس السلبية والمشتتة بين «تعدد الشخصيات» من خلال إيجابية التناول في لوحاته لتحاكي المضمون النفسي الذي يقصده فكأنما تتحول إلى معالج نفسي يشعر معها المتلقي أنها تساعده على تقديم تحليل نفسي لشخصيته، أو تأخذه إلى إيجاد خريطة النفس التواقة إلى الاستقرار والسلام الداخلي.
يًعد المعرض استمراراً لاحتفاء الفنان بالقضايا الإنسانية التي لا تخلو من جماليات العمل الفني وتتسم بالتوازنات اللونية التي يستند فيها إلى دلالات الألوان الفلسفية واللقاءات بين الألوان اللونية الصارخة والساكنة حيث الأحمر الثوري والأصفر أو البرتقالي الصارخ والأزرق البارد، ومن ثم ننتقل إلى الأخضر أو الرمادي الهادئ في لوحاته.
تخرّج وائل درويش في كلية التربية الفنية عام 1998 ويعمل أستاذاً للتصوير بالكلية. أقام الفنان 21 معرضاً شخصياً، وشارك في أكثر من 100 معرض دولي، وحصل على الكثير من الجوائز على المستويين المحلي والدولي. يقدم إلى جانب العمل الفني التصويري أعمال تجهيز في الفراغ وفنوناً رقمية.
استدعاء تشكيلي للشخصيات الخفية للإنسان المعاصر
معرض للفنان المصري وائل درويش يضم 28 لوحة
استدعاء تشكيلي للشخصيات الخفية للإنسان المعاصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة