قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

دبلوماسي هادئ برزت «أنيابه» في وجه الاحتجاجات

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان
TT

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

قاسم توكاييف... من «رئيس في الظل» إلى صاحب القبضة الأقوى في كازاخستان

يسخر الساسة أحياناً، من الأسئلة الافتراضية التي تبدأ بعبارة «ماذا لو»؟ لكن السؤال ما كان ليبدو غريباً، إذا طرح حول الرئيس الكازاخي قاسم جومرد توكاييف، الذي تعرّف عليه العالم «فجأة» أثناء الاحتجاجات الدامية التي شهدتها بلاده في الأيام العشرة الأولى من العام الجديد.
ماذا لو لم تنفجر كازاخستان بشكل مفاجئ في بداية العام؟ يبدو الجواب بسيطاً ومباشراً: ما كان قدّر للرئيس الذي ظل منذ توليه السلطة في ربيع العام 2019 متوارياً خلف «الأب المؤسس» والقائد الفعلي للبلاد، نور سلطان نظرباييف.
يبدو توكاييف المنتصر الأول في معركة دامية لم يلعب دوراً في إطلاقها، لكنه نجح في توظيفها لصالحه سريعاً. ليتحرر من قيود سلفه، ويطلق العنان لسياساته الخاصة.

تحول قاسم جومرد توكاييف، الدبلوماسي المخضرم المعروف بهدوئه الشديد، إلى زعيم فولاذي برزت أنيابه بقوة، وهو يأمر بفتح النار من دون إنذار مسبق على المحتجين الذين وصفهم بأنهم «قطاع طرق». بيد أنه في الوقت ذاته، أدار بمهارة نتائج المواجهة بعدما استتب الأمن وسيطر على الأوضاع، حتى بدا وكأنه يتحرك استجابة لـ«إرادة الجماهير».

- صعود سياسي سريع
ولد قاسم جومرد توكاييف في العام 1953 وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال. فهو ابن كمال توكاييف، الكاتب الكازاخي المعروف، وأحد أبطال بلاده في الحرب العالمية، الذي أمضى سنوات عمره متنقلاً في دوائر السلطة السوفياتية وختمها عضواً في هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى لكازاخستان السوفياتية (البرلمان). ويعني هذا بمعايير ذلك العهد، أنه كان قيادياً في الحزب الشيوعي وحصل طوال حياته على امتيازات واسعة جداً.
كذلك، كانت والدته تورار شاباربايفا، أيضاً من «أبطال العمل» وفقاً للمفهوم الذي كان سائداً، وعملت لسنوات طويلة في معهد ألما آتا (ألماتي) للغات الأجنبية.
لذا؛ لم يكن صعباً أن ينطلق توكاييف الابن إلى موسكو فور تخرّجه في المدرسة، وهناك قبل في «معهد العلاقات الدولية» المرموق التابع للخارجية السوفياتية في ذلك الوقت. ومن هنا وضع الشاب، الذي سيقضي كل سنوات حياته اللاحقة في دهاليز السياسة، أقدامه على طريق النجاح. لكن «الواسطة» لم تعلب الدور الأساسي في مسيرته الناجحة؛ إذ قاد تفوقه في الدراسة إلى إرساله سريعاً في بعثة إلى بكين وهو ما زال في سنة دراسته الخامسة، وفي الصين حصل كمتدرب في سفارة الاتحاد السوفياتي على أول خبرات عملية مهدت طريقه سريعاً إلى قمة النجاح.
ثم في عام 1975، التحق توكاييف بوزارة الشؤون الخارجية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وأُرسل للعمل في السفارة السوفياتية في سنغافورة. ثم عاد بعد أربع سنوات موظفاً في الخارجية حتى اواسط ثمانينات القرن الماضي. وعندما كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يطلق سياسة «الانفتاح والتغييرات الواسعة» في البلاد، كان توكاييف قد بدأ يترقّى سريعاً في المناصب في سفارة بلاده لدى بكين حتى غدا مع حلول العام 1991 مستشاراً برتبة سفير. وهناك راقب من بُعد انهيار البلد الذي يمثله. ليعود في العام التالي على الانهيار. ولكن ليس إلى موسكو هذه المرة، بل إلى الدولة الفتية في كازاخستان، التي سرعان ما عيّن فيها في العام 1992 نائباً لوزير الخارجية.
غدا توكاييف، منذ تلك اللحظة، جزءاً من النخبة السياسية الأولى في البلاد، وفي عام 1993 أصبح النائب الأول لوزير الخارجية، ليتقلد الوزارة في العام التالي. وبقي في منصبه حتى ربيع 1999، عندما حصل على ترقية جديدة غدا معها نائباً لرئيس الوزراء، وهي خطوة مهدت لتعيينه في خريف العام ذاته رئيساً للحكومة.
إلا أن الدبلوماسي المحترف لم يتمكّن من الصمود في منصب يحمله مسؤولية الأحوال المعيشية والاقتصادية للبلاد، فقدم استقالته في بداية 2002، ليستعيد حقيبة وزارة الخارجية التي ترضيه وتجنبه مواجهة السياسات الداخلية.
العام 2007 شكّل لتوكاييف بداية الانتقال الواسع إلى رأس هرم السلطة. ففيه عيّن رئيساً لمجلس الشيوخ في البرلمان، وهو شغله لسنوات قبل أن يجد «زعيم الأمة» نور سلطان نظرباييف نفسه مضطراً إلى مغادرة مقعد الرئاسة في 2019، ويومها لم يجد أفضل من الرجل الذي حاز ثقته طوال سنوات لينقله إلى سدة الرئاسة في إطار صفقة ضمنت لنظرباييف أن يبقي مفاتيح القرار السياسي والاقتصادي في يديه إلى الأبد.

- «رجل السلام» ونزع السلاح النووي
بصفته وزيراً للخارجية لسنوات طويلة، لعب توكاييف دوراً نشطاً في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية. وكانت له بصمات أساسية في التوقيع عام 1996، على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. لكنه احتاج إلى عشر سنوات أخرى تقريباً ليوقع على معاهدة مهمة تتعلق بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في آسيا الوسطى.
في المقابل، نجح كوزير للخارجية إلى تحويل بلاده إلى منصة لإطلاق مبادرات مهمة بينها ـ في العام 2003 - مبادرة تهدف إلى دعم البلدان النامية غير الساحلية. وقاد مؤتمراً نظّم في ألماتي أسفر عن وضع خريطة طريق لتعزيز هذا المسار.
ولم يهمل الدبلوماسي المخضرم الجانب الأكاديمي في مسيرته، بل تعمد أن يدافع في العام 2001 عن رسالة الدكتوراه في المعهد الدبلوماسي الروسي نفسه، حيث ذات يوم. وحملت رسالته مضموناً يعكس اهتماماته كوزير للخارجية، فقد وضع تصوراته فيها حول «السياسة الخارجية لجمهورية كازاخستان أثناء تشكيل النظام الدولي الجديد». وكان من الطبيعي للدبلوماسي المحترف ألا يقتصر نشاطه على بلاده. وفي عام 2008 انتُخب نائباً لرئيس الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا كرئيس لمجلس الشيوخ في برلمان كازاخستان.
ثم، بعد ثلاث سنوات، عيّنه الأمين العام للأمم المتحدة نائباً له، وغدا المدير العام لمكتب الأمم المتحدة في جنيف، والممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر نزع السلاح. وهو منصب حافظ عليه لسنتين قبل أن يعود إلى مقعد رئاسة مجلس الشيوخ في بلاده.

- رئيس في الظل خلف «زعيم الأمة»
مع حلول ربيع العام 2019 كان نظرباييف، الرئيس «التاريخي» لكازاخستان، أمام استحقاق تجديد الولاية أو البحث عن مخرج يمكّنه من المحافظة على مفاتيح القرار في البلاد. وهنا اختار سيناريو «الخليفة الموثوق» وأعلن للشعب أنه يرشح للرئاسة «الرجل المناسب لهذا المنصب».
قال نظرباييف في حينها، في خطاب للشعب «لقد عمل بجواري منذ الأيام الأولى لاستقلال كازاخستان. أنا أعرفه جيداً. إنه شخص أمين ومسؤول. يدعم النهج الذي سارت عليه البلاد بالكامل داخلياً وخارجياً، لقد تم تطوير جميع البرامج واعتمادها بمشاركته. أعتقد أن توكاييف هو الشخص المناسب الذي يمكننا أن نعهد إليه بإدارة كازاخستان».
هكذا رُسمت ملامح انتقال السلطة: توكاييف إلى مقعد الرئاسة. ونظرباييف إلى مقعد أعلى قليلاً. إذ نصّت «الصفقة» على أن يتولى الزعيم التاريخي منصب رئيس مجلس الأمن القومي، وأن يبقى المشرف الأعلى على سياسات البلاد. وكان لافتاً لاحقاً، أنه أثناء جلسات البرلمان، كان رئيس البلاد يجلس إلى جانب رئيس المجلس أمام الأعضاء، بينما أعدت مقصورة خاصة، تعمد مهندسوها أن تكون مرتفعة ليجلس فيها نظرباييف.
أيضاً، كانت إحدى أولى خطوات توكاييف في رئاسة الجمهورية إعادة تسمية العاصمة آستانة لتغدو «نور سلطان» تكريماً للرئيس السابق، وجرى دعم الاقتراح من قبل برلمان كازاخستان بالإجماع. وصدر المرسوم الرئاسي رقم واحد بمنح نظرباييف أعلى تقدير حكومي هو «النجمة الذهبية».
لكن خلف هذه المظاهر اللافتة، تبلور العنصر الأهم في آلية إدارة كازاخستان. وكان واضحاً أن نظرباييف انتقل من مقعد الرئاسي إلى مقعد «المرشد العام» للجمهورية بصفته الرمزية التاريخية وبسبب أنه يُحكم السيطرة مع أفراد عائلته وعدد من المقربين إليه، على كل مقاليد الاقتصاد والسياسة في البلاد.
لذا؛ عندما وقعت الأحداث الدامية في بداية 2022 تحدث كثيرون من الخبراء الكازاخيين عن استفحال مشكلة ازدواجية السلطة، وكيف أن توكاييف فشل في تمرير ولو جزءاً من سياسات إصلاحية وعد بها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية. وبالتالي، كانت النتيجة أن التحركات الاحتجاجية سرعان ما رفعت شعارات تطالب بـ«رحيل الختيار» وهو التعبير الذي تطلقه الأوساط الشعبية على نظرباييف.
المثير أن كل أصدقاء كازاخستان وحلفائها الخارجيين كانوا يتعاملون مع واقع إدارة الأمور في البلاد، وهو أمر كان واضحاً في طريقة تعامل الكرملين مع توكاييف ومع نظرباييف. ولم يشفع للرئيس الجديد في كازاخستان أنه تعمد أن تكون موسكو وجهته في أول زيارة خارجية بعد توليه المنصب.
لم تقنع هذه الحركة الدبلوماسية الرئيس فلاديمير بوتين الذي فضّل أن يواصل خلال السنوات الثلاث اللاحقة، التعامل مع الشخص الحقيقي الذي يدير أمور كازاخستان. وهذا الأمر ظهر بوضوح قبل أسابيع قليلة من الاحتجاجات التي غيرت كل المعادلات. فخلال اجتماع لرؤساء «رابطة الدول المستقلة» عقد في بطرسبرغ في 28 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، جاء من كازاخستان رئيسان لحضور القمة. وكان لافتاً أن بوتين أجرى جولة مباحثات مع نظرباييف، على هامش أعمال القمة، في حين اكتفى بإعلان أنه «سيلتقي قريباً توكاييف في زيارة رسمية إلى موسكو». وتعكس هذه الحادثة، طبيعة توازن القوى واليات تعامل «الحلفاء» مع كازاخستان عشية الاحتجاجات التي اندلعت بعد أقل من أسبوع على هذه الواقعة.

- نهاية عهد نظرباييف
احتاج توكاييف إلى ثلاثة أيام لتقييم الموقف بعد اندلاع الاحتجاجات الواسعة في كازاخستان، قدم خلالها بعض التنازلات للمحتجين الذي نزلوا إلى الشوارع بمطالب اقتصادية تتعلق بتحرير أسعار الغاز المسال المستخدم كوقود للسيارات؛ ما أسفر عن رفع سعره بمعدل الضعفين. وسرعان ما اتخذت المطالب منحى سياسياً، من خلال رفع شعارات تدعو إلى إنهاء «نفوذ الختيار» وقام محتجون بتلطيخ تماثيل «زعيم الأمة» المنتشرة في البلاد.
لقد استخدم توكاييف العنف الذي استخدمه متظاهرون قاموا بإحراق مبانٍ حكومية وسيطروا على منشآت حيوية، بينها مطار ألماتي والقصر الرئاسي في هذه المدينة التي تعد العاصمة التاريخية للبلاد ليطلق سياسة متشددة في الخامس من يناير (كانون الثاني). إذ أعلن أن البلاد تواجه حملة إرهابية منظمة، وأمر الوحدات الأمنية باستخدام القوة المفرطة لتفريق الاحتجاجات، بما في ذلك عن طريق إطلاق النار من دون إنذار مسبق.
يومها بدا واضحاً أن السلطات مستعدة لدخول حرب شاملة لمنع الاستيلاء على السلطة. وسرعان ما نجح الرد القوي للسلطات في قمع الاحتجاجات وتقويض فرص اتساعها لتشمل مناطق أخرى بينها العاصمة «نور سلطان»، مع أن غالبية المدن شهدت عملياً تحركات تضامنية مع المحتجين تراوحت في حجمها وأدواتها.
ولكن في العاشر من يناير نجحت السلطات بإخماد التحرك نهائياً، وبات توكاييف يقف أمام استحقاق الاستخلاصات الرئيسية، وآلية إدارة الوضع في مرحلة ما بعد الأزمة. وسرعان ما اتضح أن النتيجة الأساسية للأزمة تمثلت في انتهاء حقبة الازدواجية في السلطة، وطي صفحة نظرباييف نهائياً. إذ حمل قرار إقالة الرئيس التاريخي للبلاد الذي كان يوصف بأنه أحد الرموز الخالدة لكازاخستان المعاصرة من منصب «رئيس مجلس الأمن القومي» دلالة خاصة.
ودلت الخطوات اللاحقة من خلال إقالة كل أفراد عائلة الرئيس السابق من مناصبهم المهمة، أن المرحلة المقبلة ستشهد سحباً تدريجياً لصلاحياته نظرباييف، وامتيازاته مع أفراد عائلته. وهذا سيكون له تأثير مهم على الوضع الداخلي، في إطار إعادة توزيع صلاحيات وقدرات الشخصية الأقوى في البلاد، على طائفة جديدة من أصحاب القرار. وبدا أن الرئيس توكاييف نجح في استغلال الأزمة لصالحه في هذا المسار بعدما فشل في فرض رؤاه في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بسبب ازدواجية السلطة.
طبعاً، من المبكر الحكم كيف ستكون الأمور بعد إنهاء نفوذ العهد السابق وتأثيرات ذلك على الحياة الاقتصادية والسياسية؛ لأن كثيرين من النخب الحالية ما زالوا يدينون بالولاء للرئيس السابق ما يزيد من صعوبة مهمة توكاييف. وهذا، مع أن توكاييف يبدو حالياً الكاسب الأكبر من التطورات، بعدما نجح في استغلال المزاج الشعبي لتعزيز قبضته بشكل قوي، تجعله قادراً على إدارة البلاد وفقاً لسياساته الخاصة للمرة الأولى منذ توليه الحكم.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.