هيثم الغيص... «النوخذة» الخليجي لسفينة «أوبك» المضطربة

ثالث كويتي يتولى منصب الأمين العام للمنظمة النفطية

هيثم الغيص... «النوخذة» الخليجي لسفينة «أوبك» المضطربة
TT

هيثم الغيص... «النوخذة» الخليجي لسفينة «أوبك» المضطربة

هيثم الغيص... «النوخذة» الخليجي لسفينة «أوبك» المضطربة

منذ تأسيس منظمة الدول المنتجة والمصدرة للبترول «أوبك» عام 1960، وعلى مدى 62 سنة من عمرها، يعود المنصب مجدداً إلى «البيت الخليجي» مع تولي المرشح الكويتي هيثم الغيص الأمانة العامة للمنظمة. ومعلوم أن هذا «البيت الخليجي» هو الأكبر أهمية في رسم سياسة المنظمة، والأكثر ضماناً لإمدادات الطاقة في العالم.
ومن جهة ثانية، باتت هذه هي المرة الثالثة التي يتولى فيها مرشح كويتي منصب الأمانة العامة، فخلال السنوات الأربعين الماضية التي هي الفترة الذهبية في عمر المنظمة انكفأ المرشحون الخليجيون عن تصدر قيادتها. فلقد سبق الغيص في تولي هذا المنصب المهم في المنظمة كل من أشرف لطفي عام 1966 والشيخ أحمد الفهد الصباح 2005. أما وزير النفط الكويتي الراحل عبد المطلب الكاظمي، فقد كان أحد الوزراء الذين دخلوا تاريخ المنظمة الدولية، حين تعرّض مع وزراء نفط آخرين للاختطاف في مقرّ «أوبك» في فيينا شتاء عام 1975، على يد الإرهابي العالمي كارلوس.
كانت الكويت واحدة من الدول المؤسسة لـ«أوبك»، حين أُعلن تأسيس المنظمة في العاصمة العراقية بغداد عام 1960، وهذه الدول هي المملكة العربية السعودية وإيران والعراق والكويت وفنزويلا... وتقرر اختيار فيينا مقراً لها. وحالياً تضم المنظمة 11 دولة تعتمد على صادراتها النفطية. واعتباراً من سبتمبر (أيلول) 2018 تملك الدول الأعضاء في هذه المنظمة 44 في المائة من الناتج العالمي و81.5 في المائة من الاحتياطي العالمي للنفط، 48 في المائة منه في 6 دول أعضاء من منطقة الشرق الأوسط.
وسيتولى الأمين العام الجديد هيثم الغيص منصبه الجديد بدءاً من أول أغسطس (آب) المقبل، ويأتي تعيينه في وقت يشهد العالم موجة جديدة وحادة من جائحة «كوفيد - 19»، وفي فترة تعامل المنظمة وشركائها بتحالف «أوبك بلس» بحذر، استجابةً لخطط التعافي في الأسواق الدولية، ومواجهة الشكوك التي استجدت بفعل المتحورات الجديدة لفيروس «كوفيد 19». وكان تحالف «أوبك بلس» بقيادة السعودية وروسيا، قد قرر زيادة الإنتاج 400 ألف برميل يومياً اعتباراً من فبراير (شباط) المقبل، ضمن التزامه بخطته لاستعادة ضخ الإنتاج الذي توقف خلال جائحة كورونا تدريجياً. ولقد جاء في بيان «أوبك» حول تولي الغيص منصبه الجديد أنه «تقرر بالإجماع تعيين هيثم الغيص من الكويت أميناً عاماً للمنظمة، في قرار يدخل حيّز التنفيذ اعتباراً من 1 أغسطس 2022، ولمدة 3 سنوات».
وبذا سيحلّ الغيص محل النيجيري محمد باركيندو الذي تولى المنصب منذ 2016، والذي في عهده خفّضت المنظمة بشكل كبير إنتاج النفط عام 2020، فيما سدد «كوفيد» ضربة للأسواق العالمية.
- سيرة شخصية... ونفطية
ولد هيثم الغيص في الكويت، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1969، وهو ينحدر من أسرة تمتلك سجلاً في العمل الدبلوماسي، إذ إن والده هو السفير الكويتي الأسبق لدى ألمانيا فيصل الغيص. أما عن مسيرته الدراسية الجامعية، فإنه تخرّج في جامعة سان فرانسيسكو الحكومية في الولايات المتحدة بدرجة البكالوريوس عام 1990، وهو يتقن إلى جانب اللغة العربية 6 لغات أخرى، هي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والبرتغالية والصينية. وللعلم كان الغيص أول من شغل منصب مسؤول مكتب مؤسسة البترول الكويتية في الصين. أضف إلى ذلك أنه تدرج في قطاع التسويق العالمي بمؤسسة البترول الكويتية بمختلف إدارات المبيعات وترأس مكاتب المؤسسة الإقليمية في بكين ولندن. وكان يشغل منصب مدير إدارة البحوث في مؤسسة البترول الكويتية ومنصب نائب العضو المنتدب للتسويق العالمي.
وعلى صعيد الخبرة الدولية في مجال النفط، عرفت «أوبك» هيثم الغيص مبكراً، ذلك أنه يمتلك خبرة طويلة في قطاع النفط تمتد لأكثر من 30 سنة. إذ شغل منذ العام 2017 منصب محافظ الكويت لدى المنظمة، وترأّس اللجنة الفنية المشتركة بين «أوبك» والدول من خارجها، وهي اللجنة المسؤولة عن مراقبة الإنتاج ودراسة أوضاع أسواق النفط حسب اتفاق خفض الإنتاج الموقع بين الدول المساهمة في اتفاق «أوبك بلس».
أيضاً ترأس الغيص لجنة التدقيق الداخلي بالمنظمة، ولديه إسهامات متنوعة داخل المنظمة، وكذلك على مستوى مجلس محافظي المنظمة ومختلف اللجان والأعمال الخاصة والتعاون مع الدول من خارج «أوبك». ثم إنه يتمتع بخبرة واسعة تمتد عبر 3 عقود في مجال الأسواق النفطية العالمية والصناعة النفطية، وله حضور واسع ومشاركات في كثير من المؤتمرات والمحافل الدولية النفطية.
وعلى صعيد متصل، شارك هيثم الغيص في كثير من الدراسات المتخصصة للأسواق العالمية بمختلف أنواعها، وهو يحظى بتأييد واسع وعلاقات متأصلة مع ممثلي جميع الدول الأعضاء داخل منظمة «أوبك» وكذلك مع الدول المنتجة للنفط من خارجها.
وأخيراً، يوم 3 يناير (كانون الثاني) الحالي جاء تتويج مسيرته الطويلة مع انتخابه بالإجماع أميناً عاماً لـ«أوبك» خلفاً للنيجيري محمد باركيندو الذي ستنتهي ولايته الثانية في نهاية يوليو (تموز) 2022، وبالتالي تبدأ ولاية الغيص في 1 أغسطس المقبل.
هذا، وتلقى الغيص بعد انتخابه تهنئة أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، كما هنأه ولي عهد الكويت الشيخ ‏مشعل الأحمد الجابر الصباح ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح ورئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم.
- التحديات أمام المنظمة
جدير بالذكر أن أمناء «أوبك» لا يتولون وضع سياسة إنتاج المنظمة، إلا أنهم يعملون كوسطاء للتقريب بين الدول الأعضاء التي عادة ما تكون مختلفة في اتجاهاتها. وعادة ما تحدد الدول الأكثر أهمية في المنظمة مصير منصب الأمانة العامة، وبالتالي فإن اختيار الغيص لهذا المنصب لا يخلو من دلالة. وهنا نشير إلى أن المملكة العربية السعودية كانت أول الدول التي هنأت الغيص بتولي المنصب، ولقد أعرب الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز، وزير الطاقة السعودي، عن التهاني بهذا التعيين في تغريدة عبر «تويتر»، منوهاً باختياره لتبوء المنصب بالتزكية.
تضم «أوبك» ومقرها فيينا حالياً 11 عضواً بقيادة السعودية. وتعمل هذه الدول مع حلفائها العشرة، بما في ذلك روسيا، على تغيير الإنتاج للسيطرة على الأسعار. ويبرز أمام المنظمة، في ظل تولي الغيص، عدد من التحديات، أبرزها الموازنة بين احتياجات عائدات المنظمة، والضغوط من الولايات المتحدة لضخّ مزيد من النفط، للمساعدة في تلبية الطلب، مع تعافيها من جائحة «كوفيد - 19». ومواجهة ارتفاع أسعار البنزين.
وكان هيثم الغيص متفائلاً في أول تصريحات نُقلت عنه بعد إعلان تعيينه أميناً عاماً جديداً لـ«أوبك»، حين قال: «إن أسواق النفط اجتازت المرحلة الأسوأ منذ بداية جائحة (كوفيد 19)». ودافع عن تحالف «أوبك بلس» قائلاً إن هذا التحالف «قدّم تخفيضات تاريخية للحفاظ على استقرار أسواق النفط». واعتبر في تصريح لقناة «سكاي نيوز» أن اتفاق «أوبك بلس» يمثّل «حجر الأساس لاستقرار الأسواق»، لافتاً إلى تراجع مخزونات النفط العالمية بقوة بسبب ذلك الاتفاق.
وحقاً، يرى الغيص أهمية بالغة لدور «أوبك بلس». ويؤمن بأهمية العمل على استمرارية إعلان هذا التعاون المشترك، بهدف المحافظة على استقرار وتوازن أسواق النفط، كاشفاً عن أن هذه الأولوية ستكون الأولى والقصوى والأهم على المدى الاستراتيجي.
والتحدي الأبرز أمام المنظمة، برأي الغيص، هو الحفاظ على هذا التحالف الذي راكم خبرات كافية ومرونة ودراية في آلية التعامل مع المتغيرات الكثيرة والتذبذبات الكبيرة في أسواق النفط. وأكد على أهمية تحالف «أوبك بلس» باعتباره صمام أمان للحفاظ على استقرار الأسواق، وبالتالي فإن أحد أهم أهدافه هو دعم هذا الاتفاق والاستمرار في المحافظة عليه.
الغيص قال في تصريحات إن «أوبك» لا تستهدف سعراً محدداً للنفط، لكن هدفها الوصول إلى التوازن بين المعروض والمطلوب، والحفاظ على مستويات المخزون عند معدل السنوات الخمس الماضية، أي الحفاظ على توازن السوق. وأمام مخاوف الدول المستهلكة للنفط بشأن تأثير ارتفاع الأسعار على التضخم، يقول الغيص: «إذا نظرنا لأسعار سلع الطاقة الأخرى، مثل الفحم والغاز، لوجدنا أنها ارتفعت خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة وصلت إلى 300 في المائة، بينما لم يرتفع سعر النفط بهذه النسبة» فقد ارتفع سعر النفط 38 في المائة فقط منذ بداية 2017.
-- النفط الكويتي في سطور
- تمتلك الكويت احتياطيات نفطية تقدر بـ101.5 مليار برميل، أي ما يوازي (6 في المائة من احتياطيات النفط العالمية).
- تنتج الكويت 2996 ألف برميل يومياً، أي ما يعادل 3.1 في المائة من الإنتاج العالمي اليومي للنفط.
- خلال السنة المالية 2020 - 2021 تمكنت شركة نفط الكويت من تحقيق معدل طاقة إنتاجية للنفط الخام بنحو 2.629 مليون برميل يومياً.
- تطمح شركة نفط الكويت إلى تعزيز معدل الطاقة الإنتاجية كجزء من الخطة الاستراتيجية. ولذا وضعت الكويت خطة استراتيجية لزيادة إنتاج النفط إلى 3.5 مليون برميل يومياً بحلول عام 2025، وللعام 2040، وهي الوصول إلى ما يفوق 4 ملايين برميل يومياً.
- تستهلك الكويت 427 ألف برميل يومياً محلياً، وهو ما يعادل 14.25 في المائة من إنتاجها اليومي للنفط.
- حصة الكويت في «أوبك» تبلغ 2.809 مليون برميل يومياً، وجرى تخفيضها وفق اتفاق «أوبك بلس» في أغسطس الماضي إلى 2.451 مليون برميل يومياً. ووصلت إلى 2.505 مليون برميل يومياً في أكتوبر الحالي، وتم زيادتها بنحو 27 ألف برميل يومياً لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
- نجحت شركة نفط الكويت خلال جائحة كورونا في تشغيل مشروع النفط الثقيل وتحقيق الطاقة الإنتاجية المستهدفة منه، والبالغة 60 ألف برميل يومياً وذلك في سبتمبر الماضي. بحسب رئيس مؤسسة البترول الكويتية هاشم باركي ندو.
- من المتوقع أن تضيف المنطقة المقسومة بين السعودية والكويت 350 ألف برميل يومياً، لصالح الكويت، لتصل الطاقة الإنتاجية الكلية لدولة الكويت إلى 3.5 مليون برميل نفط يومياً.


مقالات ذات صلة

«أوبك» تخفّض مجدداً توقعاتها لنمو الطلب على النفط في 2024 و2025

الاقتصاد تتوقع «أوبك» أن يرتفع الطلب العالمي على النفط في عام 2024 بمقدار 1.61 مليون برميل يومياً (رويترز)

«أوبك» تخفّض مجدداً توقعاتها لنمو الطلب على النفط في 2024 و2025

خفّضت «أوبك» توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط في 2024 و2025، يوم الأربعاء، في خامس خفض على التوالي.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الاقتصاد منظر عام لمصفاة فيليبس 66 كما شوهدت من مدينة روديو بكاليفورنيا أقدم مدينة لتكرير النفط بالغرب الأميركي (رويترز)

النفط يرتفع بفضل توقعات ارتفاع الطلب من الصين في 2025

ارتفعت أسعار النفط قليلاً، في وقت مبكر اليوم الأربعاء، مع توقع المتعاملين بالسوق ارتفاع الطلب بالصين، العام المقبل.

الاقتصاد الأمين العام لمنظمة «أوبك» هيثم الغيص خلال منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في سانت بطرسبرغ (أرشيفية - رويترز)

«أوبك»: تجديد تفويض هيثم الغيص أميناً عاماً للمنظمة لولاية ثانية

قالت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إنها جدَّدت ولاية الأمين العام، هيثم الغيص، لمدة 3 سنوات أخرى في اجتماع افتراضي عقدته المنظمة، يوم الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
الاقتصاد مضخة نفطية في حقل بولاية كاليفورنيا الأميركية (أ.ف.ب)

تراجع طفيف للنفط... والتوتر الجيوسياسي وسياسة الصين يحدان من خسائره

تراجعت أسعار النفط قليلاً يوم الثلاثاء متمسكة بمعظم مكاسبها من الجلسة السابقة. فيما حدّ التوتر الجيوسياسي وسياسة الصين من الخسائر.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
الاقتصاد الأمين العام لمنظمة «أوبك» هيثم الغيص (أ.ف.ب)

هل يعاد انتخاب الغيص أميناً عاماً لـ«أوبك» غداً؟

من المقرر أن تعيد منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك» انتخاب الأمين العام الحالي هيثم الغيص لفترة ثانية مدتها ثلاث سنوات.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.