في الحلقة الثانية من كتابه «في قلب الأحداث»، يروي وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي مقدمات «ثورة 25 يناير»، بعدما ملّ الرئيس حسني مبارك من مهام الحكم فصار يراقب بينما أمور البلاد متروكة في يد الحزب الوطني والمقربين منه، ما راكم قضايا سياسية واجتماعية نتيجة النظام السياسي الراكد فاقد التوجه.
ويروي فهمي، من موقع الشاهد والمشارك في «لجنة الحكماء»، وقائع ما بعد سقوط مبارك، وتكليف «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» إدارة البلاد، على الرغم من قلة حيلة أعضائه في السياسة باعتبار خلفياتهم عسكرية.
ويسرد فهمي سلسلة الأخطاء الكيدية التي وقع فيها الإخواني محمد مرسي بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، والتي حفّزت المعارضة ووحّدتها ضده، ما عَجَّلَ بسقوط حكمه، مع رفض وجود جماعة «الإخوان» ككل، ليجمع غالبية الشعب والمؤسسات خوفاً من المخاطر التي تهدد هوية مصر بوصفها دولة غير آيديولوجية وطنية للجميع.
بين سقوط مرسي ووصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، كانت فترة انتقالية حافلة بالتطورات، شغل فيها نبيل فهمي منصب وزير الخارجية في حكومة حازم الببلاوي، وشهدت احتجاجات عنيفة لأنصار «الإخوان» وفض اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة».
ويعرض فهمي الجهود المتعبة التي بذلها للحؤول دون تفاعل التطورات الداخلية في الخارج، وكان مطلوباً أن يتحرك على كل المستويات، من الأمم المتحدة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. حينها تلقت مصر مساعدة مهمة من السعودية فيما يتعلق بعلاقتها مع فرنسا. وبتعليمات من الملك عبد الله بن عبد العزيز، اتصل وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، بالقيادة الفرنسية، ليؤكد الدعم السعودي الكامل للنظام الجديد في مصر، ورفض الرياض القاطع لأي ضغوط من الاتحاد الأوروبي.
أصبح مبارك خلال السنوات العشر الأخيرة من حكمه لا ينتبه إلى أي دعوات للتغيير السياسي، وعلى رأسها تداول السلطة. كما أصبح يشعر بالملل من أعباء ممارسة مهام الحكم، فكان كمن يملك ولا يحكم، يراقب سير الأمور في البلاد مع ترك توجيه السياسات في يد الحزب الوطني والمقربين منه، ما خلق وضعاً استمرت فيه كل القضايا السياسية والاجتماعية معلقة، نتيجة النظام السياسي الراكد فاقد التوجه.
وفي 25 يناير (كانون الثاني) 2011، الذي يوافق الاحتفال بعيد الشرطة، تظاهر الآلاف في القاهرة وعدد من المحافظات تحت شعار «لا للطوارئ... لا للتعذيب». وسقط عدد من المتظاهرين قتلى في محافظة السويس، لتنطلق الدعوة إلى «جمعة الغضب» يوم 28 يناير، احتجاجاً على سياسات الأمن والدولة بشكل عام، خصوصاً بعد إطاحة «ثورة الياسمين» في تونس بحكم الرئيس زين العابدين بن علي قبل أسابيع قليلة.
ورفعت مظاهرات «جمعة الغضب» شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». وبعد الأحداث الخطيرة في ذلك اليوم، اجتمعت في 29 يناير 2012 مجموعة من الشخصيات العامة المستقلة، أغلبهم من المهنيين ومجتمع رجال الأعمال غير المرتبطين بأي أحزاب، لمناقشة التطورات الجارية. وفي المساء، في حديث مع الصديق نبيل العربي، وزير الخارجية وأمين الجامعة العربية فيما بعد، أبلغته باستعدادي للانضمام إلى هذه المجموعة، فأصبحت العضو رقم 12 فيها. ثم زاد عدد أعضائها فيما بعد وأطلق عليها الإعلام اسم «لجنة الحكماء»، لتضم أيضاً: إبراهيم المعلم وأحمد كمال أبو المجد ويحيى الجمل ونبيل العربي وعمرو موسى وميرفت التلاوي ونجيب ساويرس وعمرو الشوبكي ووحيد عبد المجيد وعمار الشريعي ومحمد العدل وخالد يوسف وآخرين.
وفي 5 فبراير (شباط)، فوضت اللجنة كلاَّ من نبيل العربي وأحمد كمال أبو المجد، المحامي والسياسي البارز، لمقابلة نائب الرئيس عمر سليمان وتسليمه مقترحات حل الأزمة. وحسب رواية العربي وأبو المجد، فإن سليمان استمع إليهما باهتمام، لكنه قال إنه لن يقدم للرئيس اقتراح تخليه عن السلطة، ووعد بدراسة الأفكار المقترحة بشأن الإصلاحات من دون توضيح لماذا لا تتم الموافقة على هذه الإجراءات فوراً. كما التقى أبو المجد والعربي بعد ذلك رئيس الوزراء أحمد شفيق الذي لم يقل شيئاً مختلفاً. بعدها بأسبوع، حاول مبارك احتواء الموقف، وتعهد بإجراء الإصلاحات التي قدمتها لجنة الحكماء من قبل، من دون الإشارة إلى هذه اللجنة. لكن عرضه جاء متأخراً، بعدما تحول الزخم السياسي لصالح المتظاهرين الذين أصبحوا أشد إصراراً على ضرورة رحيله. وفي 11 فبراير، أعلن نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان في بيان متلفز قرار مبارك التنحي عن الحكم، وتكليف «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» بإدارة شؤون البلاد، لتشتعل الاحتفالات في كل أنحاء مصر.
أعادت «ثورة 25 يناير» مصر إلى قلب العالم واهتمامه كمحرك إقليمي، بعد استعادة الدولة ريادتها الفكرية والتحديثية في منطقة الشرق الأوسط. واعتبر ميدان التحرير مثلاً حيّاً للرغبة في المشاركة الشعبية بعد سنوات طويلة من الحكومات المركزية.
ووجد المجلس العسكري نفسه مشرفاً ومسؤولاً عن هذه العملية بالغة التعقيد والسيولة، وسط تعدد الأطراف وتنافرها في الساحة. ولم يكن أعضاؤه مرتاحين لحقيقة أن خبراتهم هي في المجال العسكري بعيداً عن السياسة، وهم لم يخفوا ذلك. وبسبب اهتمامي الطويل بقضايا الأمن القومي والحد من التسلح، وخدمتي سفيراً لمصر في الولايات المتحدة، فقد سبق أن عمل الكثير من أعضاء هذا المجلس تحت رئاستي في مختلف الوفود أو السفارات المصرية، وظلوا أصدقاء شخصيين لي بعد ذلك. وخلال الأشهر القليلة الأولى من 2011 بعد 25 يناير، كان أصدقائي من أعضاء المجلس العسكري يزورونني في شقتي في «غاردن سيتي» بانتظام لمناقشة الموقف، وطلب المشورة حول كيفية المضي قدماً بالعملية الانتقالية. وكان الكثير من مقترحاتي ضد قناعاتهم، لكن المناقشات بيننا ظلت دائماً ودية وصريحة وبناءة.
فضّل المجلس العسكري إنجاز العملية الانتخابية بسرعة، على أمل أن تعود الدولة إلى وضعها الطبيعي. ولم يكن أصدقائي من أعضاء المجلس مطمئنين لهذا المسار، غير أنهم شددوا على أن الجيش مدرب على حماية الأمن القومي للبلاد، وليس على إعادة بناء النظام السياسي والتحاور والجدل السياسي المصاحب لتلك العملية، ومن ثم فأولوية المجلس هي ضمان الأمن والاستقرار.
وبعد إقرار الدستور عام 2012، أُجريت انتخابات الرئاسة وفاز بها مرشح «الإخوان» محمد مرسي، الذي تولى السلطة في 30 يونيو 2012، وأصبح عليه أن يمثل جماعة «الإخوان المسلمين» التي ينتمي إليها وإلى ناخبيها، وكذلك باقي أطياف المجتمع المصري غير السعداء بانتخابه، وهو ما لم يحدث. إذ دخل وجماعته في صدام مع أغلب مؤسسات وقوى المجتمع بدءاً من القوات المسلحة التي تحظى باحترام الشعب ودعمه، حيث سارع مرسي إلى استدعاء رئيس هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة ليطالبه بإطلاعه على موازنة الجيش وموارده المالية بالتفصيل، وهي خطوة ليست مرفوضة من حيث المبدأ، وإنما توقيتها المبكر للغاية كان رسالة واضحة بأن الهدف منها هو قصّ أجنحة الجيش وتحجيمه.
وفي الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر (تشرين الأول)، ارتكب مرسي خطأ آخر، عندما دعا عدداً من الإسلاميين المتطرفين، وبعضهم ممن أُدينوا في قضية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات في يوم الذكرى ذاتها قبل نحو ثلاثة عقود.
القادة العسكريون عدّوا ذلك، حسبما قالوا لي لاحقاً، إساءةً مباشرةً ومقصودةً للمؤسسة العسكرية. وشعر الرأي العام أيضاً بالصدمة والغضب من تصرف حكومة «الإخوان»، بوصفه إشارة إلى اعتزام الجماعة إعادة كتابة تاريخ مصر وإضفاء الشرعية على أعمال عنف الإسلاميين المتطرفين.
وبعد أيام معدودة من الاحتفال، فتح مرسي جبهة أخرى بإقالة النائب العام من دون الرجوع إلى الهيئات القضائية المعنية، التي كانت تشكّ في نيات الرئيس تجاه مؤسسة القضاء ككل. وأثار ذلك موجة غضب قوية وعلنية من جانب القضاة، ومنهم الذين كانوا مقربين من الجماعة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، أصدر الرئيس إعلاناً دستورياً ليمنح نفسه صلاحيات مطلقة، ما مثّل انتهاكاً كاملاً ليس فقط للدستور القائم في البلاد بل لكل الدساتير التي عرفتها مصر قبلاً.
مع تصاعد الاحتجاجات ضد الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012، شكّلت مجموعة من الليبراليين واليساريين والنشطاء «جبهة الإنقاذ الوطني»، بوصفها تحالفاً غير رسمي يستهدف ضمان وجود التمثيل المدني في المشهد السياسي والتعبير عنه.
حفزّت أخطاء مرسي السياسية المعارضة ووحدّتها ضده، ما عَجَّلَ بسقوط حكمه، مع رفض وجود جماعة «الإخوان» ككل، ليجمع غالبية الشعب والمؤسسات خوفاً من المخاطر التي تهدد هوية مصر بوصفها دولة غير آيديولوجية وطنية للجميع.
وكما هو الحال في كل الجيوش، فإن لدى الجيش المصري خطط طوارئ للتدخل في الظروف غير التقليدية، للتعامل مع التهديدات الخارجية، وكذلك لفرض النظام بشكل مؤقت، في حال أصبح الوضع الداخلي خطراً على أمن الدولة واستقرارها. وتحرك الجيش بشكل حاسم وفرض سيطرته على الأماكن الاستراتيجية في مختلف أنحاء البلاد قبل مظاهرات 30 يونيو 2013.
وفي يوم 3 يوليو (تموز) 2013، وفي بث مباشر على شاشات التلفزيون، وبحضور كبار قادة القوات المسلحة وعدد من الشخصيات البارزة مثل: محمد البرادعي الذي كان يمثل الشباب الثوري، وشيخ الأزهر، وبابا الكنيسة الأرثوذكسية، وقادة «حركة تمرد»، و«حزب النور» السلفي، أعلن الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، عزل محمد مرسي استجابةً للمظاهرات الشعبية الحاشدة، وتعليق العمل بالدستور ووضع خريطة طريق للمرحلة الانتقالية، وتعيين المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية، رئيساً مؤقتاً للبلاد.
وفور صدور بيان 3 يوليو، انطلقت احتجاجات عنيفة من جانب أعضاء جماعة «الإخوان» وأنصارها في مناطق كثيرة من البلاد، واعتصموا في ميداني رابعة العدوية في القاهرة والنهضة قبالة جامعة القاهرة في الجيزة.
وبدأت الأوقات العصيبة لمصر وللرئيس. وأُجريت مشاورات كثيرة لتشكيل الحكومة مع الكثير من الشخصيات السياسية التي حضرت إعلان خريطة الطريق، لعبت فيها المؤسسة العسكرية دوراً كبيراً، وكذلك محمد البرادعي. وعكست مشاورات تشكيل أول حكومة لمصر بعد أحداث 30 يونيو مدى تعقّد المشهد السياسي في مصر، التي تسعى لتقديم نفسها للعالم بوصفها دولة وسطية مدنية ذات تراث ثري وتقاليد دينية راسخة.
وبعد اتصال مبدئيّ من آخرين، اتصل بي البرادعي وسألني مباشرة عن استعدادي لقبول منصب وزير الخارجية إذا عرضه علي رئيس الوزراء المكلف حازم الببلاوي، وقلت للبرادعي إنه وعلى الرغم من ميلي الشخصي لعدم تولي المنصب، إذا اتصل بي رئيس الوزراء المكلف فسألتقي معه وسأستمع إليه بعقل مفتوح. وهو ما رحب به، منوهاً إلى أن «كلينا رفض المشاركة في الحكومة في الماضي، والآن يبدو أننا سننضم إليها معاً».
وفي 14 يوليو 2013، تلقيت اتصالاً من الببلاوي لعقد لقاء معه، لكي تتم دعوتي رسمياً للانضمام إلى الحكومة الجديدة وزيراً للخارجية. كانت نبرة رئيس الوزراء المكلّف ودّية للغاية. وعرضت عليه رؤيتي للسياسة الخارجية في المرحلة المقبلة، وبعدما انتهيت من ذلك شكرني الببلاوي، وطلب مني إعلان موافقتي على تولي وزارة الخارجية أمام وسائل الإعلام، التي كانت تنتظر بفارغ الصبر خارج غرفة الاجتماع.
وفي 16 يوليو، وكان أول أيام شهر رمضان المبارك، أدت الحكومة الجديدة اليمين الدستورية أمام الرئيس عدلي منصور وكان أغلبها من التكنوقراط، وضمت 3 نواب لرئيس الوزراء هم: عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، وحسام عيسى وزير التعليم العالي، وزياد بهاء الدين وزير التعاون الدولي. وتم تعييني وزيراً للخارجية. وأعلن رئيس الوزراء أنه عرض مناصب وزارية على أعضاء من جماعة «الإخوان» لكنهم رفضوا.
وترأس الرئيس منصور الاجتماع الأول للحكومة، الذي امتد حتى موعد مدفع الإفطار. وكانت التحديات واضحة والحاجة إلى إعادة تفعيل مؤسسات الدولة بسرعة ضاغطة، وكان على الحكومة العمل في بيئة متوترة ومتقلبة، وتحمّل مسؤولية تاريخية تحت ضغوط هائلة، وحشد الدعم الشعبي للاستقرار، مع عدم تجاهل أحلام التغيير، وفرض القانون والنظام في مواجهة العنف المستمر من جانب أنصار جماعة «الإخوان» والانتهازيين في مختلف أنحاء البلاد، بالإضافة إلى التعامل مع الضغوط الدولية.
وكما كان الحال مع كل وزراء حكومة الببلاوي، بدأنا عملنا في بيئة أمنية شديدة الاضطراب. ولم تكن لوزير الخارجية مسؤولية مباشرة في التعامل مع هذا الموقف، لكننا بذلنا جميعاً قصارى جهدنا من أجل دعم جهود استعادة الأمن والاستقرار، التي تولت الجزء الأكبر منها وزارتا الدفاع والداخلية إلى جانب أجهزة المخابرات.
مع بداية حكومة الببلاوي، قاد البرادعي محاولات الوصول إلى حل للصراع الداخلي، سعياً للتهدئة أو لتحقيق المصالحة في بادئ الأمر، قبل أن تقع أعمال عنف بين أنصار «الإخوان» وقوات الأمن في مناطق كثيرة من البلاد. وبمرور الوقت، أصبح الاختيار الوجودي في مصر هو بين السماح بعودة مرسي وحكم جماعة «الإخوان» من ناحية، أو الالتزام بالتغييرات التي أُعلنت يوم 3 يوليو والتي أطاحت بمرسي و«الإخوان» من الحكم من ناحية أخرى. وتدريجياً، بات واضحاً أن جهود الوساطة داخلياً، أو من خلال الوساطة الأجنبية، لن تصل إلى نتيجة.
وبعد أيام قليلة من اجتماع الحكومة، أبلغ رئيس الوزراء حازم الببلاوي ووزير الداخلية محمد إبراهيم قرار فض الاعتصامات إلى مجلس الأمن القومي، الذي يضم إلى جانب الرئيس عدلي منصور، نائب الرئيس محمد البرادعي، ورئيس الوزراء، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية، ووزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم، ورئيس أركان الجيش صدقي صبحي، ومديري المخابرات العامة والحربية، ورئيس ديوان رئيس الجمهورية. وقد استمعنا وناقشنا خطط فض اعتصامي رابعة والنهضة، وإعادة الحياة إلى طبيعتها في الميدانين. وفي 14 أغسطس (آب) 2013، بدأت القوى الأمنية وفي مقدمتها قوات الشرطة فض الاعتصامين، وأعلنت المصادر الحكومية وقوع تبادل كثيف لإطلاق النار بين المعتصمين المسلحين حول ميداني رابعة والنهضة وقوات الشرطة، وأسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى من القوات الأمنية وفي صفوف «الإخوان» وأنصارهم، إلى جانب مقتل عدد من المارة.
وبوصفي وزيراً للخارجية، قررت القيام بعدة خطوات لمواجهة تداعيات الموقف خارجياً، وكانت الخطوة الأولى ضمان استناد آرائي وأرقامي في مخاطبة الرأي العام المحلي والدولي إلى معلومات دقيقة، حتى لو أدى الأمر إلى التحرك بصورة أبطأ نسبياً، وذلك لكي يثق العالم بالتصريحات المصرية. وأوصيت بعد ذلك بضرورة تشكيل لجنة مستقلة، برئاسة القاضي فؤاد رياض، للتحقيق في الأحداث التي تلت إعلان الإطاحة بحكم مرسي، بما في ذلك فض اعتصامي رابعة والنهضة. وحظي هذا الاقتراح بموافقة مجلس الوزراء بالفعل. وما زالت رواية لجنة التحقيق المستقلة هي الأشمل والأكثر موضوعية بشأن الأحداث حتى اليوم.
وكان هدفي الثاني بعد هذه الأحداث، والذي لم يكن أقل أهمية من الهدف الأول، هو منع تدويل هذه القضية أو حتى طرحها للنقاش في إطار دولي أو متعدد الأطراف. وفي صيف 2013، أبلغني مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك بوجود تحركات لعقد جلسة لمجلس الأمن لبحث الموقف في مصر. وعندما سألت وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عن هذا، ذكر أن فرنسا هي المبادرة في ذلك، في حين أصرَّ وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس على أن الولايات المتحدة وبريطانيا هما من تقفان وراء هذه التحركات. وبدلاً من إضاعة الوقت في البحث عن الطرف الذي يقف خلف التحركات، تشاورت على الفور مع روسيا والصين لكي أتأكد من أنهما ستعارضان هذه الإجراءات.
وكانت اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2013 المكان الأنسب لإطلاق مرحلة جديدة من التحرك الدبلوماسي المصري، في ظل المشاركة رفيعة المستوى من مختلف دول العالم، بحيث ننتقل من الموقع الدفاعي إلى الحالة الهجومية أو الاستباقية للدبلوماسية المصرية، وإعطاء إشارة قوية بأن مصر استعادت دورها النشط على الصعيدين الإقليمي والدولي. وتمت مناقشة فكرة مشاركة الرئيس منصور في هذه الدورة، لكننا انتهينا إلى ترك رئاسة الوفد إلى وزير الخارجية للتصدي لأي مناورات محتملة.
ولدى وصولي إلى نيويورك لرئاسة وفد مصر في اجتماعات الأمم المتحدة يوم 21 سبتمبر 2013، كانت هناك بعض المظاهرات المعارضة وأخرى مؤيدة لنظام الحكم الجديد أمام مقر الأمم المتحدة. وتلقيت تقريرا موجزا من البعثة المصرية الدائمة لدى الأمم المتحدة حول المداولات التحضيرية للجمعية العامة، تفيد بأن البعثة التركية في نيويورك لم يكن لديها أي تعليمات بشأن الموقف من المشاركة المصرية حتى الآن، لكننا قررنا متابعة التطورات عن قرب وبحذر، حتى يصل الوفد التركي المشارك في الاجتماعات بالكامل.
وخلال حفل الاستقبال التقليدي الذي يستضيفه الرئيس الأميركي لرؤساء الوفود المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتحى أوباما بي جانباً وتجاوز صف الاستقبال الطويل، وأبلغني بأنه يتفهم عدم ارتياح المصريين لحكم مرسي، لكنه في ضوء الإطاحة برئيس منتخب من منصبه، فإنه بوصفه رئيساً للولايات المتحدة ملزم بتعليق أو على الأقل تأجيل تسليم بعض المعدات والمساعدات العسكرية لمصر، حتى تتقدم مصر نحو الحكم الديمقراطي. وقال إنه سيعلن هذا الموقف في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اليوم التالي. فأبلغته باعتراضي الشديد على الإجراءات الأميركية المقترحة وعلى المكان الذي سيتم إعلانها فيه، مضيفاً أن احتياجات الأمن القومي ذات طبيعة استراتيجية، وإذا لم نضمن استدامتها أميركياً، فإن مصر ستلجأ إلى مصادر أخرى للحصول عليها، وإنني لن أتردد في الإعلان عن ذلك أمام الإعلام فور إلقائه خطابه إذا تضمن هذه الإشارة.
ولم تكن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بعد 30 يونيو 2013 عدائية، لكنها كانت هشّة وتحتاج إلى معالجة حساسة طوال المرحلة الانتقالية. وكثّفتُ الاتصالات مع دول الاتحاد الأوروبي، سواء المتفقة أو المختلفة معنا، لأنها كانت حريصة على سماع وجهة نظرنا، خصوصاً فرنسا وإسبانيا وبريطانيا واليونان وإيطاليا وألمانيا. وتلقت مصر مساعدة مهمة من السعودية فيما يتعلق بعلاقتها مع فرنسا. فبعد أحداث 30 يونيو 2013 مباشرةً وبتعليمات من الملك عبد الله بن عبد العزيز، اتصل وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بالقيادة الفرنسية، ليؤكد الدعم السعودي الكامل للنظام الجديد في مصر، ورفض الرياض القاطع لأي ضغوط من الاتحاد الأوروبي. وقد اتصل بي الأمير سعود الفيصل قبل حديثه مع الفرنسيين، وأعربت له عن ارتياحي الكامل للمنهج الذي اقترحه، ولجهوده المنفردة التي لم تكن تستدعي مشاركتي فيها، وهو جهد مشكور سمح لي بالتركيز على دول أخرى.
وبعد الاتصال السعودي، زارت الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي كاترين أشتون، مصر عدة مرات بعد ثورة يونيو، وكنا مختلفين في وجهات النظر، لكنها سرعان ما أدركت عدم جدوى مواصلة السعي وراء اتفاق بين السلطات المصرية وجماعة «الإخوان»، بعدما اتضح لها أن مرسي ما زال مصرّاً على العودة إلى الرئاسة وغير مستعد للوصول إلى حل وسط.
تدريجياً، استقرت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، على الرغم من استمرار بعض التحفظات والتوترات العارضة، عندما حاول بعض أعضاء الاتحاد التراجع عن قرار المجلس الأوروبي إرسال وفد لمراقبة الانتخابات، ما دفعني إلى التحدث بحدة مع أشتون منوهاً إلى أن الاتحاد يتحدث كثيراً عن ضرورة بناء نظام ديمقراطي والآن يرفض المشاركة في البناء المجتمعي والمؤسسي الحقيقي. ويُحسب لها أنها تفهمت الموقف وتمسكت بمشاركة المراقبين على الرغم من ضغوط بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي، خصوصاً من دول الشمال.
كان المقرر أن تستغرق المرحلة الانتقالية في مصر بعد الإطاحة بمرسي 12 شهراً، وبعد إقرار الدستور في يناير 2014، تفجرت أعمال عنف جديدة، فقرر الرئيس عدلي منصور إجراء الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات البرلمانية على خلاف ما تضمنته خريطة الطريق الأصلية. وترشح وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية وحصل على 96.91% من أصوات الناخبين الصحيحة، وأدى اليمين الدستورية لتولي منصب الرئيس في 8 يونيو 2014.
وبعد انتخاب السيسي، ظللت على اتصال مستمر معه، لمناقشة عدد من مواضيع السياسة الخارجية الملحة، وأبرزها عودة مصر إلى الاتحاد الأفريقي وإعادة مركزة مصر إقليمياً ودولياً. وقد استغرق تشكيل الحكومة الجديدة وقتاً أطول من المتوقع، وتمت إضافة منصب وزير الخارجية إلى التغيير الوزاري في المرحلة الأخيرة من المداولات، وعلمت بخروجي من التشكيل من الإعلام الإلكتروني. وعلى الرغم من أن الخبر لم يكن متوقعاً فإنه كان مريحاً لي، إذ كنت سعيداً بما أنجزته في ظروف صعبة للغاية.
- كتاب «في قلب الأحداث» (1 ـ 3): بحث الأميركيون عن خليفة لمبارك يضمن «المصالح» و{الاستقرار»
كتاب «في قلب الأحداث» لوزير الخارجية المصري الأسبق نبيل فهمي (الحلقة الأخيرة): النيل و«النهضة»... الأمن القومي المصري بين شاطئين