تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

«لغط» مع تركيا وليبيا.. وإعادة العلاقات مع سوريا عشية زيارة السبسي لفرنسا

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»
TT

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

تناقضات الدبلوماسية التونسية «الجديدة»

يتابع المراقبون في تونس وفي المنطقة ودوليا باهتمام خاص مستجدات الأحداث في تونس التي تتراوح بين انتصار «العقلانية والواقعية» من جهة، وتراكم «التناقضات السياسية» من جهة ثانية.
وقد استفحل الغموض خاصة بعد تعاقب المواقف السياسية والدبلوماسية المتناقضة الصادرة عن عدد من الرسميين التونسيين بما في ذلك في ما يتعلق بمستجدات مواقف الحكومة الجديدة من النظام السوري ومن تركيا الحليف التقليدي لتونس منذ 60 عاما ومن السلطات الليبية. وإذ يطنب كبار الساسة في واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية في التنويه بـ«نجاح النموذج التونسي» تعاقبت نقاط الاستفهام حول «مهنية» بعض كبار المسؤولين الجدد في الحكومة والأحزاب الكبرى المؤثرة في القرار السياسي الداخلي والخارجي.

استفحلت «الانتقادات» وردود الفعل «المتوترة» داخليا وخارجيا لبعض مواقف تونس الدبلوماسية بعد أول مؤتمر صحافي عقده وزير الخارجية التونسي والأمين العام للحزب الحاكم الطيب البكوش الأسبوع الماضي. وقد أسفر ذلك المؤتمر الصحافي عن تصريحات ومواقف «مثيرة للجدل» عن تركيا وعن تطبيع العلاقات بين تونس وكل من سوريا وحكومة طرابلس.
وتفاعلت ردود الفعل بنسق أسرع لأن البكوش نظم في نفس اليوم حوارا علنيا مع السفراء العرب والأجانب المعتمدين في تونس بحضور الإعلاميين ونشطاء في المجتمع المدني التونسي وعدد من السياسيين والسفراء التونسيين السابقين بزعامة السفير نور الدين حشاد نائب الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ورئيس مؤسسة «الشهيد فرحات حشاد» للدراسات.
وقد قوبلت بعض تصريحات البكوش في المناسبتين بـ«تحفظات» بعض السفراء العرب بينهم السفير المصري بتونس أيمن مشرفة الذي تدخل علنا بحضور الصحافيين لإعلان تحفظاته على قرار حكومة تونس التعامل مع حكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا خلافا للقرار الدولي الذي نص على الاعتراف بشرعية برلمان «طبرق» (1700 كلم شرق طرابلس) وحكومته وسحب الاعتراف من سلطات طرابلس.
وفي الوقت الذي قدر فيه غالبية صناع القرار في العالم «هدوء الانتقال السياسي» في تونس رغم الاضطرابات الأمنية الخطيرة في بقية دول الربيع العربي كثرت التساؤلات عن «خفايا» استفحال «التناقضات» في المواقف السياسية للرسميين التونسيين بما في ذلك في المجال الدبلوماسي.
وأخذت «الزوبعة الإعلامية والسياسية» حجما أكبر بعد تصريح أدلى به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي حاول فيه التنصل من تصريحات وزير خارجيته والأمين العام للحزب الحاكم الذي أسساه معا قبل 3 أعوام.

عشية زيارة فرنسا

الرئيس التونسي «تبرأ» من تصريحات وزير خارجيته في نفس اليوم في حوار مع قناة فرنسية دولية حول زيارته الأولى لفرنسا (اليوم). لكن عوضت أن ترفع تصريحات قائد السبسي «الالتباس» تعاقبت ردود الفعل الشعبية والدبلوماسية على ما وصفته بعض وسائل الإعلام التونسية والدولية بـ«اللخبطة» و«التناقضات المتعاقبة» في المواقف الرسمية لسلطات تونس «التي يعلق الجميع آمالا عريضة على نجاح تجربتها التعددية والديمقراطية»، على حد تعبير رئيس حكومتها الجديد الحبيب الصيد.
وقد أكدت مصادر دبلوماسية وسياسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، أن «مسؤولين فرنسيين وعرب لم يفهموا سر إعلان تونس عن تطبيع علاقاتها مع النظام السوري عشية زيارة الرئيس التونسي الأولى من نوعها منذ انتخابه وبعد أيام قليلة من مشاركته في القمة العربية في شرم الشيخ التي أدلى خلالها وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بموقف معارض واضح للنظام السوري الحالي ولحلفائه».

خروج عن «الإجماع العربي»

في الأثناء تناقضت تفاعلات السياسيين التونسيين من المواقف التي صدرت عن وزير الخارجية والأمين العام لحزب «نداء تونس» الحاكم الطيب البكوش. وبدا من أبرز المدافعين عن تصريحات وزير الخارجية الوزير الأزهر العكرمي القيادي في نفس الحزب الذي اتهم منتقدي البكوش بـ«إخراج التصريحات من سياقها» وبـ«سوء فهمها». كما دافع عن تلك التصريحات الناطق الرسمي باسم الخارجية التونسية الذي اعترض على تهمة «خروج القيادة التونسية عن الإجماع العربي»، أي عن قرار غالبية القادة العرب في قممهم مقاطعة نظام بشار الأسد بعد اتهامه بمسؤولية قمع شعبه وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء.
كما تدخل التهامي العبدولي - مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية والأفريقية والأمين العام لأحد الأحزاب الخمسة التي تشكل الائتلاف الحاكم الحالي - لتبرير قرار إعادة فتح السفارة التونسية في دمشق والسورية في تونس بـ«حرص الحكومة التونسية على» رعاية مصالح جاليتها في سوريا والمقدرة بـ6 آلاف شخص بينهم طلاب وتجار ونساء وأطفال.

تطبيع مع نظام بشار؟

لكن السؤال الكبير الذي يطرحه مسؤولون من الائتلاف الحكومي السابق الذي قطع العلاقات مع نظام بشار الأسد مطلع 2012 هو: لماذا الحرص على ترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي التونسي في دمشق، بينما سبق لحكومة المهدي جمعة أن فتحت العام الماضي «مكتب تواصل إداريا في السفارة التونسية في دمشق» مهمته متابعة شواغل الجالية التونسية؟
ولماذا الإصرار على «تطبيع العلاقات مع النظام السوري الذي تسبب في مقتل ربع مليون من أبناء شعبه وتشريد 12 مليون آخرين». أليس في مثل هذه الخطوة خروج عن «الإجماع العربي» وعن مقررات القمم العربية والمجالس السابقة للجامعة العربية التي قررت سحب الاعتراف بنظام بشار الأسد ودعم المعارضة السلمية له؟
وهل لم تكن حكومة الترويكا اتخذت قرار القطيعة مع نظام بشار الأسد تحت لافتات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ هل تخلت عن تلك المواقف الآن وهي «مهد حركات التغيير والإصلاح في دول الربيع العربي»، على حد تعبير عماد الدايمي الأمين العام لحزب المؤتمر والوزير مدير مكتب الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي سبق أن قرر طرد السفير السوري في تونس مطلع عام 2012، احتجاجا على تورطه في قتل شعبه وقمع انتفاضته السلمية.

حوارات الجزائر والمغرب وتونس

لكن المدافعين عن خطوة التطبيع مع النظام السوري - مثل الإعلامي المنجي الخضراوي القيادي في نقابة الصحافيين التونسيين - يذكرون بكون «البرامج الانتخابية لحزب نداء تونس وكثير من الأحزاب السياسية التونسية تعهدت منذ مدة طويلة بتطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد وبإعادة فتح السفارة السورية لدى تونس ونظيرتها التونسية في دمشق. كما اعترض الوزير التونسي الطيب البكوش على «ملاحظات» منتقديه وبينهم ممثل الدبلوماسية المصرية في تونس حول «قرار التعامل مع حكومتي طبرق وطرابلس» بكون المنطقة الغربية في ليبيا تضم 120 ألف تونسي مقابل 20 ألفا في المنطقة الغربية. ومن واجب السلطات التونسية التعامل مع الأمر الواقع وإعادة فتح القنصلية القديمة خدمة لمصالح الجالية التونسية ولأن المعابر البرية المشتركة بين تونس وليبيا تخضع حاليا لسلطات طرابلس غير المعترف بها دوليا.
وأشار البكوش إلى كون ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا برناردينو ليون وسفراء الدول الغربية وكذلك حكومات الجزائر والرباط وتونس تنظم منذ سنوات لقاءات مع سياسيين بارزين من حكومتي طبرق وطرابلس وفي هذا السياق تتعاقب لقاءات «الحوار السياسي الليبي - الليبي» الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ مدة في كل من الجزائر والمغرب وتونس وداخل مدن ليبية.

«أزمة حادة «مع تركيا»

في الأثناء تحدثت مصادر كثيرة عن «أزمة حادة» فجرتها تصريحات وزير خارجية تونس عن تركيا التي اتهمها بـ«تسهيل عبور الإرهابيين التونسيين عبر أراضيها نحو سوريا ثم تسهيل عودتهم إلى مواطنهم ثم الضلوع في عمليات إرهابية نظمت في تونس». وقد احتجت الخارجية التركية رسميا على تلك التصريحات واستدعت السفير التونسي في أنقرة محمد صالح تقية للاستفسار عن مثل هذه الاتهامات التي قامت وسائل إعلام تونسية بالترويج لها مجددا. كما أعلنت مصادر رسمية في أنقرة أنها تطالب الجانب التونسي بالاعتذار، وخصوصا أن تركيا سبق أن قدمت لتونس «مساعدات كبيرة لمكافحة الإرهاب» بينها أكثر من 1200 لباس عسكري واقٍ من الرصاص وعشرين مدرعة مصفحة مضادة للألغام والمدفعية.
كما سبق لتركيا أن قدمت مساعدات اقتصادية وأخرى مالية ولوجيستية مدنية للبلديات ووزارتي الداخلية والدفاع التونسيتين.
لكن السفير المختار الشواشي الناطق باسم وزارة الخارجية التونسية اعتبر أن «تصريحات الوزير الطيب البكوش عن تركيا وقع تحريفها». فيما حاول وكيل وزارة خارجية تونس التخفيف من حدتها وأورد أن «الجانب التركي تفهم تصريحات البكوش وأن القصد من تلك التصريحات مناشدة المسؤولين الأتراك التشدد في مراقبة من يصفون أنفسهم بـ«الجهاديين» ويعبرون أراضي تركيا للالتحاق بالعصابات الإرهابية وبينها «داعش» و«القاعدة» في سوريا.
إلا أن مصادر تركية أوردت في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أنقرة استغربت اتهامها من قبل وزير خارجية تونس بالتورط مباشرة أو غير مباشرة في دعم الإرهاب والإرهابيين وبتسهيل عبورهم في وقت يعلم فيه الرسميون التونسيون أن القنصليتين التونسيتين في إسطنبول وأنقرة تضم فريقا كبيرا من الأمنيين التونسيين الذين يقومون بالتنسيق مع السلطات الأمنية التركية حول مكافحة الإرهاب بما في ذلك التثبت في قائمة عشرات آلاف السياح التونسيين الذين يتوجهون سنويا إلى تركيا على غرار أكثر من 30 مليون سائح من العالم اجمع». كما أكدت مصادرنا أن «السلطات الأمنية التركية سبق لها أن سلمت قبل (الثورات العربية) وبعدها عددا من المتهمين بالإرهاب إلى حكوماتهم بينهم تونسيون وليبيون وجزائريون وأروبيون».
كما أكد السفير التركي لدى تونس عمر جوشوك لـ«الشرق الأوسط»، أن «تركيا ترفض الاتهامات الموجهة إليها بـ«التساهل» في تنقل الإرهابيين عبر أراضيها لأنها أوقفت خلال الأعوام الماضية عددا كبيرا من المشتبه فيهم بالإرهاب من بين حاملي جنسيات مختلفة. ودعا السفير التركي كل بلدان أوروبا والعالم التي لديها شباب يتسلل من تركيا نحو تونس إلى «القيام بإجراءات وقائية» من بينها منع المشتبه فيهم في بلدانهم الأصلية «لأن تركيا التي تقوم بجهد أمني كبير لا يمكنها أن تمنع دخول السياح العاديين خاصة إذا كان مظهرهم الخارجي عاديا وليس في ملفاتهم ما يوحي بتورطهم في أي نوع من أنواع الجريمة المنظمة أو الإرهاب».

دبلوماسية ما قبل الثورة

ولم تتردد المواقع الإعلامية والاجتماعية القريبة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي ومن حكومة «الترويكا» بجناحيها الإسلامي والعلماني في انتهاز فرصة «غلطات» وزير خارجي تونس لتنتقد الحكومة الحالية وحلفاءها. واتهم البرلماني عماد الدايمي الأمين العام لحزب المرزوقي الحكومة الحالية بمحاولة «إعادة البلاد إلى مرحلة دبلوماسية ما قبل ثورة 2011». وذهب البرلماني عن حزب حركة النهضة الصحبي عتيق - وعضو مكتبها التنفيذي - إلى أبعد من ذلك إذ اتهمه بالتطبيع مع نظام «مورط في جرائم قتل جماعي لشعبه» بعد سنوات من وقوف رموز «الثورة التونسية مع الشعب السوري المقموع».
ودافع الوزير السابق عدنان منصر عن خيار القطع مع النظام السوري من منطلقا «حقوقية وسياسية».
أما طارق الكحلاوي المستشار السابق للمرزوقي فاتهم وزير الخارجية التونسي بكونه أصبح «خطرا على الأمن القومي التونسي»، وتساءل عن «سر التناقض بين مواقف البكوش وتصريحات رئيس الجمهورية قائد السبسي المسؤول الأول دستوريا عن السياسة الخارجية وعن الأمن القومي».

انتقادات وتساؤلات

في المقابل، اتهم عصام الشابي البرلماني السابق والناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري تصريحات وزير الخارجية التونسي واتهم الفريق الحاكم الجديد بالارتجال والأضرار بمصالح تونس من خلال «المواقف غير المدروسة» التي وقع الإدلاء بها عن تركيا وسوريا وليبيا. وأضاف الشابي: «كنا نتمنى أن يتميز الفريق الحالي في وزارة الخارجية عن الفريق السابق في إشارة إلى حكومة (الترويكا) بزعامة حزب النهضة الإسلامي التي كان الشابي من أبرز معارضيها».
إلا أن المنصف عاشور القيادي في حزب نداء تونس المقرب من الطيب البكوش قلل من أهمية «الانتقادات الموجهة إلى الأمين العام لحزب نداء تونس» وذكر بكون 9 دول عربية وعدد كبير من الدول الغربية لديها بعثات دبلوماسية في دمشق. وذكر بكون البرنامج الانتخابي لحزب نداء تونس وعدة أحزاب سبق أن تعهدت بـ«إعادة التمثيل الدبلوماسي» بين تونس وسوريا، وهو ما شرع البكوش في تنفيذه عبر الإعلان عن فتح مكتب قنصلي في دمشق وعن بعثة سوريا في تونس.
هل تؤدي هذه الزوبعة إلى إقناع الساسة الجدد في تونس بضرورة الانتقال من «الارتجال والهواية» إلى «المهنية والاحتراف» سياسيا ودبلوماسيا؟
سيأتي الجواب خلال الأسابيع القليلة المقبلة.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».