أميركا وإيران... التاريخ الصعب

المؤرخ جون غازفينيان يتتبع مساره منذ 1720 حتى الآن

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

أميركا وإيران... التاريخ الصعب

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

يستهل المؤرخ جون غازفينيان؛ إيراني المولد والحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد، كتابه «أميركا وإيران: التاريخ من 1720 حتى الوقت الحاضر»، من نقطة النهاية، موضحاً أن التحدي الأكبر أمامه يتمحور حول تحديد نقطة البداية. فمن وجهة نظر الأميركيين؛ تبدأ قصة بلادهم مع إيران عام 1979 مع أزمة الرهائن داخل السفارة الأميركية في طهران، لتتحول سطر النهاية للعلاقات الودية التي جمعت البلدين لأكثر من قرن.
في المقابل؛ تبدأ القصة من وجهة نظر الإيرانيين منذ عام 1953 عندما دبرت واشنطن انقلاباً داخل إيران عرف باسم «العملية أياكس»، أطاح رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً محمد مصدق، وأعاد تنصيب الشاه.
ويرى غازفينيان أن العلاقات بين الجانبين تعود إلى مئات السنين، عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال مجموعة من المستعمرات البريطانية، بينما كانت إيران لا تزال تُعرف للعالم الخارجي بـ«الإمبراطورية الفارسية».
صدر الكتاب في العام الحالي، ويقع في 667 صفحة؛ موزعة في 4 أجزاء تحمل أسماء الفصول الأربعة: يبدأ بـ«الربيع»؛ الذي ساد العلاقات خلاله شعور متبادل بالإعجاب، يليه «الصيف» الذي شهد التفاعلات الأولى بين الجانبين، ثم «الخريف» حيث الروابط الاستراتيجية الوثيقة، وأخيراً «شتاء» الكراهية الطويل والمظلم.
الربيع والصيف
حسب المؤلف؛ كان أول تفاعل شخصي بين الأميركيين والإيرانيين عبر تجار الروم (شراب مسكر) في القرن التاسع عشر، لكن التفاعل الأقوى جاء بين ثلاثينات القرن الـ19 وثلاثينات القرن الـ20 مع تدفق بعثات تبشيرية من الكنيسة المشيخية الأميركية على إيران لبناء مدارس ومستشفيات وكنائس، لافتاً إلى أن الحكومة الأميركية ظلت بمنأى عن هذا التفاعل، فحتى عام 1883 لم ترسل بعثة دبلوماسية رسمية إلى إيران، والتزمت بوجه عام نهجاً يتسم بالانعزالية المفرطة، وعلى النقيض، سعت طهران خلال القرن الـ19 ومطلع الـ20 إلى بناء علاقات رسمية وطيدة مع واشنطن.
أخيراً؛ بعد محاولات حثيثة على امتداد فترة طويلة من جانب قادة طهران، بدت الولايات المتحدة على استعداد للمشاركة بقدر أكبر في الوضع الإيراني. وبعد وقوف إدارة وودرو ويلسون إلى جانب إيران عام 1919، أمل الإيرانيون في استغلال الامتيازات النفطية طُعماً لإغواء الولايات المتحدة لإظهار نشاط أكبر في حماية المصالح الإيرانية، لكن كشفت الأيام عن خطأ هذه الحسابات؛ ذلك أنه في اللحظات الحاسمة لطالما تفوقت رغبة واشنطن في تجنب إثارة غضب لندن على رغباتها التجارية؛ بل حتى نزعاتها الأخلاقية.
في أكتوبر (تشرين الأول) 1925، صوت البرلمان الإيراني بأغلبية ساحقة بإنهاء حكم آل قاجار وتعيين رضا خان مسؤولاً عن إدارة البلاد، ليصبح لاحقاً رضا شاه بهلوي، ويتحول إلى القوة الدافعة الرئيسية لتحديث إيران.
وخلال عشرينات القرن الـ20، رحب رضا بالمدارس التبشيرية الأميركية، التي وصف المؤلف العلاقة بينها وبين رضا بأنها «قصة غرام»، وعدّ الحاكم الإيراني أن بمقدورها الاضطلاع بدور كبير في جهود تحديث البلاد؛ الأمر الذي حققته بالفعل.
وفي يوليو (تموز) 1941، وجهت بريطانيا وروسيا إنذاراً لرضا شاه بضرورة الانضمام للحلفاء وإعلان الحرب على ألمانيا، وإلا فسيواجه عواقب وخيمة، لكنه رفض. ومع استسلام الجيش الإيراني، أجبر رضا على التنحي ونفي إلى موريشيوس، لينصب ابنه محمد رضا بهلوي خلفاً له في سبتمبر (أيلول) 1941.
الخريف
عام 1951، شرع مصدق في تأميم شركة النفط الأنجلو - إيرانية. ورغم نصائح واشنطن المتكررة للندن بالتعامل مع مسألة التأميم بوصفها أمراً واقعاً، فإن لندن رفضت نصيحة واشنطن، ونقلت بريطانيا القضية إلى الأمم المتحدة عام 1951، ونجح مصدق من خلال كلمته أمام المحفل الدولي في كسب تأييد السواد الأعظم من الدول النامية، لدرجة أن مجلس الأمن قرار «إرجاء المناقشة»، ليعفي بريطانيا حرج هزيمة قانونية مذلة. وكشف استطلاع رأي أجراه «معهد غالوب» في ذلك الوقت عن أن اثنين في المائة فقط من الأميركيين يرون أنه ينبغي لبلادهم دعم بريطانيا ضد إيران.
وفي يونيو (حزيران) 1952، لجأت بريطانيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ليسطر فيها مصدق نصراً ساحقاً، لدرجة أنه حتى الممثل البريطاني في الهيئة المؤلفة من 14 قاضياً صوت ضد بلاده للمرة الأولى في تاريخ المحكمة.
ومن ثم؛ رأت بريطانيا أن الوقت قد حان لتغيير النظام في إيران. ورغم رفض واشنطن الفكرة بادئ الأمر، فإنها رضخت في النهاية لرغبة حليفتها، لتقع بذلك في خطيئة لا تزال تبعاتها مستمرة لليوم.
محمد رضا بهلوي
مثل أجيال سابقة من القادة الإيرانيين، آمن محمد رضا بهلوي بأن السبيل الأمثل للحفاظ على استقلال إيران الاتكاء على قوة ثالثة تعمل بمثابة «حامٍ» لها في مواجهة بريطانيا وروسيا. وبينما تحول والده بأنظاره نحو ألمانيا، وقع اختيار الشاه على الولايات المتحدة، وجعل علاقته بها حجر زاوية في سياسته الخارجية.
أما واشنطن؛ فقد نظرت لإيران بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها ساحة محتملة لاندلاع صراع بريطاني - سوفياتي، يمكن أن يتسبب في زعزعة الاستقرار العالمي، خصوصاً في ظل تمركز قوات بريطانية وروسية داخل إيران.
وخلال الفترة ما بين 1971 وسقوط الشاه عام 1979 الأخطر والأبرز في تاريخ العلاقات بين الجانبين أنه خلال تلك السنوات انهالت الأسلحة الأميركية على شاه إيران؛ الذي لم تكن واشنطن ترد له طلباً. عام 1972، أعطى وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر «شيكاً على بياض» لطهران، ووجه بأن قرارات البنتاغون بخصوص مبيعات الأسلحة لإيران «ينبغي تركها بصورة أساسية للحكومة الإيرانية».
وآمن الرئيس ريتشارد نيكسون بفكرة أنه مقابل إمداد إيران بكميات هائلة من الأسلحة الأميركية، يمكن لطهران الاضطلاع بدور المنطقة العازلة التي تحمي المصالح الأميركية بالشرق الأوسط في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي من ناحية، وتيار القومية العربية من الناحية الأخرى؛ الأمر الذي عرف بـ«عقيدة نيكسون».
وفي ديسمبر (كانون الأول) 1977، قبل أسبوع واحد فقط من اندلاع الثورة، وقف الرئيس الأميركي جيمي كارتر أثناء مأدبة في طهران ليقترح شرب نخب إيران بوصفها «جزيرة الاستقرار داخل واحدة من أشد المناطق توتراً في العالم».
كلمة السر... أردشير زاهدي
في قلب العلاقات الوثيقة على نحو استثنائي بين بهلوي وواشنطن، جاء دور أردشير زاهدي الذي تولى منصب سفير إيران لدى الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1973 و1978، ليتحول مقر السفارة الإيرانية في واشنطن على يديه إلى قبلة لكبار الشخصيات النافذة ونجوم المجتمع الأميركي. وداخل السفارة، اعتمد زاهدي على المخدرات والجنس للفوز بنفوذ في واشنطن، وأشارت قصص صحافية حينها إلى أن السفارة كانت مقراً لحفلات جنس جماعي أبطالها أعضاء في الكونغرس وصحافيون.
الشتاء
وبحسب الكتاب؛ فإنه بداية من عام 1963، بدأ نجم آية الله الخميني في الصعود. ولكن، وحتى نفيه للعراق في وقت لاحق، لم يفلح في تحقيق شعبية كبيرة بفضل سياسات الشاه القمعية. ويرى الكاتب أن الميزة الأهم للخميني طوال السنوات التي سبقت الثورة عام 1979 والفترة اللاحقة لها مباشرة تكمن في حرصه على الحديث عن أفكار عامة تلقى قبولاً من مختلف الأطياف الإيرانية، وحرصه على النأي بنفسه عن الوقوف إلى جانب طرف ما في مواجهة آخرين.
اللافت أن شبح انقلاب 1953 ظل يطارد الإيرانيين، وشكل الدافع الرئيسي وراء اقتحامهم مقر السفارة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 رداً على استضافة واشنطن الشاه، لتبدأ أزمة الرهائن الأميركيين الشهيرة، التي لا تزال تصوغ نظرة الأميركيين إلى إيران حتى اليوم.
أما السنوات التالية، فكانت سلسلة من التصريحات العدائية بين الجانبين، لم تخل من محاولات تقارب خلف الكواليس، باءت جميعها بالفشل، كانت أبرزها ما عرفت باسم «فضيحة إيران كونترا» عام 1986 عندما باعت إدارة رونالد ريغان أسلحة لإيران مقابل سعي الأخيرة للضغط على «حزب الله» للإفراج عن رهائن أميركيين في لبنان. ما زاد الوضع سوءاً كان رد الفعل الإيراني، وذلك مع خروج أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان الإيراني حينها علناً ليستعرض إنجيلاً أرسل به ريغان هدية إليه، وقال: «لقد أقرت أميركا بأن الجمهورية الإسلامية منيعة ومنتصرة». وجاء جورج إتش. دبليو. بوش ليكرر مساعي حث إيران على معاونة واشنطن في إطلاق سراح الأميركيين بلبنان. وبالفعل، بذل رفسنجاني جهوداً كبيرة حتى نجح في إنجاز الأمر، ليفاجأ بالبيت الأبيض يعلن يوم الإفراج عن الرهائن أن «إيران تبقى دولة إرهابية»، مما شكل له صفعة مدوية.
وبعد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب العراق ضد نظام الملالي بداية الثمانينات، انتهت الحال بها إلى ما عرفت بسياسة «الاحتواء المزدوج»، عادّةً النظامين؛ الإيراني والعراقي، «مارقَين».
ويوجز الكاتب القوى التي تقف عائقاً أمام حدوث تقارب بين واشنطن وطهران على النحو التالي: تيار اليمين المتشدد داخل النظام الإيراني المعتمد في بقائه على تأجيج خوف الإيرانيين من «البعبع الأميركي»، وإسرائيل التي ترى أن أي تقارب بين البلدين سيفقدها أهميتها بصفتها حليفاً استراتيجياً لواشنطن داخل الشرق الأوسط، ودول عربية تشكل أهمية كبرى للسياسة الخارجية الأميركية بالمنطقة ويتعذر على واشنطن تجاهل مخاوفها إزاء النظام الإيراني، وأخيراً اليمين الأميركي التقليدي والحزب الجمهوري بشكل كلي، والذي يؤمن بفكرة أن قوة أميركا تكمن في ضرورة ألا تظهر «ضعفاً» مطلقاً أمام العالم.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم