حسب الآراء الواردة في هذا التحقيق، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بحكم التطور التكنولوجي الهائل أكثر جذباً للأطفال من عالم الكتاب، وبذلك تراجعت عادة القراءة وانطفأ بريق القصص والحكي الشفاهي على ألسنة الجدات والأمهات، ما يشكّل خطورة على أفق الطفل الخيالي ونموه العقلي وتفاعله مع محيطة الإنساني... ما السبيل للخروج من هذه الأزمة؟
في هذا التحقيق آراء عدد من كتاب أدب الطفل ورسامي مجلات الأطفال، ودور النشر المتخصصة.
صفاء عبد المنعم، كاتبة أطفال وروائية: عودة الحكي القصصي
أولى المشكلات التي تواجه الكتابة للطفل وتساهم فيها الأسر والهيئات الثقافية المختلفة، تنحصر في الكتاب نفسه، فلا بد أولاً من تحديد الفئة العمرية على الغلاف، لأن كل مرحلة لها خصائص وأسلوب وطريقة وحكايات تناسبها.
والمشكلة الثانية مصدرها دور النشر، فكل كتاب يقدم لها هو من وجهة نظر كاتبه مهم للطفل، وهو وحده الذي يقبل هذا النص أو يرفضه، حسبما يتضمن من معلومات أو طريقة حكي مبهرة، لذا يجب عدم فرض الوصاية على الأطفال. طالما لا يوجد في الكتب تطرف، والمشكلة الثالثة مصدرها المؤسسات الثقافية التي تغلق أبوابها في وجه الأطفال وتمنعهم من القراءة.
أما عن الوسائل التي يمكن من خلالها تطوير أدب الأطفال، فتبدأ بعودة حكي القصص في المرحلة الابتدائية، فقد كانت معظم المناهج قديماً تعتمد على حكايات كليلة ودمنة، ومعظم الأجيال السابقة تعلمت بهذه الطريقة، وقد أصبح الطفل الآن يمتلك أداة مهمة، وهي التكنولوجيا ويمكن من خلالها نقل المعرفة إليه، ويمكن عمل كتب صوتية أو مصورة وأفلام قصيرة ملونة بأصوات الفنانين، ويمكن للكاتب نفسه أن يقرأ قصته وهو ما يعلّم الطفل الصغير قيمة أن يستمع لغيره حين يتكلم.
أحمد عبد العليم، باحث في المركز القومي لثقافة الطفل: دائرة ثقافية عالمية
أدب الأطفال -كمجال للبحث والتدريس- يشمل كل الأجناس الأدبية، والصيغ، والوسائط، وكل فترات الكتابة، وأنواعها، والحركات الأدبية من أي بقعة من العالم، وما يرتبط بذلك من المطبوعات المؤقتة والسلع أيضاً. وهو يشير إلى الأعمال التي وُجهت تحديداً على صغار السن، والأعمال التي باتت تُعد أدباً للأطفال من خلال تخصيصها لصغار القراء، والأعمال التي كان الأطفال يقرأونها فيما مضى، واقتصرت قراءتها الآن على دارسي الأدب.
وهنا من المهم أن نؤكد أنه لا يوجد نتاج أدبي واحد مترابط ومحدد يشكّل أدب الأطفال، ولكن يوجد عديد من أعمال أدب الأطفال التي تم إنتاجها في فترات مختلفة، وبطرق مختلفة، ولأغراض مختلفة، وباستخدام صيغ ووسائط مختلفة.
العولمة وما يصاحبها من وسائل الاتصال، والانضغاط في الزمان والمكان، يُخرج الفرد من دائرة الأسرة، إلى دائرة ثقافية عالمية، تسهم في تشكيل وعيه وبناء شخصيته، وهنا تتجلى قضية التنشئة والتي تضع الفرد أمام مؤثرات عديدة قد يجد نفسه مشتتاً أمامها إذا لم يضع لنفسه آليات تَكَيُّف تمكّنه من أن يحقق قدراً من التوازن بين القوى والمؤثرات المتناقضة، ويكون قادراً على أن يتقبل الثقافات الأخرى، مع المحافظة على هويته الشخصية والثقافية، وهو أمر يجبر كاتب الأطفال على التعامل مع قضية الإبداع بطريقة أكثر جدية، وأكتر تطوراً، بحيث يقدم إبداعاً قادراً على التعامل مع كل هذه المتغيرات في إطار عام يمكنه المساهمة بقدر في تنشئة الطفل وبناء شخصيته.
ومن هنا ينبغي أن يسهم الأدب في تنمية الأطفال من خلال جوانب متعددة، منها الجانب العقلي، والخيالي، والإدراكي، والوجداني... إلخ، ويلعب الأدب دوراً مهماً، من خلال سلوكيات الشخصيات الذين يُعجب بهم الطفل ويقدرهم، فيقلدهم ويتبنى ممارساتهم دون تردد، وعبر عملية اكتشاف الذات، ينتقل الطفل إلى إدراك الموجودات من حوله، وهي عملية مهمة، ويتم بناؤها اعتماداً على تعميق مدركاته وخلق المعاني التي يختارها بفاعلية ونشاط.
أحمد زحام، كاتب أطفال:
انغلاق منافذ النشر
يواجه أدب الطفل تحديات كثيرة منها مشكلة التواصل بين الكاتب والطفل بسبب قلة المعروض من الكتب والمجلات، فمجلات الأطفال محدودة، وتخدم عدداً محدوداً من الكتاب، كما تمتنع دور نشر عامة وخاصة عن استقبال كتابات جديدة، مما يؤدي إلى إغلاق منافذ النشر، ففي السنوات الأخيرة على سبيل المثال أغلقت دار الهلال سلسلتي «روايات الهلال للأولاد والبنات التاريخية»، و«كتب الهلال للأولاد والبنات»، كما تحول كتاب «قطر الندى» من إصدار نصف شهري إلى إصدار شهري، وهناك كثير من الكتب لا يخص الأطفال إلا في الشكل، أما المقدَّم من رواية وقصة مصورة فيظهر دائماً دون المستوى.
ويواجه أدب الطفل مشكلة عدم تطويره بما يواكب التغير العقلي لطفل اليوم الذي يمتلك وعياً كبيراً نتيجة المخترعات الحديثة التي يتعامل معها يومياً، كما أن دور النشر الخاصة أصبحت لا تتعامل إلا مع أسماء بعينها، وتفضل الحاصلين على جوائز بوصفهم أوراقاً مضمونة.
أما عن التطور التكنولوجي وسهولة تعامل الطفل معه، فقد قلل من اهتمام الأسرة بالكتاب، وتراجعت كتب الطفل الورقية أمام منصات الكتب على الإنترنت التي جذبت الأطفال إليها، وجعلت الحكايات القديمة خارج اهتمامه، لذا يجب أن يهتم كتاب أدب الطفل بتلك النقلة الموضوعية التي تشير إلى أننا في مرحلة انتقالية ما بين المطبوع والإلكتروني.
هشام علوان، كاتب أطفال وإعلامي: البحث عن آفاق جديدة
الطفل كائن ذكي، يكتسب خبراته بالملاحظة والمراقبة والتجربة، فتجذبه الكتب في سن مبكرة بحكايات بسيطة ورسومات جذابة، حتى يصبح قادراً على القراءة، وتتكون ذائقته في الاختيار، فينتقي ما يحبه من كتب تقدم له معلومات لزيادة وعيه المعرفي، تبتعد عن المباشرة والتقريرية، وبلغة سهلة، تثري قاموسه، وتضيف لوعيه الجمالي، وتنمي خياله.
أرى أن كل مبدع لديه قناعة بأفكاره التي يريد إيصالها للطفل، ولا يوجد كتالوج محدد للأمر، لكنْ هناك أطر عامة، مثل المرحلة العمرية الموجه إليها النص، حيث تختلف الأفكار واللغة وفقاً لذلك، وهناك ضرورة للانتباه إلى الألفاظ التي تحمل دلالات سلبية تحض على العنف والكراهية، وتخالف قيم المجتمع وعاداته.
ويحاول أدب الطفل حالياً البحث عن آفاق جديدة، يقاوم من خلالها منافسين أشداء، ظهروا مع تجليات الرقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي، فالتطبيقات المنتشرة مؤخراً وما بها من مشهيات تجتذب الطفل، وتشده بعيداً عن عالم القراءة.
ويمكن لأدب الطفل أن يقدم نفسه بشكل موضوعي مقنع للطفل العربي، إذا ابتعد عن التكرار والكتابات التقليدية التي تنفر الطفل ولا تناسب مُدركاته، والبحث عن طرق وموضوعات مستحدثة متنوعة تشبع احتياجات الطفل في عصر المعلوماتية، وهنا تقع مسؤولية كبيرة على دور النشر.
أيمن شرف، كاتب ومترجم ومدير دار نشر «الترجمان»: الاستفادة من التطور العلمي
إذا ما قارنّا مثلاً محتوى أدب الطفل المكتوب بالعربية بنظيره المكتوب بالألمانية أو النرويجية أو السويدية سنجد أن الأدب المكتوب بتلك اللغات يستفيد استفادة كبيرة من التطور العلمي في معرفة نمط النمو العقلي للطفل ومراحله المتتابعة، ومن يكتبون للطفل في مراحله العمرية المختلفة يدرسون –في الغالب - أو يطّلعون على دراسات في هذا الشأن، بالإضافة إلى أن دور النشر توفر متخصصين في الصياغة أو محررين لمراجعة النصوص سواء كانت خيالية أو غير خيالية، وهناك بالطبع كتاب موهوبون يعتمدون في كتاباتهم على الحدس والموهبة الأدبية، لكن النسبة الغالبة تستند إلى المعرفة المتوفرة عن نمو الطفل في مراحله السنية المختلفة، وما يتطلبه ذلك من مواصفات في الكتاب، سواء كان مصوراً أو نصياً... وإجمالاً ليست هذه هي الحال في محتوى أدب الطفل المكتوب بالعربية.
أما عن جودة الكتاب وتكلفته، فسنجد أيضاً أن التكلفة العالية لكتاب الأطفال –المصور على وجه الخصوص- تفرض خفض الجودة، بما يقلل من نسبة قراءته، ولا يحظى بالكتاب عالي الجودة والتكلفة إلا أطفال الأسرة الميسورة، وهو ما يحدّ من إقدام كثير من الناشرين على إنتاج كتب للأطفال، وفي ظل تراجع دور الدولة التنموي لا تتوفر فرص إنتاج كتب للأطفال يمكنها أن تنمّي وعيهم وترقى بهم.
جانب ثالث –أحدث نسبياً- في مشكلات أدب الطفل، وهو توفر وسائط رقمية حديثة تنقل للطفل محتوى ثقافياً أكثر إثارةً وتشويقاً يعتمد على الصورة والصوت، وعلى محتوى لا يلبي بالضرورة احتياجات نموه النفسي والعقلي، لكنه ينجح في جذب اهتمامه وأسره في ألعاب إلكترونية تسيطر على انتباهه دون أن تعلّمه ما ينبغي أن يتعلمه من قيم أو تنمّي قدراته البدنية والذهنية، بل إنها ربما تعوق هذا النمو وتعطل قدراته وتفاعله مع محيطه الإنساني.
أسامة علي، رسام وكاتب أطفال: تأثيرات التكنولوجيا الضارة
اهتمّ العالم بالأدب الموجّه إلى الطفل منذ القرن السابع عشر تقريباً، لإدراكهم أن تشكيل عقل ووجدان الطفل لا يكون إلا باقتحام عالمه وتنمية خياله، ووصلت أهمية أدب الأطفال وتطورها إلى درجة أنه تم تحويل بعض روايات الأطفال من روايات وقصص مكتوبة إلى رسوم متحركة لنشرها بطريقة أكبر وأسرع جنباً إلى جنب مع الروايات المكتوبة، وتم تحويل بعض الروايات ذات المبيعات العالية إلى أفلام سينمائية، واستمر أدب الطفل في نجاحه وانتشاره حتى ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا بدا اهتمام الأطفال بالقراءة يقل تدريجياً مع زيادة اهتمامه بوسائل وأدوات التكنولوجيا.
أما عن اهتمام الكُتاب والمبدعين بهذا المجال فبدأ يخفت تدريجياً مع سهولة الاستعاضة بالقصص المترجمة والمُعرّبة عوضاً عن روايات الأطفال ذات الطابع الشرقي العربي الأصيل، والانبهار بكل ما هو أجنبي.
وهناك مشكلة مهمة متعلقة بالنشر والتوزيع بعد أن أصبحت تكلفة الطباعة والنشر كبيرة، بالإضافة لاعتقاد البعض بعدم أهمية الكتابة للأطفال، مما جعل مجال الكتابة للأطفال طارداً للكُتاب وغير مشجع، ولحل هذه المشكلات يجب أن يدرك الآباء أن التكنولوجيا الحديثة لها جوانب عديدة سيئة في التأثير على الأطفال، فهي تقتل الخيال والإبداع، كما أن الجهات الحكومية المسؤولة لها دور في طرح مبادرات تشجيعية للأطفال على القراءة، إيماناً بدور الثقافة في تشكيلهم عقلياً ووجدانياً.