نجيب ميقاتي... الملياردير الوسطي... ومغامرة التكليف

يحاول قيادة سفينة الحكومة اللبنانية في ظروف استثنائية

نجيب ميقاتي... الملياردير الوسطي... ومغامرة التكليف
TT

نجيب ميقاتي... الملياردير الوسطي... ومغامرة التكليف

نجيب ميقاتي... الملياردير الوسطي... ومغامرة التكليف

لم تغرِ التصريحات التفاؤلية للرئيس المكلف تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة نجيب ميقاتي عارفيه بإمكانية تأليف سريع للحكومة، وهي المهمة التي عجز عنها اثنان، أحدهما هو «الرئيس الطبيعي» للحكومة سعد الحريري الذي فشل في التوافق مع رئيس الجمهورية ميشال عون على تشكيلة ترضيهما، فقرر الاعتذار بعد تسعة أشهر على تكليفه، وقبله فعل الشيء نفسه السفير مصطفى أديب، المقرب من ميقاتي، ليقترب لبنان من سنة كاملة بلا حكومة.
فالرئيس ميقاتي – كما يقول أحد معاونيه – يبحث دائماً عن الإيجابيات في كل المواقف، لكن المحير يبقى سبب قبوله تأليف الحكومة فيما يمكن أن يوصف بأنه «مهمة مستحيلة»؛ نظراً للتعقيدات التي تحيط بعملية التأليف. فالرئيس عون الذي لم يتزحزح عن مواقفه رغم كل الضغوط الناجمة عن الانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي ليس أكثر وداً مع ميقاتي مما كان عليه مع الحريري، بل يذهب البعض إلى العكس، خصوصاً أن فريق عون استقبل ميقاتي بحملة إعلامية تتحدث عن «ارتكابات وشبهات» تحيط بميقاتي.
ثم أن النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون المقربة من القصر الجمهوري وجهت ادعاءً رسمياً لميقاتي وأفراداً من عائلته ومصرفاً يمتلك أسهماً فيه، ونسبت إليهم ارتكاب جرم «الإثراء غير المشروع، عبر الحصول على قروض سكنية مدعومة من مصرف لبنان». ورد ميقاتي آنذاك بالدعوة إلى «إنقاذ عهد الرئيس عون». وقال في مؤتمر صحافي عقده، إن الادعاء عليه «رسالة وهي وصلت، وهي أن الكيل طفح منا ومن مواقفنا ومن دفاعنا عن الدستور و(الطائف)»، معتبراً أن ذلك يأتي رداً على امتناعه عن انتخاب عون قبل ثلاث سنوات «لذا سيتم البدء بي، والسيف سيكون فوق رقبتي».
ولد نجيب عزمي ميقاتي، في مدينة طرابلس عاصمة شمال لبنان في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1955، وتلقى تعليمه الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت، وتابع الدراسات العليا في «المعهد الأوروبي لإدارة الأعمال» في فرنسا وجامعة هارفارد في الولايات المتحدة. ولقد تربى ميقاتي في عائلة متماسكة «يحترم فيها الصغير الكبير ويحنو فيها الكبير على الصغير» كان والداه مثله الأعلى في الحياة. والكل يذكر الدموع التي ذرفها عند وفاة والدته، وقيادته بنفسه السيارة التي تحمل نعشها في رحلتها الأخيرة من بيروت إلى طرابلس. كذلك، يحمل نجيب لشقيقه الأكبر طه - الذي أخذ دور «جمع العائلة» لاحقاً - عاطفة كبيرة لا يتورع عن إظهارها في كل المناسبات. أما زوجته مي دوماني التي رافقته في حياته منذ كان في الـ23 من عمره، فهو يرد إليها «الفضل الأكبر في نجاحه وفي تربية الأولاد على المبادئ العائلية السليمة»، ولديهما ثلاثة أولاد.
وعن عائلته يقول «أنا نشأت في عائلة قوية الروابط، وكان والدَي على تفاهم تام. كنا عائلة متوسطة الحال، وكان اهتمامهما الأساسي هو تعليمنا، وبالفعل تلقينا نحن السبعة أفضل تعليم في أفضل المدراس والجامعات. وكان همهما تأمين كل ما نطلب وتوفير سبل الراحة لنا. ونحن أتينا من عائلتين كبيرتين لأمي وأبي، فكان لدينا رابط عائلي متين مع العائلة الكبرى من جانب الوالدين، وكنا دائماً على تواصل، خصوصاً في فصل الصيف، حيث كنا نصيّف مع كل أفراد العائلة الكبرى في بلدة حصرون بشمال لبنان، وكنا نترافق خلال فترة الصيف باللعب واللهو والطعام والسهرات، وهذا ما خلق رابطاً مشتركاً مع أفراد العائلة».

الاتصالات والأزياء والطيران
تصنف مجلة «فوربس» العالمية الشهيرة نجيب ميقاتي على أنه الرجل الأغنى في لبنان حالياً. جمع ثروته التي تفوق 3.3 مليار دولار أميركي من مجموعة من المشاريع والاستثمارات في لبنان وأفريقيا وأوروبا، أبرزها في قطاع الاتصالات الذي بدأ العمل فيه في عام 1982 مع شقيقه طه. لكن رجل الأعمال نجيب ميقاتي يرفض الحديث عن ثروته التي جمعها من خلال أعماله الناجحة حول العالم بدءاً من قطاع الاتصالات الذي قالت مجلة «فوربس» أنه درّ عليه وشقيقه طه 2.6 مليار دولار من الأسهم لكل منهما جراء صفقة بيع أسهم شركة «إنفستكوم» للاتصالات لشركة «إم تي ان» العالمية.
وللعلم، فإن «مجموعة ميقاتي غروب» باشرت عملية استثمار واسعة، أبرزها شركة «فاسونابل» المشهورة للأزياء بـ210 ملايين دولار، بالإضافة إلى شركة نقل جوي وعشرات الطائرات والعقارات. ولقد ساهم الرئيس ميقاتي في أوائل الثمانينات في تأسيس «إنفستكوم» التي أصبحت رائدة في عالم الاتصالات في الأسواق الناشئة في الشرق الأوسط وأفريقيا. واندمجت لاحقاً في شركة «إم تي إن» MTN العالمية بعد إدراج أسهم «إنفستكوم» في بورصتي لندن ودبي. ولقد بدأ ميقاتي العمل مع شقيقه طه الذي أسس شركة تتعاطى المقاولات الهندسية في أبوظبي، حيث كان بدأ العمل هناك منذ تخرجه عام 1968 في الجامعة الأميركية ببيروت. وإضافة إلى عمله، كان هاوياً لمعدات الاتصال، وكان يهوى تجميع هذه الآلات رغم أنه كان مهندساً مدنياً. وباتت الشركة موجودة في 20 دولة تقريباً. كما دخل الأخوان أيضاً عالم الطيران، حيث امتلكا عدداً كبيراً من الطائرات قاما باستثمارها مع شركات أخرى، بالإضافة إلى شركة طيران اسمها «فلاي بابو» تنطلق من سويسرا.

في عالم السياسة
لا يستغرب نقولا نحاس، النائب في البرلمان اللبناني وصديق رئيس الحكومة المكلف منذ الطفولة، وكذلك عضو كتلته البرلمانية، قبول ميقاتي مهمة تأليف الحكومة في هذه الظروف الصعبة؛ وذلك انطلاقاً من شخصيته. فميقاتي، حسب نحاس «دائماً كان سباقاً ولديه القدرة على الذهاب إلى أماكن قد لا تكون سهلة بالنسبة للآخرين». ويعتبر نحاس أنه ما من شخص يعرف ميقاتي عن قرب إلا وسيلاحظ شخصيته التواقة إلى المبادرة واستباق الأمور، هذا فضلاً عن قدرته على الاندماج مع الآخرين.
وتابع نحاس في حديث مع «الشرق الأوسط»، «أنّ ميقاتي سيقوم بكل جهده لتأليف حكومة انطلاقاً من شخصيته التي يتمتع بها والتي تتميز بقدرة عالية على التواصل مع الآخرين والذهاب إلى الآخر في المواضيع بهدف حلحلتها». قبل أن يضيف، أنّ ميقاتي «يعرف أن التجربة لن تكون سهلة فهو شبهها بمن يرمي نفسه بالحريق، ولكنّه يحاول تخفيف تمدّده، ولن يتلكأ طالما يرى إمكانية ولو ضئيلة لإنقاذ البلد، انطلاقاً من واجبه الوطني».
يضع نحاس الاتهامات الموجهة لميقاتي في ملفات الفساد في إطار «الاتهام السياسي المعروف الأصل»، مشدداً على أن القضاء هو الحَكَم، وليس الشائعات والاتهامات التي لا تمت للحقيقة بصلة. ويعتبر نحاس، أنه لا يمكن اتهام رجل أعمال أو سياسي بأنه فاسد بمجرد أن أخذ قرضاً غير مدعوم وليس من أموال الدولة، ولا سيما أن رجال الأعمال يعتمدون على القروض لتوسعة أعمالهم. وأرف أنّه إذا أردنا لصق تهمة الفساد بكلّ شخص أو سياسي أو رجل أعمال أخذ قرض لكان نصف اللبنانيين فاسدين.

كفى يا سعد!
وفي المقابل، لا يبدو ميقاتي أقل تشبثاً بمواقفه المناوئة لعون - الذي يأخذ عليه ميقاتي سعيه لتقويض صلاحيات رئاسة الحكومة -، بل إنه كان يأخذ على الحريري نفسه «تساهله» مع عون، وواقعة مغادرة عون جلسة مجلس الوزراء طالباً من رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري ترؤس الجلسة، خير دليل على ذلك. حينذاك نقل وزير الإعلام بالوكالة بيار بو عاصي عن الرئيس الحريري «في ختام جلسة مجلس الوزراء نوّه رئيس الحكومة بفخامة رئيس الجمهورية الذي اضطر إلى مغادرة الجلسة طالباً من دولة رئيس مجلس الوزراء ترؤس الجلسة.
واعتبر رئيس الحكومة ثقة الرئيس به دليلاً على ثقة رئيس البلاد بالحكومة وبالمؤسسات الدستورية، وذلك يشكل سابقة إيجابية ودليل خير».
وسارع ميقاتي عبر «تويتر»، معبراً عن استغرابه واستهجانه، قائلاً «أمام هذا الكلام على لسان وزير الإعلام بالوكالة شعرت بالاستفزاز لأمرين: أولهما عدم الاطلاع الكافي على الدستور وثانيهما ما يصيب مقام رئيس مجلس الوزراء». وتابع «لذلك؛ أتوجه إلى دولة رئيس مجلس الوزراء بكل محبة واحترام وأقول له (كفى يا سعد)».
في الواقع، يعتقد كثيرون أن ميقاتي أقل ميلاً لتقديم التنازلات في مواجهة عون، وأكثر تصلباً من سعد الحريري نفسه. فالحريري صاحب «الشرعية السنية» كونه يرأس التيار السني الأكبر في البلاد والكتلة السنية الأكبر في البرلمان، وهو نجل الرئيس رفيق الحريري، في حين أن ميقاتي يكافح من أجل توسيع حاضنته الشعبية السنية التي بناها من الصفر، كما بنى ثروته الكبيرة. أما تجربته مع فريق رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل، فلم تكن سهلة للأخير.
ميقاتي تسلم رئاسة الحكومة في العام 2009 فيما عدّه الحريري آنذاك «ضربة غدر» مزدوجة، الأولى باستقالة وزراء عون وفريق 8 آذار حين كان الحريري في اجتماع مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، والأخرى قبول ميقاتي ترؤس الحكومة خلفاً له. واتخذ الحريري عندها موقفاً غاضباً من ميقاتي، لكن الأخير لم يغضب الحريري أكثر من ذلك، بل هو حمى «رجال الحريري» في السلطة، فرفض إقالة قادة أمنيين مقربين من الحريري، وأبقى عليهم إلى جانبه. ثم إنه استقال من رئاسة الحكومة بسبب معلن هو رفض العونيين و«8 آذار» تمديد ولاية أحدهم، كما لم يصدر عنه ما يمكن أن يعد تهاونا في مواجهة «8 آذار»، حتى أن أحد المقربين من باسيل وصفه بـ«العثماني» في تشدده. وهذا الموقف مهّد لاحقاً لمصالحة بين ميقاتي والحريري الذي دعم مرشح ميقاتي لرئاسة الحكومة مصطفى أديب أولاً، ثم ميقاتي نفسه حالياً، علماً بأنهما باتا عضوين في نادي «رؤساء الحكومات السابقين».

إشاعة الأجواء الإيجابية
مع هذا كله، يصرّ ميقاتي على إشاعة الأجواء الإيجابية، فبعد كل لقاء مع عون يتحدث عن تفاهم كامل، في حين يقول المطلعون على الموقف بينه وبين عون بأن «لا جديد تحت الشمس». وقال ميقاتي في أول حديث أجراه بعد تكليفه مع الزميل مرسال غانم، إنه يختلف عن الحريري في شخصيته، ويتفق معه في الموقف. وتابع «كل واحد عنده أسلوبه، ويمكن أسلوبي مريح ميشال عون» متسائلاً «لماذا يجب أن نعمل (مع عون) على طريقة (أم حرقوص وأبو حرقوص)، هو يحرقصني (يناكفني) وأنا أحرقصه (أناكفه)... لا بد من التعاون». وأشار إلى أنه «حتى الآن هناك تفاهم وتعاون كامل بيني وبين رئيس الجمهورية ومهمتنا إنقاذ لبنان ونحن على توافق على المعايير وإبقاء النقاط الخلافية جانباً ويجب أن نطرح أسماء مقبولة من الناس وتعطي أملاً وطموحاً بإمكان إجراء الإصلاح في البلد». لكن ميقاتي وجه رسائل لن تجعل مهمته سهلة في التأليف عندما قال: «لا يمكن أن تكون (وزارتا) الداخلية والعدل ملك فريق معيّن». ولفت إلى أن «الحقائب الأساسية للمرحلة المقبلة هي: الاقتصاد والمال، الداخلية والعدل، ووزارة الطاقة ويجب أن تكون مستقلة وأن تعمل بشكل وطني، ووزارة الاتصالات هي بترول لبنان ويجب أن تبقى كذلك».
ولا يخفي الوزير الأسبق ناظم الخوري، الذي كان وزيراً في حكومة ميقاتي عام 2011، أن الرئيس المكلف «يمتاز بقدرته على تدوير الزوايا»، لافتاً إلى أن هذه الصفة «اختبرتها فيه خلال هذه الفترة رغم معرفتي به منذ كنت نائباً في عام 2000، وكان في تلك الفترة وزيراً للأشغال العامة». يقول الخوري الذي حمل حقيبة وزارة البيئة في حكومة 2011 لـ«الشرق الأوسط»، «خلال فترة ترؤسه حكومة العام 2011، اكتشفتُ فيه شخصاً يمتلك القدرات، وفي مقدمها القدرة على تدوير الزوايا السياسية واجتراح الحلول وتطويق التباينات وحصرها».
ورغم أن ميقاتي كان رئيساً لحكومة كانت توصف بأنها حكومة «قوى 8 آذار»، يقول الخوري، إن الحكومة بالممارسة «تصرفت بطريقة مختلفة جداً، وأدارها بما يثبت أنها لم تكن حكومة (8 آذار) لأنه لم يطبق سياستها في ممارسته الحكومية»، مشدداً على أنه «شخص عروبي، ومدافع شرس عن عروبة لبنان واتفاق الطائف». ويوضح الخوري «أظهر ميقاتي أنه موضوعي، وفي ممارسته كان شرساً في الدفاع عن حقوق الطائفة السنية كممثل لها بالتركيبة الطائفية اللبنانية». وأشار إلى أنه «استطاع أن تكون له علاقات مع كل الأطراف، ويجيد حفظها»، معتبراً أن هذه الميزات «جعلته بعد عشر سنوات مرشح الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة الحالية».

العلاقات مع سوريا
ميقاتي الذي كان على علاقة اقتصادية مع سوريا قبل الأزمة السورية، استطاع فصل هذه العلاقة عن الملف المرتبط بالنازحين السوريين بعد اندلاع الحرب السورية، بحسب ما يقول الخوري، مشيراً إلى أن رئيس الحكومة في ذلك الوقت «كان موقفه وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً... وفي الواقع برهن أنه وطني بكل مواقفه، ولم يكن متأثراً بعلاقته الاقتصادية (كمستثمر في قطاع الاتصالات في سوريا قبل الأزمة)، كما لم تكن مواقفه نابعة من مسايرة لدمشق بشهادة أشخاص عدة عايشوا تلك الحقبة». ويشير إلى أن ميقاتي «يحيط به فريق من المستشارين الذين يمتازون بكفاءاتهم العالية التي يستطيع أن يستفيد منها ويمتلكون رؤية، وقد اختبرنا ذلك في فترة توليه رئاسة الحكومة في السابق».
وبخلاف موقفه المتشدد من صلاحيات رئيس الحكومة كان ميقاتي من دعاة «الوسطية»؛ إذ يأخذ البعض على ميقاتي «طوباويته» في السعي إلى إقامة «الفكر الوسطي» في لبنان ومنه إلى العالم العربي، لكن ميقاتي يبرر اتجاه نحو «الوسطية» - التي تختلف عن أحزاب الوسط - بأنها «أتت على ضوء ما شهدناه في السنوات الماضية من الاتجاه نحو المزيد من التطرف والمواقف الغريبة عن أدائنا وعن روحنا العربية والإسلامية».
كذلك، يشدد ميقاتي على ريادة «التجربة اللبنانية» في مجال الوسطية، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» في حديث سابق «إن ما شهدناه في لبنان يؤكد لنا أن هناك دائماً نقطة التقاء، وأنه لا يمكن حصول اللقاء إذا لم يتقدم كل طرف نحو الآخر للقاء في منتصف الطريق... فلماذا لا نوفر على أنفسنا وعلى الناس مشقة التجربة مراراً وتكراراً ونوفر المزيد من الدماء والعنف والتشنج.
في لبنان، النموذج هو اتفاق الطائف، وهناك قضايا عربية أخرى ملحة كالموضوع الفلسطيني والموضوع العراقي، ولا بد دائماً من حل وسط يرضي الجميع».
ويرفض ميقاتي الاتهامات الموجهة إلى الوسطية بأنها رمادية ويعتبر أن الوسطية في الأمور الأساسية هي قمة الجرأة، مشيراً إلى أنه لا يوجد وسطية في قضية فلسطين بين المحتل ومن هو تحت الاحتلال... ويقول «الوسط هو المكان الذي يلتقي فيه الجميع؛ لأن الالتقاء عنصر أساسي في تقريب وجهات النظر، نحن في حاجة إلى المزيد من الاستقرار والاتفاق؛ فالخلافات الداخلية أمر ندفع ثمنه دائماً. لبنان نموذج للوسطية...عندما تضع نفسك مكان الآخر، والعكس حتماً سنصل إلى حلول».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.