لو سألنا كثيراً من مواطني هذا العصر، في أماكن مختلفة من هذا العالم: من ترونه ممثلاً حقيقياً لعصرنا الرقمي؟ فأظن أن معظم الإجابات ستختار واحداً أو أكثر من الأسماء التالية: بل غيتس، إيلون ماسك، ستيف جوبز، لاري بيج،... إلخ. ليس هؤلاء بمعذورين عن نمطية إجاباتهم لأنهم في النهاية يتلقون خبراتهم من المعلومات السائدة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تحرص على معاملة هذه الأسماء معاملة النجوم السينمائيين وكبار الكتاب المشهورين. المسألة في نهاية المطاف مسألة دعاية وعلاقات عامة، وسيادة المعلومة المجانية حتى لو كانت غير دقيقة أو تنتمي لفئة الأخبار الزائفة (Fake News) التي صارت معلماً من معالم عصر ما بعد الحقيقة (Post – Truth).
لكن العارفين الحقيقيين بتفاصيل التطور المفاهيمي للأفكار والنظريات التي صارت مصنعات تقنية سائدة في وقتنا الحاضر يعرفون أن صانعي العصر الرقمي إنما كانوا أسماء ربما غلفها النسيان، أو في الأقل لم يعد معظم مستخدمي التقنيات الرقمية المتقدمة من الأجيال الشابة يعرفون عنها شيئًا، ويأتي كلود شانون (Claude Shannon) في مقدمة تلك الأسماء.
يسعى العلم وراء القوانين الأساسية في الطبيعة، وتسعى الرياضيات وراء مبرهنات جديدة تُبنى على مبرهنات قديمة، وتسعى الهندسة لبناء منظومات تفي بالاحتياجات البشرية المستجدة. هذه المساعي الثلاثة متداخلة التأثير فيما بينها، وإن كانت متميزة بذاتها، وثمة حالات نادرة يتمكن فيها شخص بمفرده من تحقيق إنجازات أساسية في الحقول الثلاثة بطريقة متزامنة. كلود شانون أحد هؤلاء النادرين، فقد كان شخصية نادرة يصعب إيجاد مثيل لها بين علماء آخرين.
ولو تجاوزنا حقيقة أن شانون كان الموضوع الأساسي الذي تناوله وثائقي حديث عنوانه «اللاعب مع الوحدات المعلوماتية الصغيرة» (The Bit Player)، وأنه كان شخصاً مثل عمله وفلسفته البحثية مصدر إلهام للمسار المهني الشخصي لكثيرين منا، فإن شانون ليس بالاسم الشائع المعروف بين أوساط الناس، وهو لم ينَلْ جائزة نوبل أبدًا عن أي من منجزاته العلمية الكبيرة، ولم يكن نجماً يحتفي الناس به أينما حل في العالم، مثل ألبرت آينشتاين أو ريتشارد فاينمان؛ فقط ظل شخصاً لا تُسلط الأضواء عليه، سواء قبل مماته عام 2001 أو بعد ذلك التاريخ، لكن هذا الرجل الاستثنائي استطاع قبل نحو سبعين سنة من اليوم، بواسطة مادة بحثية واحدة ذات تأثير ثوري مثّل انعطافة مفصلية في ميدانه، وضع أسس البنية التحتية لكامل قطاع الاتصالات الذي صار عماد العصر المعلوماتي الحديث.
وُلِد شانون في بلدة غايلورد في ولاية ميشيغان الأميركية عام 1916 لأب يعمل رجل أعمال محلي ضمن حدود بلدته، وأم تعمل معلمة. وبعد تخرجه من جامعة ميشيغان بشهادتين جامعيتين: واحدة في الهندسة الكهربائية، والأخرى في الرياضيات، كتب شانون أطروحة ماجستير في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، طبق فيها مبادئ الصياغة الرياضياتية لما يسمى «الجبر البولياني» (Boolean Algebra) في دراسة تحليل وتركيب «الدوائر المفتاحية» (Switching Circuits). وقد مثّلت أطروحة شانون مفصلاً انعطافياً حقيقياً استطاع فيه تحويل تصميم الدوائر الكهربائية من فن حدسي إلى علم حقيقي، وتسود اليوم قناعة راسخة بأن عمل شانون هذا كان بداية الشروع في تطوير تصميم الدوائر الرقمية. ثم شرع شانون عقب ذلك في تركيز بؤرة رؤاه الواعدة نحو هدف أكبر: الاتصال.
الاتصال هو أحد الحاجات البشرية الأساسية، إذ منذ عهد إشارات الدخان، مروراً بالحمام الزاجل، حتى عهد التليفون والتلفاز، سعى البشر دوماً وراء طرائق تمكنهم من الاتصال فيما بينهم لمسافات أطول، بأزمان أسرع ووسائل أكثر موثوقية واعتمادية، لكن هندسة منظومات الاتصال كانت دائماً مقيدة بمحددات الوسائط المادية المشتركة في الاتصال. تساءل شانون: هل ثمة نظرية موحدة كبرى للاتصال؟ وفي رسالة وجهها شانون عام 1939 إلى أستاذهِ المشرف عليه فانيفار بوش (Vannevar Bush)، قام بتأشير النقاط المفصلية لما سماه «الخواص الأساسية للمنظومات العامة لنقل المعلومات». وبعد أن عمل على هذه المعضلة لما يقارب العقد من الزمن، نشر شانون عام 1948 ورقته البحثية التي تعدُّ العمل الأفخم (Masterpiece) بين أعماله، وكانت بعنوان «نظرية رياضياتية للاتصال».
في الكتاب المعنون «عقلٌ لا يهدأ» (A Mind at Play)، المنشور عام 2017، يخبرنا المؤلفان: الصحافي جيمي سوني، والمنظر السياسي روب غودمان، عن سيرة شانون بطريقة شغوفة من منظور القارئ العادي الذي يسعى بجهد حثيث لمعرفة أفكار شانون. الكتاب -كما يخبرنا مؤلفاه في مقدمته- موجه نحو هؤلاء الساعين لمعرفة مزيد من تفاصيل حياة شانون، واهتماماته الكثيرة التي كان لها تأثيرها الكبير في صياغة شكل العصر المعلوماتي الذي نعيشه اليوم.
وقد أنجز مؤلفا هذه السيرة عملاً بحثياً مرهقاً تطلبه هذا الكتاب، وهذا شيء يستشعره القارئ من كم التفاصيل الدقيقة الواردة في الكتاب، حيث يقدم المؤلفان صورة دقيقة للتطور الفكري لشخصية شانون، في سياق يفهم معه القارئ كيف تناغم هذا التطور الشخصي مع انبثاق عصر الحوسبة والاتصالات. نقرأ في الكتاب عن تفاصيل حياة والدَي شانون: كان والده قاضياً لبرهة من الزمن، ثم أصبح رجل أعمال؛ أما والدته، فكانت معلمة لغات ومديرة مدرسة ثانوية. ثم يتناول المؤلفان حياة شانون المدرسية والجامعية والمهنية الأكاديمية التي قادته إلى تطوير علاقات وثقى مع كبار العلماء وقادة عصر المعلومات والحاسوب في عصره: ألبرت آينشتاين، فانيفار بوش، جون فون نيومان، آلان تورنغ،... إلخ، فضلاً عن علماء كبار في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) ومختبرات بِلْ في نيوجيرسي. وثمة تفصيل كبير تقصّد فيه المؤلفان شرح حيثيات واقعة التقاء شانون مع جون فون نيومان للمرة الأولى في معهد الدراسات المتقدمة عام 1940. والمعروف عن فون نيومان أنه أحد العقول الريادية العملاقة في مضامير كثيرة من البحث العلمي، ومنها تصميم الحاسوب. وقد استمتع شانون كثيراً في إقامته بمعهد الدراسات المتقدّمة، وكانت له جولات نقاشية ممتعة كثيرة مع عالميْن كبيرَيْن في هذا المعهد: الفيزيائي ذائع الصيت ألبرت آينشتاين، والرياضياتي عالم المنطق كورت غودل صاحب مبرهنة اللااكتمال الشهيرة المعروفة باسمه.
الفصل الذي خصصه المؤلفان لشانون أستاذاً قضى كل حياته الأكاديمية في قسمي الرياضيات والهندسة الكهربائية بمعهد ماساتشوستس للتقنية وجدته أمتع فصول الكتاب لسببين: الأول أن شانون طور علاقات أكاديمية وإنسانية راقية مع بعض أفضل العقول العلمية في العالم (منهم نوربرت فينر على سبيل المثال)، والسبب الثاني أن كثيراً من طلبة شانون صاروا علامات مضيئة في التاريخ العلمي والتقني العالمي، ولا بأس من إيراد بعض الأمثلة: عالم الحاسوب ليونارد كلاينروك (Leonard Kleinrock) مؤسس شركة «كوالكوم» لتقنيات الرقائق المصغرة، وإروين جاكوبز (Irwin Jacobs) الرائد في شبكات الإنترنت الأولى المسماة «آربانت لورنس روبرتس» (Lawrence Roberts)، والمنظر المعلوماتي توماس كيلاث (Thomas Kailath).
يقدم سوني وغودمان في أحد فصول الكتاب وصفاً للطريقة التي ساهم بها شانون في حل بعض المعضلات العملية التي واجهت الجيش الأميركي والحكومة الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، ومنها مثلاً: كيف السبيل للحصول على مواصلات آمنة عصية على الاختراق من قبل جواسيس العدو، حيث طور شانون خلال هذه المرحلة علاقاته مع آلان تورنغ، العالم البريطاني الذي ترأس مجموعة «بليتشلي بارك» لفك الشفرة الألمانية (Enigma). ويمكن القول إن عمل تورنغ في ميدان الحوسبة، مقترناً مع عمل شانون في ميدان نظرية المعلومات، هما العمودان الأساسيان اللذان قام عليهما علم الحاسوب الحديث.
إن ما يؤسف له حقاً أن «العقل الجميل» الذي كان وراء كل منجزات شانون العلمية الرائدة أصابه داء ألزهايمر، وأورده موارد الحتوف في نهاية المطاف عام 2001.
كتاب «عقل لا يهدأ» غير مترجم إلى العربية حتى اليوم، ومن استطاع قراءته (أو حتى قراءة بعض فصوله في أقل تقدير)، فستكون هذه التجربة مصدر خبرة رائعة له، وسيعرف أن صُناع عصرنا المعلوماتي ليسوا مليارديرات من مطوري الأعمال (على شاكلة بل غيتس، وإيلون ماسك وستيف جوبز)، بل هم علماء يجب علينا معرفة شيء عن سيرتهم الفكرية ومنجزاتهم العلمية، وأظن في هذه المعرفة واجباً يسيراً مما يمكن إدراجه تحت عنوان رد الجميل، والاعتراف بفضائل هذه العقول الاستثنائية.
شانون... الرجل الذي صنع عصرنا المعلوماتي
كان شخصية نادرة يصعب إيجاد مثيل لها بين علماء آخرين
شانون... الرجل الذي صنع عصرنا المعلوماتي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة