رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

الدبلوماسي الأرجنتيني قليل الكلام ويرفض الخوض في السياسة

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر
TT

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

بقدر ما هو مليء بالحيوية، فإن رافاييل غروسي، أمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مليء بالمفاجآت. والواقع أن هذا المسؤول الأرجنتيني وجد نفسه في خضمّ معركة بين إيران والمجتمع الدولي فور تسلمه منصبه في ديسمبر (كانون الأول) 2019. ورغم أنه يرفض الخوض في السياسة ويقول إن عمله تقني بحت، فهو يعترف بتأثير السياسة على عمله. وعلى عكس سلفه الياباني الأمين العام السابق يوكيا أمانو، وكان قليل الكلام، فإن غروسي يحب الترويج لعمله عبر الإعلام بشكل مستمر. وهو غالباً ما يدخل غرفة الصحافيين في مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعاصمة النمساوية فيينا، من دون أن يكون في جعبته تصريح معين، بل يقول إنه مستعد للإجابة عن أي سؤال. وهذا، مع أن إجاباته غالباً ما تكون عامة، ولا سيما عندما يتحدث عن إيران. ولكن هذه المقاربة «الحيوية» تقول الكثير عن أسلوبه.
والحقيقة أنه خلال الأشهر القليلة منذ تسلم غروسي منصبه، نجح الرجل في إعادة تسليط الضوء على عمل الوكالة الذرية بشكل أكبر مقارنة مع أيام سلفه... وليس فقط أعمالها المتعلقة بالتفتيش النووي والملف الإيراني. فهو دائم الترويج لنشاطات الوكالات «الإيجابية»، مثل تلك المتعلقة بالطاقة البديلة بهدف تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون لمواجهة التغير المناخي، أو نشاطات متعلقة باستخدام الطاقة النووية في الطب ومكافحة الأوبئة العالمية في المستقبل بناءً على ما يشهده العالم بسبب جائحة «كوفيد - 19». غير أن هذه «الحيوية الإيجابية»، كما يقول بعض منتقديه، تشتت تركيزه بعيداً عن العمليات الأهم للوكالة، وهي المتعلقة بعمليات التفتيش لضمان الطاقة النووية السلمية خاصة في إيران.
إلا أن غروسي نفسه يبدو واثقاً من قدرته على إدارة كل هذه الملفات بنجاح في الوقت نفسه.
من تابع مسيرة رافاييل غروسي (60 سنة) منذ انتخابه أمين عام المنظمة الدولية للطاقة الذرية، لم تغب عنه ملاحظة الحيوية الكبيرة التي حملها معه للمنصب، كما يقول أحد الصحافيين الذين يغطون بشكل دائم أعمال الوكالة في فيينا. لذلك؛ لم يتفاجأ هؤلاء عندما سافر غروسي إلى طهران يوم 21 فبراير (شباط) الماضي، بمبادرة شخصية منه وفي اللحظات الأخيرة «لمحاولة إنقاذ إيران من نفسها»، وذلك بعدما هددت بوقف التعاون مع المنظمة يوم 23 فبراير الماضي ما لم ترفع واشنطن العقوبات عنها.
هناك، في العاصمة الإيرانية، أجرى غروسي مفاوضات منهكة استمرت لـ11 ساعة مع المسؤولين الإيرانيين. وعاد بعدها إلى فيينا ليعقد مؤتمراً صحافياً فور وصوله إلى المطار، وفيه أطلع الصحافيين على أنه توصل إلى «اتفاق مبدئي» مع إيران لإكمال عمليات التفتيش لمدة ثلاثة أشهر إضافية. وهي في واقع الأمر فترة يعطي خلالها المجال للاعبين السياسيين بالتفاوض على إنقاذ الاتفاق النووي، والإبقاء بالتالي على عمليات التفتيش.
ثم، بعد أقل من أسبوعين من عودته من طهران، أثار غروسي مفاجأة أخرى بتأجيل انفجار الأزمة بين إيران والمجتمع الدولي للمرة الثانية خلال أيام. وحينذاك كانت الدول الأوروبية تعد لتقديم مشروع قرار مع الولايات المتحدة أمام مجلس المحافظين التابع للوكالة تدين فيه إيران لخفيضها تعاونها مع الوكالة، وكانت تلك خطوة نادرة للمجلس وذات دلالات كبيرة.
- مفاوض بارع
في المقابل، كانت إيران تهدد من جديد بوقف تعاونها مع الوكالة، بل وحتى وقف الاتفاق التقني الذي توصلت إليه مع غروسي قبل أيام، في حال صدرت إدانة بحقها من مجلس المحافظين. ومجدداً، عشية موعد تقديم مشروع القرار، دعا غروسي إلى مؤتمر صحافي عقده على عجل ليعلن فيه أنه توصل إلى اتفاق مبدئي مع إيران لإكمال المشاورات معها في مطلع أبريل (نيسان) لتوضيح المسائل العالقة، وأنها أكدت له استعداها الكامل للتعاون. وبذلك؛ قال غروسي لم تعد هناك حاجة إلى بيان إدانة من قبل مجلس المحافظين. وعندما سئل لماذا يختلف «الوعد» الإيراني هذه المرة عن سابقيه، لم تكن لدى الأمين العام إجابة إلا بأن عليه منح إيران «فرصة» مع أن النتيجة قد لا تكون مختلفة في النهاية. وتابع أنه بالنسبة إليه، فوظيفته هي الإبقاء على «قنوات التواصل حيّة».
ولكن، مقابل محاولات غروسي هذه منح الإيرانيين فرصة وراءها فرصة لإثبات «حسن نياتها» فيما يتعلق ببرنامجها النووي، فهو لا يتردد من جهة أخرى في الضغط عليها واستخدام كامل نفوذه انطلاقاً منصبه كأمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحقاً، كانت من أولى مبادراته بعد انتخابه للمنصب، الضغط على إيران كي تسمح للمفتشين الدوليين بدخول مواقع سرية تشتبه الوكالة بأنها شهدت نشاطات نووية غير معلن عنها. وعندما لم يلق غروسي أي تجاوب من السلطات في طهران، لجأ إلى مجلس المحافظين في الوكالة ورفع إليه تقريرا مفصلا عن «عرقلة» إيران عمل المفتشين. ودفع هذا التقرير بالمجلس لتبني أول قرار إدانة ضد إيران منذ عام 2012.
ولم تمض أيام على قرار الإدانة هذا، حتى أعلن غروسي أن إيران سمحت بالفعل للمفتشين بدخول موقعين سرّيين من أجل أخذ عينات منها وتحليلها لمعرفة النشاطات التي شهدتها. وتبين لاحقاً بأن المفتشين عثروا على آثار يورانيوم غير مخصّب؛ ما يدل على أنه كانت هناك نشاطات نووية لم تعلن عنها إيران في مخالفة صريحة لـ«اتفاق فيينا»، رغم إنكارها المستمر للأمر.
اعتبر هذا الإنجاز نصرا بيّنا لغروسي، خاصة، أنه نجح بدفع إيران إلى الرضوخ في مكان حيث لم ينجح سلفه أمانو، الذي لطالما واجه اتهامات بأنه لا يضغط بشكل كافٍ على إيران للكشف عن ماضيها النووي. ومعلومٌ أن الولايات المتحدة تحث منذ سنوات الوكالة الدولية للضغط على إيران للكشف عن نشاطاتها النووية السرّية في مواقع عدة، منها موقع توركوز آباد بمحيط العاصمة طهران، الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في عام 2018، بأنه «موقع نووي سرّي».
- السياسة... و«كوفيد - 19» والطاقة البديلة
من ناحية ثانية، رغم أن رافاييل غروسي يعتبر نفسه «تقنياً» فهو لا يتردد في لعب الورقة السياسية لتحقيق أهدافه. ومثلما انتزع قرار إدانة من مجلس المحافظين لكي يحقق هدفه بدخول مواقع إيران السرية، نجح قبل ذلك بالحصول على تأييد الولايات المتحدة لتوليه منصب الأمين العام. إذ الرجل الآتي من الأرجنتين والذي رشحته دولته للمنصب، كان ينافس الروماني كورنال فيروتا الذي كان مقرباً من أمانو، وفاز في الجولة الثانية بفارق صوت واحد فقط.
ومنذ فوزه، حرص غروسي على تجنب تركيز جهوده على «العمل السلبي» للوكالة، أي عمليات التفتيش والمراقبة النووية، بل راح يطلق مبادرات تتعلق بالتكنولوجيا النووية الطبية والبيئية وغيرها. وفي خضم أزمة جائحة «كوفيد - 19»، التي رفض غروسي أن تقيد تحركات المفتشين وعملهم، فإنه أطلق مبادرة طموحة سماها «زودياك» تهدف لاستخدام التكنولوجيا النووية لمواجهة الأوبئة في المستقبل وتدمير الفيروسات التي تشكل تهديداً قبل انتشارها. وقال عن المبادرة لمجلة «فورين بوليسي»، أنه «بحلول الصيف ستكون الوكالة جاهزة لتسليم معدات وتأمين تدريب لمناطق أساسية في أفريقيا وآسيا ودول حوض الكاريبي وأميركا اللاتينية».
ومبادرة غروسي هذه تبني على جهود سابقة للوكالة لبناء شبكة تساعد الدول على تحسين قدرات المختبرات للكشف المبكر عن الأمراض التي تهدد الثروة الحيوانية والصحة العامة ومكافحتها. وفي خضم إطلاق هذه المبادرة في فبراير الماضي، كانت أزمة مع إيران تلوح في الأفق مع اقتراب تاريخ 23 فبراير الذي حددته طهران لنفسها لوقف التزاماتها النووية في حال لم تعد واشنطن إلى الاتفاق وتبادر إلى رفع العقوبات.
وبينما كان غروسي يتلهى بمشروع «زودياك»، كانت الأزمة تقترب من الانفجار. غير أنه، كما سبقت الإشارة، تدارك الأمر قبل يومين بسفره المفاجئ إلى طهران وحصوله على اتفاق مؤقت أجل الانفجار. وهذا بالنسبة إليه، دليل، على أن بإمكان الوكالة فعلاً أن تتعاطى مع كل التحديات من دون أن تؤثر واحدة على أخرى. وهو دائماً يقول بأن «الوكالة الدولية لا تتوقف عن العمل لدقيقة واحدة». وبالفعل، في أوج أزمة «كوفيد - 19» في النمسا، ورغم إغلاق المؤسسات والعمل من المنازل، كانت الوكالة الدولية ما زالت تستقبل الصحافيين والموظفين داخل مقرها، إلى أن دفعت الإصابات المتكررة لطاقمها بالفيروس الوكالة إلى تخفيف العمل... ونقله إلى خارج جدار المبنى.
في أي حال زاد هذا الفيروس من إصرار رافاييل غروسي على العمل أكثر وتوسيع أفق الوكالة لتحارب الأوبئة. وهو يقول، إنه عندما بدأ الفيروس في الانتشار لجأ إلى فريق العلماء والخبراء لدى الوكالة وطلب رأيهم في كيفية مساهمة الوكالة بمكافحة ما تحوّل بالفعل إلى جائحة. وهكذا جاءت فكرة التواصل مع شبكة مختبرات بيطرية لتعزيز التعاون وتمكنيهم من الكشف عن فيروسات حيوانية خطيرة بشكل أسرع في المستقبل، وتدميرها قبل انتشارها.
من ناحية ثانية، يركز غروسي كذلك على الترويج للطاقة النووية كبديل عن الطاقة البترولية التي تلوث الكرة الأرضية وتساهم في التغير المناخي. وإبان إدارته الوكالة، أشرف على انتهاء العمل في معمل البراكة الذي يولّد الطاقة النووية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليصبح المعمل الأول من نوعه في العالم العربي. وهو الآن يعمل مع المملكة العربية السعودية التي تطور معامل نووية لتوليد الطاقة الكهربائية.
النشأة والمسيرة
ولد رافاييل غروسي يوم 29 يناير (كانون الثاني) 1961، في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وهو متزوج وأب لـ9 أطفال، بحسب ما تقول سيرته الذاتية على موقع الوكالة الرسمي.
تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة الباباوية الكاثوليكية في الأرجنتين، حيث حاز شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية. ولاحقاً تخرّج في المعهد العالي للدراسات والتنمية الدولية في جنيف بسويسرا حاملاً دكتوراه في العلاقات العامة والتاريخ والسياسة الدولية. ودخل فور تخرجه السلك الدبلوماسي في الأرجنتين خلال منتصف الثمانينات عندما كانت البلاد قد خرجت للتو من الحكم العسكري الديكتاتوري. ولعب دوراً في اهتمام غروسي بقضايا مكافحة الانتشار النووي، أن بلاده تحت الحكم العسكري حصلت على أسلحة نووية تخلت عنها بعد سقوط الديكتاتورية وبدء مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية عام 1983. وعن هذا الجانب يقول، إن ذلك كان درساً للخطر الذي يمكن أن تشكله التكنولوجيا المتطورة عندما تقع في الأيدي الخطأ. ثم بين عامي 1997 و2000 كان غروسي رئيس فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة والمعني بسجل الأسلحة الدولية، وشغل بعد ذلك منصب مستشار الأمين العام المساعد للأمم المتحدة بشأن نزع الأسلحة.
عام 2002 انضم غروسي إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كرئيس موظفين في البداية، وبقي في المنصب حتى عام 2007. وفي نطاق عمله هذا، زار مرات عديدة مواقع نووية في كوريا الشمالية، وشارك في الاجتماعات التي سبقت التوصل لاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي عام 2015. وشغل أيضاً منصب نائب أمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين العامين 2010 و2013، قبل أن تسميه رئيسة الأرجنتين - آنذاك - كريستينا فيرنانديز كيرشنير سفيراً إلى النمسا وممثلاً للأرجنتين في الوكالات الدولية التابعة للأمم المتحدة في فيينا.
وصول غروسي إلى قيادة الوكالة عام 2019، كان طموحه منذ سنوات، وبتحقيقه أصبح أول أميركي لاتيني يشغل هذا المنصب. وتجدر الإشارة، إلى أنه عادة تنتهي ولاية الأمين العام بعد 4 سنوات، ولكن لم يسبق لأحد قاد الوكالة في السابق أن غادر بعد ولايته الأولى باستثناء أمينها العام الأول. وعندما توفي يوكيا أمانو – سلف غروسي – فإنه كان في منتصف ولايته الثالثة. ولذلك؛ فإن بقاء غروسي على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد يستمر لسنوات، يطمح خلالها هذا الدبلوماسي الأرجنتيني لإحداث «ثورة» تكنولوجية داخل الوكالة. ولكن يبقى أن نرى إلى أي مدى سينجح باللعبة السياسية مع إيران، وبإبقائها على التزاماتها مع الوكالة.
زيارته المقبلة إلى طهران، ستكون بلا شك، امتحاناً جديداً له ولمدى قدرته على التلاعب بين السياسة ووظيفته «التقنية» التي حددها لنفسه.


مقالات ذات صلة

روسيا وإيران توقعان اتفاقية تتضمّن تطوير «تعاونهما العسكري»

شؤون إقليمية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يحضران حفل توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين في الكرملين بموسكو 17 يناير 2025 (إ.ب.أ)

روسيا وإيران توقعان اتفاقية تتضمّن تطوير «تعاونهما العسكري»

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم الجمعة، إن موسكو تدرس بناء وحدات جديدة للطاقة النووية في إيران.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الملياردير الأميركي إيلون ماسك (رويترز)

ماسك ينصح ألمانيا بالعودة إلى الطاقة النووية

نصح الملياردير التقني الأميركي إيلون ماسك ألمانيا بالعودة إلى الطاقة النووية وتوسيع نطاق استخدامها بشكل كبير.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أوروبا إطلاق صاروخ خلال تدريبات الجبهة الديناميكية العسكرية لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة في أوكسبول بالدنمارك 30 مارس 2023 (رويترز)

رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن: نحتاج إلى التحدث أكثر عن الردع النووي في أوروبا

دعا رئيس مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن، كريستوف هويسجن، إلى التحدث أكثر عن الردع النووي في أوروبا.

«الشرق الأوسط» (برلين)
آسيا شاشة تعرض إطلاق كوريا الشمالية صاروخاً باليستياً عابراً للقارات خلال برنامج إخباري (أ.ب)

سيول: عقوبات على 15 كورياً شمالياً بسبب البرامج النووية والصاروخية لبيونغ يانغ

سيول ستفرض عقوبات مستقلة على 15 عاملاً كورياً شمالياً في قطاع تكنولوجيا المعلومات وكيان واحد، بسبب أدوارهم في الأنشطة الإلكترونية غير المشروعة.

«الشرق الأوسط» (سيول)
أوروبا صورة مركبة تابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية تعرضت لأضرار بسبب غارة بطائرة مسيرة على طريق في منطقة زابوريجيا في أوكرانيا 10 ديسمبر 2024 (رويترز)

مسيّرة تستهدف مركبة لوكالة الطاقة الذرية قرب محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا

قال مدير الطاقة الذرية إن مركبة تابعة للوكالة تعرضت لأضرار جسيمة بسبب هجوم بمسيرة على الطريق المؤدي إلى محطة زابوريجيا للطاقة النووية في أوكرانيا، الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (كييف)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.