ما لم يتنبه إليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب هو أن محاولة عزله الأولى تركت وقعاً كبيراً، حتى على قواعده الشعبية. ترمب كان واثقاً من فوزه في الانتخابات التي أُجريت يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وكذلك الحزب الجمهوري، الذي كان «استسلم» لقبضة رئيسه بأمل الفوز الموعود، عندما اطلع الأميركيون على حقيقة ابتزازه للرئيس الأوكراني لتلفيق «أوساخ» لمنافسه جو بايدن، مقابل المساعدات العسكرية. لكن نتائج الانتخابات الكارثية، ثم خسارة الجمهوريين مقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، أكثر الولايات ولاء لهم، كانت تطورات صادمة. ذلك أن ما جرى في انتخابات الإعادة التي نظمت في تلك الولاية الجنوبية بعد شهرين من خسارة الجمهوريين معركتي الرئاسة ومجلس النواب، اختصر المشهد السياسي الذي صوت عليه الأميركيون في 3 نوفمبر، بما هو تصويت على شرعية ترمب السياسية.
بعيداً عن الوصف الكلاسيكي لـ«تاريخية» محاكمات الرؤساء الأميركيين، لا شك في أن محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للمرة الثانية بهدف عزله - فضلاً عن كونها الأولى لمسؤول غادر السلطة - تأتي محاولة لنزع الشرعية السياسية عبر «عزله» لحرمانه مستقبلاً، ليس فقط من لعب دور سياسي، بل ومن الانقلاب على المنظومة السياسية التي تحميها «مؤسسة» سلطة عماد وجودها وعلتها هو ضمان التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.
ورغم محاولة الحزب الجمهوري وفريق المدافعين عن ترمب، تصوير ما حدث ويحدث بـ«مسرحية المحاكمة السياسية»، فهذا الاتهام لا ينتقص من شرعيتها في نهاية المطاف. فمحاكمة رؤساء الدول، مهما كانت الدوافع والأسباب التي تقف وراءها، لا بد أن تتحول إلى محاكمة سياسية لعهودهم وسياساتهم وأحزابهم وتياراتهم.
- «كوفيد - 19»... وسوابق محاولات العزل
لا شك أن تداعيات جائحة «كوفيد - 19» الكارثية الصحية والاقتصادية لعبت دوراً مهماً في هزيمة ترمب. إلا أن فشل إدارته في إعداد خطة وطنية لمواجهة الجائحة، كشف أيضاً عن قصور سياسي على رأس أكبر وأغنى دولة في العالم. إذ نجح الديمقراطيون ومعهم «مؤسسة» السلطة في واشنطن، بتحويل أحداث 6 يناير (كانون الثاني) عندما اقتحام أنصار ترمب مبنى «الكابيتول» (مقر مجلسي الكونغرس)، إلى معركة سياسية عنوانها «عزل رئيس خرج من السلطة» لإنهاء حيثيته السياسية، وهذا بمعزل عن نتائج التصويت التي لا تزال تشير إلى تعذّر الحصول على 67 صوتاً من أعضاء مجلس الشيوخ لإدانته.
في المقابل، فتحت محاكمة ترمب الثانية نقاشاً سياسياً وحزبياً ودستورياً عن تاريخية محاكمة رئيس «مذنب» وجدواها. فإذا كانت تجارب العزل التي شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها لم تؤد إلى إقالة أي رئيس من منصبه بسبب تمتعه بحماية حزبه، فما الجدوى من تكرار هذه التجارب؟ وما الذي يمكن تحقيقه في محاكمة ترمب الثانية أكثر من إظهار أن التحزب هو الذي يعمل وليس الدستور؟
قبل ترمب كانت هناك أربع محاولات عزل رئاسية منذ التوقيع على الدستور الأميركي عام 1787. ولم تؤد أي منها إلى الإقالة، ولكن في المقابل كان لكل منها نتائج سياسية كبيرة. فبعد فشل محاولة إقالة الرئيس أندرو جونسون عام 1868، فإنه أخفق في الترشح والحصول على ولاية رئاسية الثانية. وفي عام 1974 لم يُقل الرئيس ريتشارد نيكسون لكنه استقال تحت وطـأة فضيحة «ووترغيت» الهائلة. وفي عام 1998، أخفق الجمهوريون في إزاحة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، وبدلاً من ذلك، استقال خصمه الأكبر في ذلك الوقت رئيس مجلس النواب الجمهوري نيوت غينغريتش، وكذلك خلفه بوب ليفينغستون الذي اعترف بعلاقة غرامية خارج نطاق الزواج! ثم إن إدارة كلينتون كانت أول إدارة تفوز بمقاعد أكثر في الكونغرس في السنة السادسة من ولايته منذ إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيراً، في عام 2020 فشلت عملية إقالة ترمب لكنه خسر الرئاسة، وفقد حزبه السيطرة على مجلس الشيوخ.
مع هذا، فإن النقاش الذي لا يزال مستمراً داخل أروقة مجلس الشيوخ، لا يقتصر فقط على «دستورية» محاكمة رئيس خرج من السلطة، وهي القضية التي حُسمت بتصويت المجلس على صحتها، مع انضمام 6 شيوخ جمهوريين إلى 50 ديمقراطياً. بل طُرح تساؤل آخر عما إذا كان اتهام الرئيس باقترافه «جرماً»، هو العلة الوحيدة التي تجيز محاكمته وعزله؟ أم أن سوء استخدامه للسلطة هو سبب آخر وأساسي كافٍ لعزله؟
لقد رفع محامو ترمب في دفاعهم عنه حجة تقول إن إدانته وحرمانه من تولي أي منصب في المستقبل من شأنه أن ينتهك حقوقه في التعديل الدستوري الأول، الذي يرقى إلى معاقبته على حرية إبداء رأيه. وقال محاميه ديفيد شوين، إن إدانة ترمب «تعرّض للخطر أي متحدث سياسي، وهو ما يتعارض مع كل ما نؤمن به في هذا البلد». غير أن هذا الادعاء قد يكون خاطئاً، بحسب العديد من القانونيين، الذين يجادلون بأنه حتى لو كان «التعديل الأول» (من الدستور الأميركي) يحمي ترمب من المسؤولية الجنائية والتقصيرية عن خطابه في 6 يناير (كانون الثاني) الماضي للحشد الذي اقتحم مبنى «الكابيتول» لاحقاً، فإن ليس له أي تأثير على ما إذا كان بإمكان الكونغرس إدانة واستبعاد الرئيس لسوء السلوك... الذي يقوم جزئياً على خطاب تحريضي، أدى بسرعة وبشكل متوقع، إلى أعمال عنف مميتة.
- النزاهة والمساءلة... والتبعات
واضعو الدستور الأميركي صمموا إجراءات الإقالة كطرق لعزل المسؤولين الفيدراليين الفاسدين. غير أنه استعيض عنها ليحل محلها ما يسمى «عمليات قانون النزاهة العامة الفيدرالي» الذي تفرضه وزارة العدل. وفي كل شهر تعلن وزارة العدل عن إجراءات في نحو عشرين حالة، بحسب إحصاءات رسمية، وشملت أخيراً على سبيل المثال عمدة سابقاً في إقليم غوام الفيدرالي (غرب المحيط الهادئ)، الذي قام بتغييرات وظيفية، عبر ابتزاز ضابط حدود سابق بتهم رشوة. ولكن، مع ذلك بقيت قضية المساءلة وطرقها التي صاغها الدستور حجة قوية تحرك دعاوى إقالة الرؤساء الأميركيين.
غير أن ما يمكن أن تفعله إجراءات العزل في العصر الحديث هو إرسال إشارة قوية إلى الجمهور حول خطورة بعض القضايا. فعندما يقدم مجلس النواب على إقالة الرئيس من منصبه، فإنه يعلن الخروج من ممارسة السياسة العادية إلى التعامل مع حالة طوارئ حقيقية. إنه يرفع سوء استخدام الرئيس المزعوم لسلطته فوق جميع سلطات الكونغرس الأخرى. وفرض مجلس النواب مساءلة الرئيس على مجلس الشيوخ بهدف إقالته يغير التقويم السياسي، ويركز على القضايا التي حرّكت طلب الإقالة وتوضيحها، ويجبر أعضاء مجلس الشيوخ على اتخاذ موقف، إما إدانة الرئيس أو تبرئته.
ولأن الاتهام عمل غير عادي، فقد تنعكس آثاره سلباً أو إيجاباً ليس فقط على مؤيدي الرئيس، بل وعلى الأميركيين عموماً، كما حصل بعد محاكمة كلينتون. إذ رفضت غالبية كبيرة من الشعب الأميركي - يومذاك - القضية التي رفعها الجمهوريون لعزله. وبعد موافقة مجلس النواب الذي كانوا يسيطرون عليه على بنود الإقالة، ارتفعت شعبية كلينتون إلى مستوى بلغ 73 في المائة، خلال استطلاع مشترك لمحطة «سي إن إن» و«يو إس إيه توداي» و«غالوب»، مقابل انخفاض نسبة تأييد الجمهوريين إلى 31 في المائة.
- بين الجريمة وتجاوز السلطة
على النقيض من ذلك، كانت محاكمة ترمب الأولى مدعومة بغالبية ثابتة، وإن كانت ضيقة، إذ أدان غالبية الأميركيين محاولة ابتزاز الحكومة الأوكرانية للمساعدة في إعادة انتخابه، بينما كان ترمب وأنصاره يأملون - بل، ويثقون - في أن المساءلة ستأتي بنتائج عكسية في عام 2020، كما جرى عام 1998. لكن آمالهم خابت، وانتهت العملية بتصويت معظم الأميركيين على أن ترمب ارتكب جرائم تستوجب عزله من منصبه، ليس فقط في محاكمته الأولى، بل وفي محاكمته الثانية المستمرة فصولها، التي حوَّلته إلى أول رئيس أميركي يتعرّض مرتين للمساءلة والمحاكمة في التاريخ.
للعلم، كلينتون لم يقترف في حينه «جرماً» ولم يستغل سلطته لحسابات سياسية، كما أن الرئيس الأسبق رونالد ريغان لم يُعزل على خلفية فضيحة «إيران كونترا»، ولم يتعرض الرئيس الأسبق جورج بوش الابن للمساءلة بسبب «الحرب على الإرهاب» و«حرب العراق» التي أدت إلى خسارة الجمهوريين مجلسي النواب والشيوخ عام 2006. أيضاً لم يتعرض الرئيس الأسبق باراك أوباما للمساءلة رغم حماسة جمهوريي «حفلة الشاي» اليمينيين المتشددين إثر خسارة الديمقراطيين مجلس النواب عام 2010 ومجلس الشيوخ عام 2014، على خلفية ملفات المهاجرين والانسحاب من العراق وظهور تنظيم «داعش».
غير أن ما فعله ترمب، هذا العام، حسب الادعاء، هو تحريض حشود من أنصاره على مهاجمة مقر الكونغرس، على أمل قلب هزيمته في الانتخابات الرئاسية. واستخدم المدّعون في مجلس النواب دلائل بالصوت والصورة، عن ترمب حين قال: «إذا لم تقاتل مثل الجحيم، فلن يكون لديك بلد بعد الآن»، لإثبات دوره في المسؤولية عن مهاجمة مبنى «الكابيتول»، والتسبُّب في مقتل 5 أشخاص. كذلك قدّموا دليلاً قاطعاً عن محاولاته الضغط على مسؤولي الانتخابات في الولايات الجمهورية «لإيجاد» أصوات لعكس نتائج الانتخابات لمصلحته.
رغم ذلك قد لا تشكل هذه الأدلة سبباً كافياً لحض مجلس الشيوخ، أو على الأقل لحض أعضائه الجمهوريين، على إدانة ترمب، مثلما امتنعوا عن إدانته في محاكمته الأولى. لكنها كانت كافية لإظهار أن انتخابات 2020 في جورجيا جاءت استفتاءً على مخالفات ترمب قبل كل شيء، وليس على ما حاول الجمهوريون تصويره على أنه نتيجة الفشل في مواجهة تداعيات «كوفيد - 19». ذلك أن تبرئته الأولى أدت فقط إلى تأجيل محاسبته السياسية وليس تجنبها. وهو، على أي حال، ما دفع حتى أشد المدافعين عن ترمب إلى الاعتراف بهذه الحقيقة. إذ كتب مارك هامنغواي في موقع «رييل كلير بوليتكس» قائلاً: «بلغة الأرقام، فإن جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة لأنه فاز بولايات أريزونا وجورجيا وويسكونسن بإجمالي 43 ألف صوت. لكنه يدين أيضاً بفوزه إلى الأساس الذي وضعه الديمقراطيون وحلفاؤهم الإعلاميون قبل سنة واحدة، خلال أول محاكمة لعزل ترمب بسبب مطلبه المزعوم المرتبط بشروط أن تقوم الحكومة الأوكرانية بالتحقيق في فساد مزعوم يتعلق بنجله هنتر بايدن».
في محاكمته الأولى عام 2020، اعتمد ترمب على دعم غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وربما يحصل على تبرئته الثانية هذا العام أيضاً. لكن هناك من يقول إن الضرر عليه وعلى الحزب الجمهوري ربما يكون قد وقع. فإذا كان هدفه الأول هو العودة إلى الرئاسة عام 2024. فإن الملفات المفتوحة ضده قد تجعل من شبه المستحيل حصوله على إجماع، ليس فقط من الأميركيين عموماً الذين صوتوا ضده بأكثر من 7 ملايين صوت، بل ومن حزبه الجمهوري أيضاً. فترمب، لم يواجه فقط انشقاق 6 من الشيوخ الجمهوريين في تأييد محاكمته وفي تأكيد دستوريتها، بل وتراجع تأييده بين الجمهوريين إلى 36 في المائة من الذين لا يزالون يقولون إن «ترمب لم يرتكب أي خطأ»، بعدما كانت نسبتهم 56 في المائة في محاكمته الأولى بحسب الاستطلاعات.
أضف إلى ذلك أن الضرر قد أصاب أيضا قدرته على إثبات أنه هو القوة الرئيسية المهيمنة على الحزب، حين أدان كبير الجمهوريين السيناتور ميتش ماكونيل وغيره من قيادات الحزب سلوكه، وادعاءاته عن تزوير الانتخابات. وبجانب ذلك، رفض نواب الحزب الجمهوري إقالة النائبة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، من موقعها كثالث أكبر مسؤول جمهوري في مجلس النواب بسبب تصويتها على عزله. وأخيراً، حتى قدرة ترمب على مواصلة إبعاد الملاحقات القضائية عنه، باتت أمراً مشكوكا به في ظل استعداد عدد من محاكم الولايات لرفع دعاوى مالية وتجارية وضريبية ضده.
ما ستثبته المحاكمة الثانية لترمب، أن الجمهوريين ليسوا مستعدين للاتحاد ضده، لكنهم غير متحدين على تبرئته أيضاً. وهذا ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل الحزب خلال انتخابات عامي 2022 و2024 أيضاً.